الإصلاح كمنهاج ضروري لحياة المجتمعات كضرورة الماء والهواء فمن منظاره يشخص الواقع ويحدد العلاج، ومن خلاله يتم دفع مسيرة التطور واللحاق بركب الحضارة، ومن خلاله أيضا تردم الهوة بين الحاكم والمحكوم ليصبح الوطن أكثر أمنا، والأكثر نماء وإبداعا، والأمم الحية لم تستطع الارتقاء، وتحقيق قفزاتها النوعية إلا من خلال الإصلاح الدائم لمسيرتها والمراجعة لخطواتها حتى أصبحت قبلة العالم ومحوره·
وما نحن بصدده هو واقع أمتنا المتردي الذي خاصم الإصلاح واعتبره دخيلا على ثقافته لأن أدبيات تاريخنا لم تفرز طعما غير مستحب، ولم تشر أغلب صفحاته الى وجود خلل بنيوي، أو تصدع سلوكي، أو حتى انحراف في النظر عبر مراحله لأن النصع من صفاته والحكمة عنوانه·
بلا شك أن هذه التراكمات التاريخية قد صاغت شخصيتنا، وشكلت لدينا منظومة ثقافية شمولية الاتجاه، قدرية الأحكام·· أحادية التفكير·· الفرد محورها·· والتقديس إطارها·· والجمود والتواكل نسيجها·· وهذه المنظومة أسست لمجتمع الأفراد وليس لمجتمع المؤسسات فأصبح من السهل تحطيم النظام وإزالته على يد كل قادم جديد لتأكيد عظمته على حساب أي بناء اجتماعي أو سياسي مهما كانت تكلفته، وهذا ما جعلنا نرواح بالمكان في الوقت الذي يجري فيه العالم بسرعة الضوء نحو التطور مما انعدمت لدينا كل فرص المراجعة والإصلاح·
في الآونة الأخيرة بدأ الحراك السياسي الرسمي العربي نشطا باتجاه صد أي موجة خارجية تفرض ترتيبا معينا على المنطقة باسم الإصلاح حرصا على السيادة، وتبودلت الاتهامات، واختلفت الآراء، وحوصرت الأزمة لتتحول الى أزمة مصطلح، وتمحورت حول مفهومي الإصلاح والتحديث، واتفقت الآراء الرسمية على الثاني لعدم وجود خلل يوجب الأول لأن مسيرة التنمية ماضية بمعدلات عالية، والخروج من عنق الزجاجة بات وشيكا - حسب المصادر الرسمية -·
بالطبع لو أن الآراء خرجت بغير ذلك لكان فعلا هناك خلل، والصحيح أن الخلل ليس في النظام إنما في الشعوب التي لم تستوعب يوما حجم التحديات التي تواجه شفافية النظم·
إن كانت الاستقلالية تعني رفض المفروض فالتبعية هي أن لا يكون لديك البديل، والسيادة كلمة فقدت معناها بغياب الديمقراطية، لأن المشاريع المفروضة على المنطقة أكثر بكثير من المرفوضة ولكن ربما تكون في حزمة القوانين والسلوكيات التي حولت الوطن الى مزرعة والشعوب الى أقنان على اعتبار أن هذه المسألة شأن داخلي - حسب التصريحات الرسمية·
التوق الى حياة كريمة تتوافر فيها شروط السلامة مطلب إنساني قبل أن يكون مطلبا وطنيا، ولكن للأسف النظم المتعاقبة بتسمياتها المختلفة اتفقت أكثرها على إسقاط الإنسان من حساباتها، ولذلك تصدعت البنى ودخلت البلدان في نفق الصراعات، فتبددت الثروات على حساب الحاضر والمستقبل، ومع مرور الزمن تغيرت الأشياء إلا البنى الفوقية فبقيت بفكرها، وبكل قيمها تقود عملية البناء، وبعد عقود من مسيرتها تبين أن تلك الطوابق التي شيدتها لا تصلح للسكن، ولا حتى للاستراحة بسبب هشاشة الأسس وضعف البناء، فازداد القلق من الانهيار فانطلقت الدعوات المخلصة مطالبة بالإصلاح ولكن لا حياة لمن تنادي لأن المريض الذي لا يعترف بمرضه لا يمكن لأحد أن يعالجه، وحتى لو اعترف فالمسكنات والضمادات لا تنفع مع هذه التصدعات لأن الأزمة ليست أزمة نوايا، ورسم خطط وإنما أزمة فكر ومنهج، فالمنهج المتخلف لا يصنع متفوقا، والفكر الاستئصالي لا يشكل وعيا، والإرادة المنكسرة لا تحقق نصرا، ومهما حسن الترقيع لا يجدد ثوبا، ومن احترف الهدم يصعب عليه البناء·
القنوط يستوطن النفس عندما تنعدم الفرص وتغلق الأبواب، والمشهد العام لا يبشر بالأمل رغم كل المتغيرات، فرغم سوداوية الوضع فإن القوى المستحكمة لا ترغب في تعديل أي مسار يساعد على التفاؤل وعلى تثبيت قواعد الانتماء لدى الشعوب حرصا على مصالحها·
فالآيل للسقوط بحاجة الى إزالة، والمتصحر بحاجة الى إخصاب والطريق الى هذا وذاك لن يكون إلا بفتح نوافذ العقل على شرفات الحرية لكي ينهض الإنسان، ويعود الى موقعه في البناء والإبداع· |