رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 14 يونيو 2006
العدد 1732

قصة قصيرة

تلفزيون يا تلفزيون

 

مصطفى عطية جمعة:

"عم إبراهيم" كان أول من اشتراه: زغردت العجائز والبنات، عندما تباطأ الحانطور أمام بيته· تركنا "كرة الشراب" متقافزين حول البغل، بينما السائق يلحّن بقدمه على جرس الحانطور: "تلفزيون يا····" كان مندساً في كرتونة كبيرة· تنصتنا وراء الباب: لا شيء·

 

* * *

 

- التلفزيون اشتغل··

تركنا الكرة، لصياح ابن عم إبراهيم، كائنات متراقصة يجمعها الأبيض والأسود، من صندوق غامق، مرفوع فوق الدولاب، كنتُ ملتصقا بأخي المتصلبة عيناه، لم ألتقط سوى نتفات بسبب قفا الوالد "متولي"· "كيف احتوى هذا الصندوق على هؤلاء"؟

ضحكتُ مثلما يضحكون·

"الفيلم بقرش" قرر عم إبراهيم· عدنا للكرة وللسبع طوبات· عصر الخميس فقط، نلتف صامتين حول الفيلم·

 

* * *

 

"مئة جنيه" ادخار أمي في جمعيات ممتدة· تحلم بشراء أرض، ثم تبني بيتا فوقها، لننجو من شقتنا المؤجرة· قال أبي: "نشتري تلفزيونا···" تقافزنا أنا وأخي·

مراجعة أمي له· قال: "الأرض، والبيت يحتاجان فلوس وفلوس···"·

وفي ظلمة الليل، ومن الزاوية الخلفية لحارتنا، تهادى الحانطور· كانت أمي تخشى الحسد· وفوق الدولاب استقر التلفزيون· تكتمنا الخبر عن عيال الشارع، وأدركوا بعدما اختفينا عن لعب الليل·

 

* * *

 

··· حتى على طبلية الغذاء نبحلق، لقطات إسماعيل ياسين، وراقصات فريد الأطرش ومحمد فوزي· مسلسل "إبراهيم الطائر" أترقبه طوال اليوم، في رمضان· وفي لقائنا مع عيال الشارع كنا نغني الإعلانات·

 

* * *

 

"عنترة بن شداد" فيلم يوم الأحد· عددنا الدقائق فالساعات، ثم تصلبنا على تطاير الرقاب وقعقعة السيوف· شهقتُ وسألتُ أبي عن السهم الذي نفذ في رقبة أحدهم· صمت أبي مندهشاً· مع انتهاء الفيلم، أمسك كلٌ منا بعصا، وامتلأتْ الحارة بطقطقة العصي· اختلفنا فيمن سيكون منا عنترة، اشتدت المعركة بيننا نحن "العناترة"، وعندما رأيتُ العيال الطوال، انسحبتُ كعادتي·

 

* * *

 

أثناء انتظارنا للمسرحية، قال أبي: "كان أول تلفزيون دخل الحي، ملكا للأسطى "توفيق" المكوجي، كان قد اشتراه من رجل من القاهرة، أخذه بالقسط··"·

المذيعة، بدء المسرحية··، الإعلانات، أردف أبي: "كنا وقتها في أوائل الستينيات، نتجمع عند "توفيق" ونتكوم مثلكم أمام مسرحية "إلا خمسة" مع عادل خيري و····"·

أتوماتيكيا، تحولت عيوننا مع انفراجة الستار، نقرر على أي شيء·

 

* * *

 

قال الولد "ناصر" لعيال الفصل: "أبي عاد من السعودية، وأحضر تلفزيونا·· ملونا···"·

عيوننا نحوه· أردف: "يظهر فيه الناس بألوانهم الحقيقية، وليس أبيض وأسود··"·

واعدناه على رؤية مباراة الأهلي والزمالك عصر الجمعة· بتعال هتف:

- ستشاهدون الملعب أخضر، والأهلي أحمر··

 وعندما عدتُ قال أخي مستخفا:

- قهوة "جابر" التي تجاورنا اشترته·

غاب "ناصر" عن اللقاء أمام المدرسة· دفعت ثلاثة قروش لاعتلاء أحد الكراسي في المقهى· في اليوم التالي أقسمتُ لعيال الفصل على رؤيتي للأهلي الأحمر·

 

* * *

 

يضرب أخي الأصغر مفاتيح التلفزيون كلما عاركناه، تغيب الصورة، ويلعب أبي فيها بعدما يفك مقدمة الجهاز·

شتمني الصغير مرة، فأتحفته، بعلقة بالحزام، وأتحفني أبي بعدها، كانت ضربته هذه المرة سببا في هزة رأس الكهربائي بأن: "لا فائدة"·

طالعنا الشاشة البيضاء بخرخشتها·

عرفتْ أقدامنا بيوت الحارة - على الأقل - يومي الأحد والخميس، وعاد أبي للمقهى·

أسابيع وتهادى الحانطور من الزاوية الخلفية، بعدما باعت أمي ذهبها واقترضتْ عليه، قائلة: "العيال فضحونا في الحارة، والرجل معهم··"·

 

(2)

 

أعتاب الثانوي: الصوت الخشن ونبت الشارب، الهمسات السرية في الحارة والفصل عن مشاهد الراقصات وغرف النوم والقبلات··، عددتُ لقطات فيلم أحفظه، عن الزوج العائد والزوجة المتهيئة·

 

* * *

 

الصيف وحرّ الليل، والتلفزيونات على العتبات أمام البيوت، أو فوق الأسطح· حصيرة افترشناها فوق سطح بيتنا·

أراهن أخي على ما سيحدث في اللقطة التالية· أراقب الحارة مستندا إلى سور السطح· الأجساد المتكومة في الشرفات· البنت "زوبة ممدة على الكنبة، حدقتاها على الفيلم· تهمس الغجرية للخادمة أن تتفنن حتى تسقط "البيه"· تلاقت أحداقنا· اشتدت أنفاسي، حين ثلوّت "زوبة" مبرزة···، صارت لغة بيننا·

 

(3)

 

الجيش وأيام المخلة والليالي اليتيمة· ليلتان راحة من الخدمة في الأسبوع· أتقلّب بين عنابر العساكر و"الكانتين"· حرارة قيظ النهار اختزنتها الرمال، وها هي تنصحها ليلا، تضاد بها نسمات الصحراء· خندق النوم حبس قدرا منها·

الكانتين وتلفزيون العساكر المشوش· الزوجة المتمنعة في المسلسل على الباشا· "يقول زينهم": "امرأتي حلالي، خمسة أسابيع لم··"·

جذبني محمد البرنس، دبتْ أقدامنا، سكن الضباط البوستر والتلفزيون الملون، لقطات قناة "سيجما"، تأوهات الضابط "هاني"، استعاذة العميد "فاروق"، ذكرياته عن 1973، للعسكري "إمبابي" المطأطىء له·

- في الثانية صباحا، تدخل قنوات إسرائيل·· قال "هاني"·

 

(4)

 

السنون، سكن المدرسين الحكومي في دولة بالخليج··، جهاز واحد في الصالة السفلى، الخناقات حول القنوات·

تتكاثر الأجهزة في الغرف، الأجساد الممددة تحت المكيف، نصف الدوام حديث عن العربسات وسوني وديسكفري·

في مقهى، لقطات مسجلة من قناة تركية، العمال البنغاليون والأعين النهمة· لمح النادل بعضا من الملابس الكاكية، بالريموت قلّب الى المحطات المحلية، ظللنا نعدّ الدقائق، حتى انصرفت البدلة الكاكية···

طباعة  

اتجاهات إبداعية متباينة لثلاثة أجيال شعرية
رابطة الأدباء تختتم موسمها بالشعر والكلمة الساحرة

 
رؤية
 
إصدارات