رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 17 يناير 2007
العدد 1758

قصة قصيرة

المنعطف

 

                                          

 

كوليت نعيم بهنا*

إن الصقيع الشديد الذي شل المدينة تلك الليلة، وأضعف قدرة الشابة على الصمود لوقت أطول، هو المسؤول عما سيحدث لها داخل تلك الحافلة الصغيرة المكتظة بالركاب، التي اضطرت إلى أن تستقلها دون خيار آخر· واضطرت أيضاالى أن تنحشر بداخلها، فوق المقعد الوحيد المتبقي بين رجلين، أحدهما سبعيني مفرط في بدانته، والآخر شابٌُ مفرط في وسامته· وهي، وفي تلك الليلة الاستثنائية بالذات، كانت مفرطة في حساسيتها، من البرد، ومن روائح الأنفاس المختلطة، ومن أشياء أخرى·

انطلقت الحافلة مع انطلاقات صوت المغني يصرخ من داخل علبة المسجل بأعلى قدراته الصوتية: (انفعلي·· انفجري·· لا تقفي مثل المسمار)· والشابة المسكينة تحاول جاهدة السيطرة على ارتعاش أوصالها، وهي متكورة على نفسها كالفصلة، تتحاشى ما أمكنها ملامسة الرجل السبعيني، الذي لم يكفّ عن التعوذ بالله من الشيطان الرجيم، كلما حفّ قماش معطفها الأخضر، بقماش معطفه الرمادي السميك· فما بدا الشاب الوسيم، هادئا للغاية، لم يحاول أن يلتفت إليها، أو يقترب منها قيد أنملة، تاركاً للمنعطف القادم هذه المهمة، التي ستجعل من التصاقهما أمراً عفويا، لا يثير الريبة ولا الشكوك·

وكما أراد تماما، انعطفت الحافلة بشدة نحو أقصى اليسار، وفقدت الشابة توازنها، بالكامل· لكنها لم تحاول، أو يحاول هو بدوره، تغيير قدر رتبه لهما المنعطف، وسيظلان في اللحظات القليلة المقبلة على ما هما عليه·

تبادل المعطفان عند تلامسهما الأول، وفي الحال، تغيرت رائحة أنفاس الشاب وتسارع إيقاعها بشدة· فيما اضطربت الشابة وتهدجت روحها وهلة، قبل أن تُغمض عينيها وتتمنى لو يستمر البرد سبع سنوات مقبلة، وتغطى المدينة بالثلوج من أخمص أقبيتها وحتى سطوح منازلها، وينهمر مطر غزير، وتثورُ رياح، ويشتدُ الصقيع ويشتدُ التصاقُهما داخل الحافلة· ويا حبذا لو يستمرُ ذلك الخدر اللذيذ الذي ولد من رحم طمأنينة اللحظة، وسرى تحت معطفها، فهدّأ من ارتعاش أنفاسها وأوصالها، ثم تسلق نحو شفتيها المزمومتين، فأقنعهما بالاسترخاء، وتشكيل ابتسامة صغيرة، عذبة للغاية·

وبينما كانت الشابة تبحث عن جواب يحدد ماهية نيران هذه اللحظة، ابتسم الشاب ابتسامة غريبة وهو يرفع أحد حاجبيه، ثم مدّ يده بحركة مفاجئة داخل معطفه، وأخرج نقوداً قدمها الى السائق بصوت مفزع:

- هذه ·· عن الآنسة·

أَجْفَلَتْ الشابةُ برهة، وبحركة سريعة، ابتعدت عنه وأخرجت من حقيبتها ليرات ثلاثا، رمتها في حضنه بعصبية، وهي تنظر اليه نظرة عتاب قاسية·

وبحذر وبطء شديدين، عادت لتقترب من جارها السبعيني، المفرط في بدانته، صاحب المعطف الرمادي السميك، الذي ما انفك لحظة واحدة عن التعوذ بالله من الشيطان الرجيم·· والذي رفض بحدة فتح النافذة المجاورة له، رغم رجاء الشابة التي كادت تختنق، قبل أن تتوقف الحافلة، وتهرب منها الى أحضان الصقيع الرحبة·

 *قاصة من سورية

طباعة  

ثلاث فعاليات أساسية في وقت واحد
قليل من التنسيق كي يلتقط الجمهور الشحيح أنفاسه

 
حلقة نقاش حول كتابه "الثقافة في الكويت"
منتدى المبدعين برابطة الأدباء يستضيف خليفة الوقيان

 
إصدارات