كتب محرر الشؤون العربية:
الفوضى الخلاقة، أو الفوضى التي تخلق شروط النظام الأمريكي المطلوب (الشرق الأوسط الجديد) لم تجد طريقها الى لبنان بعد، وإن كانت النذر التي تشير إليها بدأت تتكثف إثر جولة وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليسا رايس لأمرين: الأول تطويق تداعيات انتصار فكرة المقاومة في لبنان، وعودة الوعي الى الشارع العربي، والثاني تكريس اصطفاف جديد - قديم للقوى في المنطقة برزت ملامحه مع الهجوم الإسرائيلي - الأمريكي، على لبنان ومقاومته·
المطلوب حسب الأرضية التي انطلق منها هذا التحرك الجديد، باتفاق أنجلو - أمريكي، معالجة الوضع برمته على قاعدة تحالف مصلحي بين عدة نظم عربية وجدت نفسها شاءت أم أبت في الخندق الإسرائيلي، وصحت حكوماتها على نفسها وهي تطلق النار على مواقع المقاومة اللبنانية، أو العربية بالأحرى، إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن كل عربي صحا من جانبه على حقيقة أن معركة الدفاع عن لبنان هي معركته أيضا·
هذا الوضع لم يعد مريحا بالنسبة لبعض أصحاب الخندق الذي خلقته أنظمة دخلته منذ اتفاقياتها مع إسرائيل وماتبعها من تعاون أمني واقتصادي وسياسي (الأردن ومصر) وأنظمة وجدت نفسها فيه بحكم التهديد بتجزئتها والتلويح بنقل نظرية "الفوضى الخلاقة" إلى عواصمها·
تقوم الأرضية الجديدة على قلب الأولويات التي سارت عليها عملية تصفية بؤر المقاومة العربية، الفلسطينية واللبنانية، حتى الآن، أي الانطلاق من فكرة صراع فلسطيني - إسرائيلي - وفكرة صراع لبناني - إسرائيلي كل على حدة، والبدء من قضية الصراع العربي - الإسرائيلي، أو الدخول الى الجزئيات من باب الكليات، ومن هنا تطابقت جزئىا، وبسبب صلابة المقاومة اللبنانية، ودخول إيران كعنصر مساند للموقف العربي المقاوم، رؤية بلير - بوش بضرورة معالجة جوهر الصراع، أي حل القضية الفلسطينية بهذا الأسلوب الجديد وماظلت تلح عليه أنظمة ترى نفسها أبصر بالمصالح الأنجلو - أمريكية من أصحابها، وهي أن تقدم الولايات المتحدة وحلفاؤها شيئا على الأقل يبرر لهذه الأنظمة إطلاق الرصاص من الخندق الإسرائيلي إذا لزم الأمر·
الاتصالات السرية التي تكثفت أخيرا بين أطراف هذا الخندق، وجاءت جولة وزيرة الخارجية الأمريكية لتضع أمامها على الطاولة جدول الأعمال العملي، تنصب على استكشاف مايمكن أن يحظى به موقف أصحاب الخندق من تقدير وجوائز في حالة وضع حصان ما يسمى عملية السلام وراء العربة، أي البدء بإقامة علاقات تعاون سياسي واقتصادي وأمني مع إسرائيل قبل أن تسحب جنديا واحدا من الأراضي المحتلة في العام 1967، أو تعترف مجرد اعتراف لفظي بالفلسطينيين كشعب له حق في تقرير مصيره، لا اعتباره كما الحال الآن، مجرد عرب طارئين على "أرض إسرائيل" من النهر الى البحر·
السؤال الذي ردده بعض المحللين هو ما إذا كانت أطراف الخندق العربية، التي تسمى في القاموس الأمريكي بالأطراف المعتدلة، مستعدة لارتداء أحزمة انتحارية ناسفة من هذا النوع؟
ما تسرب عن اجتماعات رايس، والخلفية الفكرية لجدول الأعمال المطروح أمام هؤلاء، يسير في اتجاهات انتحارية بالفعل، فعلى رأس هذا الجدول، وهو أمر لا تخفيه حكومة بوش، إطلاق العنان لحملة مقولة صراع الدول السنية والشيعية، مترافقة مع حملة مقولة صراع المسيحية والمسلمين، وكل ما يقع في الطريق من أدوات، يسقطها الحظ والمصادفة، أو تسقطها تداعيات هذه التفجيرات·
ويبدو أن دخول دول الناتو، وإن تحت علم الأمم المتحدة الذي لا يبرز الى العيان حتى، على خط تطويق المنطقة، يراد منه أن يكون أحد عناصر الطمأنينة لدى "الانتحاريين" المعتدلين، في لبنان وفلسطين وبقية دول المنطقة العربية، بأن ساحة المعركة لن تتوسع، وستقتصر على مذابح طائفية يقتل فيها العربي - العربي، من دون خشية أن يتدخل عنصر غريب يهدد بإفساد هذه اللعبة، لعبة الفوضى المأمولة، أو الرهان الذي تطرحه حكومة بوش في آخر ذروات ازدهارها كما يبدو، قبل أن تلجمها الانتخابات النصفية للكونغرس في نوفمبر القادم·