شعر يسيل من بين أطراف الأصابع
آدم يوسف
حين أصدر الشاعر المصري علي منصور ديوانه "ثمة موسيقى تنزل السلالم" 1995م، تلقفت الأقلام الأدبية نصوصه بشيء غير قليل من العناية والاهتمام، فالقصيدة عنوان الديوان نشرت في أكثر من صحيفة· وحظيت بالكثير من الدراسة والقراءة، مع أن الشاعر أصدر قبل هذا الديوان· ثلاثة دواوين أخرى هي: "الفقراء ينهزمون في تجربة العشق"، و"وردة الكيمياء الجميلة"، و"على بعد خطوة"، إلا أن انطلاقة الشاعر الحقيقية في رأيي تبدأ من هذا الديوان· إن مناقشة قصائد الشاعر علي منصور لابد أن تمتزج بحديث حول قصيدة النثر، وأشكالها وتوجهاتها الإبداعية، وكذلك فإن أهمية تجربة علي منصور تنطلق من وجود شعراء آخرين مجايلين له، يكتبون على الشاكلة ذاتها، إنك حين تقرأ قصائد علي منصور تشعر وكأن ماء سلسا يسيل من بين أطراف أصابعك، أدرك تماما أن هذا الوصف ليس نقدياً، أو معرفيا بالمعنى الدقيق للكلمة، ولكن على أية حال هو ما أشعر به، ولنقرأ مثلا في ديوانه: "خيال مراهق وقصائد أخرى"·
يقول:
محظوظ أنا
فوق ما يتخيلون·
الجميلة التي تزاحم حولها الفضوليون بفرح
تسللت من بينهم جميعا
وتدثرت بأحزان
أحببت حزني
أحببته أكثر من أي شيء آخر
أي فرح
أي فرح
يعدل حنان الجميلة، إذ يغمرني كلما كنت حزيناً·
قد يسهل على أي إنسان أن يقول إن هذا الكلام نثر، ويمكن لأي إنسان أن يقوله، ويمكن لي أن أقول إن كلاما كهذا هو شعر، وشعر عصي على الكتابة، ولا يمكن لأي إنسان أن يقوله، إن مشكلتنا الحقيقية مع منظري الحداثة، وفقهاء قصيدة التفعيلة الذين لا يؤمنون بتحول الزمن، وصيرورته الجارية، ولا يؤمنون بتحولات الكتابة الإبداعية، ولا يستوعبون شعراً سلساً هو كالماء يسيل من بين الأصابع، ويبحثون عن المجاز والكناية وكثافة الصورة ووعورة اللفظ، إنهم بكل بساطة يرفضون كل ما هو بسيط، وبكل تعقيد يبحثون عن كل ما هو معقد، فنقرأ بين حين وآخر من يزعم أن الشاعر لا يمكن أن يكون شاعرا حقيقيا إلا حين يكتب كلاما موزونا ومقفى، وهم كذلك يمجدون كل شعر لا يفهمونه، أو يفهمونه ويطربون له ولكن على طريقتهم الخاصة·
ليس ما ذكرته من مثال سابق هو النموذج الأمثل لشعر علي منصور ولكن هو من بين ما وقع بيدي لحظة الكتابة أو قبلها بقليل·
يقول في قصيدة أخرى من الديوان ذاته·
خلو الزهور على غصونها
خلو الجميلات في الطرقات
وملء الحدائق
قرب المحطات
وخلف مقار العمل
لا تغلقوا نوافذهن
واذهبو للعمل
ودعو الشرفات لهن
دعوهن
ترنو إلى عطرهن نباتات ظل
قولوا لهن "صباح الخير"
يقلن لكم
"صباح الخير، صباح العمل"
يغيب عن بال من يرفض قصيدة النثر سواء من حيث المسمى أو الشكل والمضمون أن الشعر يجمل في داخله رؤية، وتصورا للحياة، ومشهداً يوميا، وسخرية وتأملا وقلقا، وثورة دائمة، الشعر الحقيقي هو الذي يلامس شيئا داخلك وأنت تقرأه، فتبتسم ونقول ياالله!!! ما أروع هذه الكلمات!·
علي منصور واحد من هؤلاء الشعراء الذين يلامسون شيئا داخليا حين أقرأ لهم، فأبتسم بيني وبين نفسي واتلفت يمنة، ويسرة ثم أواصل القراءة وأقول يا الله!!!
adamyosef@hotmail.com
