رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 4 اكتوبر 2006
العدد 1745

قصة قصيرة

مملكة الرجل الوحيد

 

                                     

 

محمد سهيل أحمد

بمفتاح بديل فتحت الباب فصرّ صريراً شرّخ صمت المكان وجدتني بداخل الغرفة التي طالما ألفت وجودنا معاً في الليالي الخاليات، ثمة علي طاولة متقشرة السطح صينية كروم مستطيلة يتوسطها إبريق للشاي· رفعت غطاءه· ألفيته مترعاً لحد الحافة بسائل كمد لونه· تبعثرت بجواره ثلاث ملاعق ووعاء سكر بلا غطاء وفتات خبز متعفن·

ماذا لو أن الرجل لم يرحل بعد؟ ماذا لو عاد دونما توقع واكتشف أمر الاقتحام؟ شعرت بقلق خفي· لم أجد مناصاً من أن أواصل زحفي بدأب نملة مصحوباً برغبة ذئبية حارقة في أن أتم مهمتي المجردة من أيما قدسية على أتم وجه· كانت يدا مدير المدرسة خلف ظهري تدفعان بي إلى الأمام كلما تراجعت قليلاً القهقري· مؤكدا أن هذه الفرصة لن تتكرر أبدا، قلما غادر "رشوان أبو الفتوح" غرفته· ما أن يؤوب من دوام المدرسة حتى يقفل الباب عليه فلا يخرج إلا لأمر طاريء كالذهاب لمسجد الواحة أو ابتياع علبة سردين، كان الاستثناء الوحيد هو مساء كل خميس، كنا نلتقي في غرفتي المجاورة أو في غرفته هو، نلعب الورق أو نتنادم في حين يظل هو من دون بقية الشلة صامتا عدا عبارات مقتضبة يضطر لبثها من حين لآخر··

اغتنمت فرصة سفره بمناسبة الإجازة· بتأليف من مدير المدرسة - المولع بالمقالب وافتضاض الأسرار - عثرت على نفسي في غرفة رشوان الذي ترك من رائحته في كل ركن من أركان الغرفة·· على السرير، على الطاولة على الجدران التي توشك أن تنطقق بصور فتيات وققمم جبلية وسفوح ونمور متوثبة وأخرى في أقفاص وبوسترات أفلام وصور ذائعات الصيت، على جلد ماعز جلسنا معاً ولعبنا الكارتة وارتشفنا عشرات من أكواب الشاي والتهمنا الفول السوداني وسهرنا حتى الفجر· الحقيقة إنني لم أطرح عليه ولو لمرة واحدة ما اضطرم بداخلي من تساؤل فيما إذا كانت الحكايات التي يرويها أبناء الواحة عنه صحيحة أو زائفة· بقي السؤال ماثلا في ذهني حتى اللحظة الأخيرة عندما رحل متأبطا مصيره النهائي فتاته التي اقترن بها مؤخرا والتي يحلوا لبعثهم أن يغيظه بشأنها متسائلاً فيما إذا كانت هبطت عليه من سماوات اعتكافه أو وصلته عن طريق طرد بريدي·· ماذا عن الحكايات نفسها؟ يقولون إن قدراً كبيرا من رصانته كمعلم قد انحسر داخل الصف· صادر يداعب طالبات المدرسة فيسمح لذراعه أن تقرص خدا متوردا· يبدوا أن جانبا من هذه القصص قد وصل لأسماع ذوي الطلبة من لدن أطراف عديدة· جاء آخرون وألقموا موقد الهمس بمزيد من الحطب وتكهن من تكهن بأنه أصبح مصدر ضيق لسطات الواحة بما يطرحه من آراء في أثناء خطب الجمعة· قال في إحدى خطبه (النارية) بضرورة فصل البنات عن الأولاد في الصفوف المدرسية وهو ما دفع بعض الأطراف للتكهن والريبة وهما دريئتا أبناء جلدتي تجاه كل وافد غريب، الإشاعة الأكثر إثارة للجدل انبثقت من مكتب بريد الوحة: - أقسم أغلظ الإيمان أن أكثر من عشرين رسالة قد مرت بين يدي··

- رسائل فقط

- مع صور وبطاقات بريدية··

- كم واحدة بالله عليك؟

- عمليا أنا غير قادر على أن أذكر إحصائىة دقيقة لعدد الرسائل فأنا أعمل بنظام المناوبة··

وجدتني منطرحا تحت سريره الخشبي· عثرت على زوج أحذية في صندوق من الكارتون وعلبة تلميع وفرشاة، أدنيت مني حقيبة زرقاء كسيت بطبقة رمل مائل للإحمرار، فتحتها بأصابع مرتعدة· بضعة قمصان شتوية، سراويل داخلية، صور ممثلات من شتى أصققاع الدنيا· لكني أين الرسائل؟ راودني شعور بالإحباط وإحساس بالإثم، كدت أعود أدراجي لولا أن أمسكت عادة الفضول بتلابيبي، عاودت اقترابي الحثيث مدركا أن عملية البحث ليست هينة البتة لا سيما وأن الرجل قد تمترس بصمت يفوق صمت "أبي الهول"· كنت أدرك أنني إنما أغرز إبرة في حاجز زجاجي صارم الصلادة مضيت أجوس وأنقب، بعثرت ملابسه المكومة على رفوف دولابه، عدت للسرير قلّبت حاشيته وهرست لدانة القطن بأصابعي، قلبت حواشي السجادة ولا من أثر، على السرير أرحت جسدي المتوتر، جعلت أتأمل السقف وخيوط العناكب ثم انقلبت على جنبي غارزا حدقتي في سجادة الحائط، هي أكبر مساحة من أن تصلح كسجادة لدرويش جوال وأصغر من أن تغطي بلاط الزليز" الفسيفسائي الملون، إنها تمثل فارسا تحف بوجهه غمامة قاتمة يمتطي حسانا يرفع قائمتين ويتعكز على قائمتين، الفارس يسدد رمحا باتجاه غزال نافر يعبر مرجا أخضر، أتكون الصورة تتنفس والرمح المنقذف قد انغرز بجسد الغزال ليصيب منه مقتلا؟ توقفت عند السجادة، داعبت بأصابعي القبة التي تتوسطها· انخسفت القبة قليلاً ثم عادت لتنفتح ثانية·· تأكد لي أن في الجدار كوة أو شقا تنفذ منه الريح· خلعت السجادة لتهوي المسامير الأربعة مصلصة· بدت لي في ذلك الصمت أشبه بدقات ناقوس بعيد وإذا بي ألمح بابا حجبت السجادة جانبا وحجب دولاب الملابس جانبا آخر منه، زحزحت الدولاب بحذر· مددت يدي لأكرة الباب أدرتها فانفتح دونما إبطاء· وجدت نفسي أمام غرفة صغيرة هي أقرب في المساحة لمطبخ·

·· الآن تتداعى حصون  أسرارك يا رشوان حسنا بعد حسن! للمخبأ كوة تشرف على حديقة البيت الخارجية، يبدو أن الكوة لم تنفتح بشكل جيد إذ نفحت وجهي دفقة هواء بارد·

هو ذا مخبأ الرجل الوحيد·· هي ذي مملكته بأسرارها· قبالتي منضدة كتابة وكرسي·

دعست زر أباجورة كانت على المنضدة فانهمر نور فاقع، قرأت على الدرج الأيمن كلمة (الوارد) وعلى الدرج الأيسر (الصادر)· كلتاهما بقلم ورق الكربون وسجل صغير فضلا عن حفنة دبابيس وأظرف رسائل ودوى أحبار وأقلام ملونة ومسطرة وختم يحمل اسمه - قرأته بصعوبة بالغة - تناولت الملف· فضضته لأجد مجموعة من الرسائل مستنسخة كربونيا رحت في لهفة أقرأ مطالعها· عزيزتي ليلى، حبيبتي لطيفة، الغالية فاطمة· هرعت للدرج الثاني، لقيت سجلا أحمر الغلاف يضم رزمة أخرى من الرسائل كان من الواضح أنها مرسلة لطرف رشوان، لم أكن في وضع يعينني على عدها لكنني تخمينا قدرت أنها تجاوزت الثمانين رسالة كان قسم منها مذيلا بتواقيع شتى أو مختوما بورود أو قلوب تخترقها سهام أو عيون ملونة، قسم من الأوراق كان مضخما بعطور نفاذة، أما الأطراف فكانت تحمل أسماء من شتى بقاع الأرض: وهران، الفيوم، القيروان، بنغازي، مليلة، اشبيلية، نابل، تطاوين، طنجة، الاسكندرية·

هويت منهاراً على الكرسي كي التقط انفاسي اغمضت عيني بعض الوقت، فيما انا على اهبة الوقوف من جديد ارتطم رأسي برف لم اكن اعيره اهتماما من قبل ربما لانزوائه ووقوعه في فسحة ضبابية شوشاء على لوحة النائي ترقد اضمامةأخرى من رسائل واظرف محترقة الحواشي اكتشفت لفزعي أن ارض الغرفة كانت مكدسة ايضا بتدلال ورقية لمعت سطورها بكتابات وتواريخ ورسوم ابصرت على الرف سجلا يضم على غلافه عبارة "السجل العام" انه سجل انيق لو شئت الحق فقد استخدم لهوامش الصفحات حبر أحمر وللجداول حبر أسود بينما اختير لالون الأخضر للاسماء بحسب الترتيب الآن: اسم المرسلة "بلدها" تاريخ الارسال "تاريخ الوصول تاريخ الرد وتاريخ اسراله قلبت صفحات السجل وهو حافل باسماء دفتيات ومرتب ترتيبا ابجديا·· وفجأة داهمني شعور بالغثيان ازاح فوراً نزعة الفضول المتربعة على ارنبة انفي، لا أدري لماذا شعرت بأنني اتعفن في هذا الكفه وأنني محاصر بركامات هائلة من الورق ستنقلت لا محالة الى انشوطات تلتف حول عنقي·· تكتم انفاسي·· تضغط وتضغط حتى تجف آخر قطرة دم في شراييني وآخر حجيرة في أعصابي ومن ثم اجد في سجل أنيق·· أجل مجرد اسم بداخل مربع تكتنفه هو بدوره هوامش وخطوط متعامدة أو متقاطعة وخانات وجداول·· لم لا؟ قد يخصص رشوان سجلاً للمتطفلين ومقتحمي الشرنقات!

ما زال الغثيان يمسك على انفاسي  مختلطا بشعور آخر هو الرثاء تجاه الرجل "لابد انه وحيد·· وحيد حتى النخاع!

وأنا أسرع هاربا من مملكة الرجل السرية المح على الجدار كتابة بقلم ألوان شمعي اسود تقول:

ما اقسى العالم·· ربما لزننا نطلب أكثر مما ينبغي!

طباعة  

غياب للفكر الفلسفي وسجالات ثقافية غير مجدية أحيانا
بنية العقل العربي وتقصي أسباب التخلف والجمود

 
إصدارات
 
المجلس الوطني يحذر من تعديات صارخة على آثار فيلكا
 
استراحة رمضانية
خذ رفة صايم.. بين الصاحي والنايم!

 
ثرثرة وذكريات من أنطق الحجر...
الذكرى الثامنة لرحيل الشاعر علي عبدالقيوم