في عبارة مثيرة للدهشة قال زعيم مؤسس لواحدة من أقدم الحركات اليسارية في أوراقه عن ذكريات مطلع الأربعينيات:
"يمكن القول إن الجماهير في ذلك الوقت كانت مستعدة لأن تستمر في سلك طريقنا، ولكننا لم نكن نعرف إلى أين نقودها"·
إنها عبارة نموذجية توضح عمق الانفصال بين الفكر والفعل الاجتماعي في الحياة العربية الإسلامية عموما حيث الإرادة واللامنهج، وبطبيعة الحال لا وعي نقدياً بالوسيلة والهدف، بمعنى قطيعة بين الفكر ومقتضيات الواقع ومنهجية الإنجاز·
قد نملك الهدف، أمنية تلخصها فكرة تتصف بالعمومية، نسعى من خلالها في ثورة أو إصلاح يغير، إلا أننا لا نملك الإجابة المستمدة من واقع معيشي ومنهجي، أو من الممارسة المنهجية، والنتيجة أن يفاجئنا أو يصدمنا الواقع ونواجه معدمين فكراً ومنهج عمل، يتعامل مع الهدف في آنيته وفي ظاهره الجزئي·
لعل ما تعانيه الأيديولوجيات في العالم العربي الإسلامي بتوجهاتها المتباينة، استخدامها للمنحى السلبي، فهي تمثل أنظمة فكر سياسي مغلقة، في المقابل، ترفض أن تتسامح مع النظريات الأخرى المعارضة لها، وبذلك تكون الأيديولوجية قياساً وكأنها "دين علماني"، يقود إلى اللاتسامح، والرقابة والاضطهاد السياسي·
ورغم أن الليبرالية تعد نظاماً منفتحا للفكر، وهي لا تدعي احتكار الحقيقة، وملتزمة بحرية التعبير والمنافسة المفتوحة على مختلف وجهات النظر، إلا أنها تأخذ مفهوماً مغايراً نسبياً إذا مورست في الحالة العربية الإسلامية·
***
إن القضية تكمن في عجز الأفكار التقدمية والليبرالية في الحالة العربية الإسلامية عن إحداث القطيعة المعرفية الجدلية مع الموروث الثقافي، قطيعة تؤكد الاتصال أولاً والانفصال في ضوء متصل تاريخي اجتماعي، بينما الكائن هي انها اصطنعت قطيعة حضارية ومعرفية زائفة بينما ظلت آلية المعرفة بذاتيتها، وهي آلية سلفية غير علمية وإن عبرت عنها بلغة مغايرة أو مرجعية أيديولوجية مختلفة·
مما يؤدي اتساقا إلى انحصار الخلاف في إطاره السياسي، دون الإطار المعرفي القيمي الجديد الذي يرى من خلاله وجوداً جديداً أو حضارة جديدة لها عدتها المفاهيمية المتميزة والملائمة للتكيف الاجتماعي·
إن الصراع الدائر بين الأفكار التقدمية والليبرالية وبين الفكر الأصولي الأرثوذكسي الممتد، هو في الحقيقة وبحكم التنشئة والتكوين الثقافيين، لا بحكم ذاتية الأفكار التقدمية والليبرالية، عملية إحلال للنظائر، لافتقاره القدرة على نقد الذات، ولانقطاع صلته بمختلف أوجه النشاط والفاعلية الاجتماعية، وبذلك ينتج لدينا ذلك الوعي الزائف، شأن أصحاب هذه الأفكار شأن الحركات الأصولية الإسلامية·
إن مأساة هذه الأفكار التقدمية والليبرالية في الشرق عموماً أنها وقعت في أيدي أصحاب ذهنية أرثوذكسية أو أصولية حرفية تقيس الواقع على النص ولا تنتج المعرفة·
ويؤمن هؤلاء بالطاعة والهيمنة الكارزمية للزعماء وظاهرية ديمقراطية للحوار وقدسية النص·· وبهذا تنضب ينابيع التقدم والإبداع في الإطار المحلي مع استلام الفكر العالمي، وينحصر الجهد والممارسة في إطار تغليب مكاسب جزئية·
***
أقول ما قاله كارل ماركس الشاب إلى أصحاب الذهنية الأرثوذكسية الحرفية "حتى وإن كانت مهمة بناء المستقبل لا تقع على كاهلنا نحن إلا أن ما يتعين أن ننجزه الآن ودورنا الواضح فيه هو أن نشن نقداً لا هوادة فيه ضد الأوضاع القائمة"· |