كتب محرر الشؤون المحلية:
مع بداية كل فصل تشريعي جديد تعود قضية البدون الى السطح مرة أخرى، وفي كثير من المرات السابقة كانت تعود إلى آخر قائمة اهتمام النواب بمجرد مرور بعض من الوقت والتعامل مع الواقع اليومي لمعاناة هؤلاء الناس·
هذه المرة تعود القضية الى دائرة الضوء بعد أن قامت الحكومة بحملة تصريحات وإجراءات استباقية للتخفيف من حجم الأزمة، فقد نقلت الصحافة اليومية عددا من التصريحات للنائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية والدفاع الشيخ جابر المبارك يعد فيها بمعالجة هذا الملف بشكل إنساني وبسرعة أيضاً، كما صرح الشيخ أحمد النواف الوكيل المساعد في الوزارة في أكثر من مناسبة عن طبيعة الإجراءات وعن ضرورة تغيير أسلوب ضباط وأفراد الداخلية في التعامل مع المنتمين الى هذه الفئة·
من جانبه قام مجلس الأمة بتشكيل أول لجنة برلمانية لتولي هذا الملف سعت للاجتماع بوزير الداخلية وصدر عن عدد من أعضائها تصريحات تحمل اقتراحات تفصيلية حول ما يمكن أن تكون عليه الحلول المتوقعة·
إلا أن التجارب السابقة للتعامل مع هذه المشكلة المزمنة والتي يعاني منها عشرات الآلاف من البشر وأبناؤهم وأحفادهم من دون بارقة أمل لحل يعالج الجانب الإنساني أولا ثم يتولى الجوانب السياسية والقانونية والسيادية بعد ذلك في إطار خطة وآلية واضحة وشفافة تطبق من دون استثناءات أو تجاوزات تفرغها من ضوابطها، تلك التجارب لا تزال ماثلة أمام أبناء هذه الفئة لدرجة دفعت الكثيرين منهم لليأس من إمكانية الحل، فهل سيختلف الأمر هذه المرة؟
لقد تناولنا في "الطليعة" على مدى عمر الجريدة عرض القضية من جميع جوانبها سواء قبل احتلال الكويت عندما كانت الحكومة تتصرف وكأنها تريد إطالة أمد المشكلة بدلا من حلها، فكلما شاع أن إحدى دول الخليج فتحت باباً لقبول أبناء البدون وتجنيسهم، صرح "مصدر مسؤول" في الحكومة الكويتية بأن لجان الجنسية ستفتح قريباً، ليبقى الناس من دون رحمة الحكومة أو تركهم لرحمة الله تنزل عليهم·
الى أن قررت الحكومة تغيير تعاملها بشكل جذري مع هذه الفئة في أواخر الثمانينات من القرن الماضي عندما شكلت لجنة خاصة قررت في وثيقة سرية (نشرتها "الطليعة" قبل سنتين) اتخاذ العديد من التدابير والإجراءات للتضييق عليهم في كل جوانب الحياة بمنعهم من استخراج بطاقات مدنية بينما يربط كل شيء في حياة الإنسان في الكويت بهذه البطاقة، من تصديق الزواج الى تعليم الأطفال الى التوظيف والطبابة وغيرها، وقيل في حينها إن تلك الإجراءات من شأنها الضغط عليهم ليعترفوا بجنسياتهم الحقيقية!! الى أن جاء الغزو الصدامي واختلط الحابل بالنابل، فبينما وعد البدون المنتمون الى القوات الكويتية المسلحة الذين ساهموا في معركة تحرير الكويت بمعالجة موضوع تجنيسهم بعد التحرير، كما، وُعِد كثير من الذين شاركوا في عمليات المقاومة وشهد لهم رفاقهم الكويتيون سواء استشهدوا أو أعيقوا أو خلافه بمعالجة أمورهم أيضاً، وجد جميع أبناء هذه الفئة أنفسهم متساوين مع الذين تجمعت معلومات لدى السلطات الأمنية عن تعاونهم مع الجيش الشعبي أو وجود علاقة قرابة بينهم وبين من تعاون مع ذلك الجيش، تساوى الجميع في المعاملة عدا عدد محدود من المنتمين للجيش الذين أعيدوا الى عملهم لكن بقيت جميع أمورهم الأخرى معلقة·
ثم تولت لجنة خاصة في وزارة الداخلية فرز المنتمين الى هذه الفئة الى فئات فرعية أحياناً على أساس شبهة التعاون مع المحتل بشكل مباشر أو غير مباشر (قيد أمني) أو على أساس إحصاء 1965 أو حصول اللجنة على معلومات استخباراتية يستدل بها على الجنسية الأصلية، أو إزالة أسماء من يعلنون عن جنسياتهم الأصلية سواء كانت أصلية بالفعل أو تلك التي حصلوا عليها بدفع المال للدول التي يسهل الحصول على جنسياتها أو جوازاتها بمن فيهم من حصل على جوازات مزورة ليجد نفسه بعد انتهاء مدة الجواز أنه لم يعد "بدون" ولا صاحب جنسية كما عاش لمدة عام فقط·
استمر الوضع واستمرت سياسة الحكومة وكل وزاراتها ومؤسساتها بالتضييق على البدون الى أن طفت على السطح كارثة انتشار الأمية بين أطفالهم عندها تنادى بعض الناشطين والناشطات وعدد من أعضاء مجلس الأمة لمعالجة الأمر الى أن توصلوا الى تأسيس صندوق خيري يتولى دفع مصاريف الدراسة في المدارس الخاصة، تلك كانت بداية الانفراج·
أما الآن وبعد أن فتح باب التجنيس لأعداد محددة من المتقدمين بطلب الجنسية سواء من البدون أم من حملة جنسيات أخرى استبشر الناس خيراً في بداية معالجة هذه الأزمة الإنسانية المستمرة بالتضخم، إلا أن انعدام الآلية الواضحة في تجنيس بعض من حصلوا على الجنسية خلط الأمور لدرجة لم يعد أحد من المنتمين لهذه الفئة يعرف ما إذا كان يقع ضمن دائرة الممكن حصولهم على الجنسية أم لا، وانتشرت إشاعات دفع الأموال للحصول عليها وربما استغل ذلك الأمر عدد من المدعين، كما سعى كل من لديه معرفة بنائب أو مرشح محتمل لمعرفة ما إذا كان اسمه ضمن إحدى تلك القوائم·
الآن وفي إطار السعي الى حل جذري ونهائي لهذه المشكلة، لابد من اعتماد سياسة واضحة وشفافة يحدد فيها آلية العمل للمعالجة التي يجب أن تبدأ برفع الظلم والحيف عن المنتمين لهذه الفئة بشكل تام، وأن تفتح أمامهم فرص الحياة الكريمة عن طريق إلغاء جميع الإجراءات التي اتبعت بناء على وثيقة 1987 السرية، وأن تصرف لهم بطاقات مدنية أو بطاقات هوية تمكنهم من الحياة الطبيعية، كما يفترض في سياسة المعالجة أن يتم فيها تحديد الفئات التي من المحتمل حصولها على الجنسية وتلك الفئات التي لا تقع ضمن هذه الدائرة، كي لا يتعلق الناس بأمل يصعب تحقيقه، ثم لابد من تنفيذ هذه السياسة بشكل صارم من دون استثناءات تشعر الآخرين بالغبن·
فهل تنتهي هذه الأزمة الى الأبد أم أننا أمام فصل آخر من فصول الإثارة المرحلية للمشكلة التي تتبعها معالجة جزئية ثم تعود الأزمة الى التكاثر والتضخم مرة أخرى بانتظار فرصة أخرى لإثارة سياسية على حساب مصائر أجيال متعاقبة؟