رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 3 مايو 2006
العدد 1726

قراءة

"عندما في الأسفل"

رواية تحكي قسوة الواقع ونشوة النشور

 

                                                                                

 

·   عبدالعزيز محمد عبدالله يرثي حالنا "التراجيكوميدي" بدموع ممزوجة بالسخرية

 

 

بقلم: عزيز الساعدي(العراق)

رواية الكاتب الكويتي عبدالعزيز محمد عبدالله "عندما في الأسفل"(1) العنوان من الوهلة الأولى، لا يجذب القارىء الذي اعتاد على عناوين القصص والروايات ذات المدلول الميسر وغير المشفر، إلا أن القارىء الذكي يستفزه العنوان ويثير فضوله· ومن باب الفضول يتفحص أولى الكلمات في الصفحة الخامسة، فتقع عينه على كلمات أسخيلوس الشاعر الذي كتب الملاحم المسرحية - الفرس، الضارعات، حاملات القرابين - كلمات مأخوذة عن مسرحية "أغا ممنون" على لسان شخصية حارس المدينة المأسورة (كلمات بدأت أغني، أو أهمهم بلحن، وأقطف من الموسيقى ترياق النوم، أبكي دائما على حال هذا البيت الكبير، وهو ليس في وضعه السابق، كما عهد عليه)·ص 5 انظر وتمعن بدقة عزيزي القارىء في مدلول ومعاصرة مقطع هذه المسرحية التي استهل الكاتب روايته بها· هذه الرؤيا تضعنا أمام:

أولا: المدينة المأسورة

ثانيا: نقطف ترياق النوم من الموسيقى كي نبكي ما حل بهذا البيت الكبير من دمار هو ليس في وضعه السابق كما عهد عليه

المدينة المأسورة، ودمار البيت الكبير

هذا هو حال أمتنا العربية ذات الحضارة والمجد العريق، أصبحت مدينة مأسورة للأجنبي وبيتها الكبير مزق وخرب·

وحدويون والبلاد شظايا، وكل جزء من لحمها أجزاء(2)·

نبكي حالنا التراجيكوميدي بدموع ممزوجة بالسخرية رغم معرفتنا بالداء وعلاجه·

من هذه المقدمة يجد المتلقي نفسه أمام كاتب ذي حس واع بمسؤوليته ومسؤولية كلمته ذي إحساس جريء يمثل صورة جريئة وشجاعة لعنفوان مثقفي هذه الأمة وحيويتها وديمومتها رغم المحن والنكبات التي تعاقبت عليها طوال القرون المظلمة منذ سقوط بغداد الأول - عاصمة الحضارة العربية الإسلامية - على يد هولاكو وتدمير مكتبتها وقذف أوراقها في نهر دجلة مضمخة بالدماء، حتى سقوطها على يد هولاكو العصر - الطاغية صدام حسين  - الذي فتح أبواب بغداد للمحتل الانكلوامريكي الذي سحق ودمر بجزمته ودرعه الفولاذي متاحفها ومكتباتها·

 

اتساع مساحة المشهد

 

إن السارد الذاتي الراوي العليم حال لسان "فهد" الذي عاصر وشاهد أربعة حروب - الحرب العراقية الإيرانية 1980، حرب غزو الكويت  2/8/1990، الحصار الاقتصادي الذي استمر ثلاثة عشر عاما من 1990 لغاية سقوط الطاغية ونظامه في  9/4/2003 وحرب غزو بغداد من قبل المحتل الانكلوامريكي عام 2003 - مرت على العراق، الدولة الشقيقة والجارة للكويت ما أعقب هذا الغزو من نهب وتدمير لمؤسسات الدولة والبنى التحتية· أقول إن الكتابة في هذا الموضوع من قبل الروائي الشاب عبدالعزيز محمد عبدالله ليس بالأمر الهين وذلك لاتساع مساحة المشهد من حيث الزمان والمكان ومأساته الدموية الموجعة حد الجنون هذا من جهة ومن ناحية أخرى حساسية وإشكالية الوقائع والأحداث وتشابكها وتعقيداتها بالنسبة للكاتب ولجميع المتلقين شعوبا وحكومات إلا أن المؤلف ركب المغامرة الصعبة، واستطاع أن يمسك بخيط الرواية وينسخ عليه بأعصاب متوترة ومستفزة، تدفعه الأحداث ذات الخطوط الحمراء العديدة الى شواطىء بلا ضفاف يتزاوج فيها الحضاري الموغل في القدم بالمعاصر العبثي حد الوصول الى يقين اللاجدوى، حيث يتشكل الإنسان - الضحية - على صورة صعلوك مهمش مقموع أو رقما في آلة الدولة التي تسحق في كل لحظة بعنفها الهجمي عظامه ولحمه فيتحول الى كومة - رمل - من اللحم المثروم نتيجة الصخب والعنف وتصبح الحياة كلها كما يقول شكسبير على لسان مكبث "الحياة ما هي إلا حكاية يرويها معتوه ملؤها الصخب والعنف"(2) مأساة فهد في هذه الرواية هي مأساة الإنسان الضحية لقوى كونية عبثية أو لقوى سياسية دكتاتورية تطحن الإنسان لحد الرعب الذي يشكل كيانه فتجعله يشك حتى في نفسه، فيخاف من الحيطان، التي تسمع كل شيء / الحيطان لها الآذان / فيتحول الى جرذي في الرواية "اوريل"  - عام  1984· وقد قالها السيد المسيح "يالبؤس الإنسان" كما رددها الشاعر طاغور "أنا لا أعرف شيئا عن سر الآلهة، لكنني أعرف كثيرا عن بؤس الإنسان"·

مأساة فهد التي ظلت تلاحقه وحاول أن يكفر عنها حتى أنه قد دفع ثمنها بالموت التطهيري تتجسد في قتله للجندي العراقي "عقيل" البريء الكاره لصدام ونظامه الدموي· حقيقة هذا الجندي وجدها في حقيبة رسائله التي كان يكتبها كيوميات لغزو الكويت ويبعثها إلى أهله شارحاً فيها "رفضه لما يرى من غزو لبلد مسلم، وقتل لأشقاء عرب ودمار لمبان كتب على واجهاتها آيات وأحاديث شريفة" ص 19··

"رأيته وهو يقذف به كجراب من إحدى المدرعات المحشوة بالجنود وظله النحيل يستند على إطار الشاحنة" ص 10·

عند هذا المشهد ثارت نوازع فهد ضد المحتل "الثأر لأخواتك اللواتي اغتصبهن·· الاقتصاص لترابك الذي غاص عقب حذائه فيه" ص 11 وعندما أغمض "عقيل" الضحية عينيه من شدة التعب رفع فهد الصخرة، "صخرة الانتقام لأهلك، ففتح عقيل بؤبؤي عينيه الجفلتين·· وتمتم كالمظلوم -··· لم أفعل شيئا·· لم أفعل شيئا" ص 13 لا شعوريا انهلت عليه بالصخرة التي فجرت بؤسه نافورة من الدماء بقبقت بغزارة·· وتدفقت وكأنها لن تتوقف أبدا· ص 13 بعد هذه الفاجعة التي مر بها كأنها دهر تجسدت سحب من الذنوب السوداء تلدعه في جسده لشعوره بأنه قتل إنسانا يشاطره مأساته على بلده المحتل ويكن حقدا على قائد هذا الغزو البربري كل هذا الإحساس النبيل ولد لديه ما يشبه "اللوثة" التي ظلت تطارده كلعنة يجب أن يكفر عنها· فاعتزل أصحابه، وأصبح تائها من هول ما فعل·· رغم قولهم له إنك بطل وطني قاومت المحتل الغاشم، وعندما صرخت بهم بأنه كان إنساناً، قالوا لك كما قالت لك السيدة العراقية بحق قتل الجندي الأمريكي على أرض العراق، بنفس النغمة واللامبالاة··

- السيدة: دعه يموت كالكلب

- إنه إنسان يا خالة

- إنه ليس إنسانا بل محتل·· معتد أثيم وكلب (ص 90)

دفن فهد جثة الضحية "عقيل" تحت ظل نخلة دلالة وإشارة للعراق النخلة هي شاهدة القبر التي أخذت بدلالتها ورمزيتها تطارد فهد أينما حل فهد هو أيضا كعقيل ومثل الجندي الأمريكي الذي قتل على أرض العراق جميعهم ضحايا للسيادة العسكرتارية التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية باسم الحرية والديمقراطية والتحرر ونشر الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط·· ضحايا هذه السياسة المتسلطة هم شعوب المنطقة، وهذا يذكرني بالفيلم الملحمي - معركة واترلو - للمخرج السوفييتي سيرجي بوندار شوك(4) وذلك عندما التحم الجيشان الفرنسي بقيادة نابليون بونابرت والجيش البروسي· وفي لحظة تراجيدية ووسط أكوام الجثث وصراخ الضحايا والدماء الغزيرة التي غطت أرض المعركة يصاب أحد الجنود بلوثة الوعي، فيصرخ وسط الجيشين الملتحمان قائلا بحزن· لماذا يقتل بعضنا بعضا ونحن لا نعرف بعضنا ولم نتقابل من قبل ولم يضمر أحدنا العداء للآخر؟··· هذا ما يريده الجنرالات فقط·

 

رحلة البحث للتكفير عن الخطيئة الأولى

 

تبدأ رحلة فهد الى بغداد بعد سقوط نظام البعث في 9/4/2003 من أجل البحث عن عائلة عقيل طلبا للتكفير عن خطيئته· هذه المرحلة·· تشبه من بعض الأوجه، في أسبابها ونتائجها رحلة الملك أوديب في البحث عن أسباب اللعنة التي حلت بمدينة "طيبة"·

ومما يزيد من عذاب فهد أن عائلة عقيل التي كانت تعتقد بأنه قد جاء لها بنبأ يفرح ويثلج قلوبهم عن مصير ولدهم عقيل الذي فقده في الكويت منذ ثلاثة عشر عاما على الغزو، فتحتضنه العائلة بحب وكرم العراقيين· وذلك عندما يعلم والد عقيل بأن فهد سوف ينتقل الى أحد فنادق بغداد كي يستقر فيها مع بعثة الهلال الأحمر الكويتية·

"هنا تلاشت حمرة عيني والد عقيل ورعد صوته وصاح عابسا

- أتنزل بفندق وأنت بين أهلك وفي بيتك·· والله، ثم والله·· لن تنام إلا في غرفة عقيل، وعلى فراشه - ص 39·

يا للهول، كان الله في عونك يا فهد على هذا الخيار الصعب الذي وجدت نفسك محشوراً فيه·· تنام على فراش ضحيتك، أية أشباح وكوابيس ستطاردك؟ إذ أول ما تواجهك صورة عقيل المعلقة في غرفته وهي تبحلق فيك تنخر داخل عظامك حتى النخاع، عند كل إغفاءة لك! وفي وحدته داخل الغرفة وفوق سرير عقيل يعثر فهد على الكتاب الممزق الغلاف وقبل أن تبحث في فحواه يعاجلك اسم الجواهري بخط كوفي حاد الزوايا ص 41·· وتقرأ الأبيات هامسة·

حييت سفحك عن بعد فحييني

يا دجلة الخير يا أم البساتين

وأنت يا قاربا تلوي الرياح به

إلى النسائم أطراف الأفانين

وددت ذاك الشراع الرخص لو كفني

يحاك منه غداة البين يطويني

 

السقوط الى الأسفل

في أحد أزقة بغداد يواجه فهد صورة الموت تتكدر أمامه لكنه هذه المرة تجسد ما أسماه المؤلف فعل المقاومة؟

- ما أن تضرب بقدميك عدة دورات حتى تجد نفسك أمام كومة تستند الى جدار طيني كان قد تلطخ بدماء قانية تسيل من الكومة وتتجمع تحتها، تركز بصرك على الكومة فتجد أنها مغطاة ببدلة عسكرية طحينية مبرقعة، متربة وتعتمر خوذة، ياللشيطان·· إنه أحد جنود التحالف - ص 88 ·

يسحقك الموت البريء مجددا جندي ربما يكون قد قذف إلى أتون حرب غزو العراق مجبرا وربما يكون كارها ومحتجا على ما فعلته قوات الغزو من تدمير للعراق وشعبه·· إنه صورة طبق الأصل لعقيل البريء! فتسحقك الذاكرة الدامية، وتحاول التكفير عن خطيئتك بحق عقيل، بإنقاذ هذا الجندي المصاب أمام عينك، إلا أن صوت السيدة العراقية التي تلتف بعباءة العتمة تصرخ فيك·

- دعه يموت

- دعه يموت كالكلب

- إنه إنسان يا خالة

يرتد صوتك اليها فتستفزها وهي تتذكر مقتل زوجها أو أخيها أو ولدها أو ابنتها على يد قوات الاحتلال فترد عليك محتجة·

- إنه ليس إنسانا·· بل محتل·· معتد·· أثيم··

بالضبك مثلما قال لك أهلك في الكويت عندما قتلت أخاك عقيل الذي تعتقد ببراءته، هاتفا بك بطلا وطنيا قاومت المحتل الغاشم إن عبثية الوجود ولا معقوليته هي الكابوس الذي وجد فهد نفسه مقذوفا إليه منذ صرخة الولادة للخروج للجحيم الأرضي حتى شهقة الموت، التي توصلك الى فوهة القبر الطريق الى العالم السفلي، حيث لا قتل عمد ولا عذاب بلا جدوى، ولا تأنيب للضمير·

إن فهد يتمنى لو يتوقف العالم عن الدوران لدقيقة لعينة واحدة·· ربما يكون بمقدوره أن يفهم لماذا تحدث الشرور كل يوم بشكل اعتيادي· ص  92·

لا فرق الآن بين الحلم والواقع·· الحلم بكوابيس عقيل التي تلاحقه ذهنيا والصورة الواقعية لموت الجندي ·· فقد يسلبون الأب من ابنه والزوجة من حضن زوجها والطفل من أمه ويسخرون منكم حيث لا ترونهم ولا تشعرون·· إنه عالم مخفي بعناية بداخل عالمكم الصوري المسطح والزائل - ص 93·

فجأة يستفيق فهد من صدمته في عبثية الوجود بعنف بندقية العسكري التي تطحن جبهته، عندئذ يظلم كل شيء ويختفي الجنود وجزماتهم وتختفي الشمس·· كل شيء توقف حتى الألم وراح في غيبوبة·

بعد إفاقته من هذا الكابوس تتولد لدى فهد القناعة التامة بأن عليه أن يغادر هذا العالم العلوي العبثي في صحبة الوحشية الى واقع الحلم الطاهر العالم السفلي، حيث الضحايا والشهداء·

إلا أن الثمن الذي عليه أن يدفعه للوصول الى فردوس العالم السلفي والتخلص من العالم الأرضي، هو وجوب السقوط الى الأسفل، حيث الهوة السحيقة هناك حيث يتطهر من ذنوبه·· ويتخلص من مطاردة أغنية عفيفة اسكندر حيث تبتهل الى الله شاكية بلواها·

- أريد الله يبين حوبتي بيهم؟-

- يا ترى ما يحدث، حوبة من·· حوبة الكويتيين الذين محوا بليل خميس حار·· حوبة الإيرانيين الذين تعلقت أشلاؤهم على سعف نخيل الفاو كملابس مغسولة·· حوبة الذين ضاقت بقبورهم صحراء  الجنوب·· حوبة الأكراد الذين انتشروا بالعراء كحزم قصبات مقطوعة··

يختار فهد بإرادته السقوط لكي يصعد الى العالم السفلي فيتفاجأ بوجود عقيل، وقد عاد حيا معافى وهو يغط في النوم قرير العين ويحلم ملء رأسه الأشعث، بينما يعاني هو من عقدة الذنب، يوصله التساؤل الوجودي الى وجوب قتل عقيل مرة مرة ثانية لأن في ذلك إصلاح للأمور بالنسبة له وللعالم السفلي بأسره، لكن يتجدد ويحل الربيع ويعيش بعيدا عما بالأعلى· ص 138·

ويقترب فهد بسرعة من عقيل وبخطى واثقة يرفع الصخرة عاليا وبتلقائية يحضن بها رأسه وتنطفىء الشمعة، ويعود عقيل حيا لأنه كلما قتل الشهداء فإنهم يعودون مجددا أحياء بذاكرة الأفراد والشعوب·

هذه الرواية ذات أبعاد ومديات ووجوه عديدة وبودي أن يتصدى لها أكثر من ناقد للوقوف على اكتشافات تغذية جديدة في عالم هذه الرواية الرحب والخصب ذات النفس الدرامي الوجودي الطويل الذي يتمازج فيه الواقع بالخيال وكأنما هما وجهان لعملة  واحدة من خلال صورها الشعرية والبلاغية الأخاذة التي عرتنا جميعا، وكشفت خطايانا وذنوبنا·

إن الكاتب الشاب عبدالعزيز محمد عبدالله في كتابته لهذه الرواية كان شجاعا جريئا ومخلصا لمبدأ الواقعية الديالكتيكية في فضحه وتعريته الواقع الطبقي، واقع المتخمين بلا حدود في الأعلى وواقع المحرومين في الأسفل· هذه هي رؤية النقد الثقافي التقدمي للمؤلف·

 

المصادر

 

1- عندما في الأسفل / رواية من تأليف الروائي عبدالعزيز محمد عبدالله / الطبعة الأولى الكويت 2005 عن دار قرطاس للنشر·

2 - إفادة في محكمة الشعر للشاعر نزار قباني ديوان الجزء الثاني·

3 - مسرحية مكبث لشكسبير ترجمة جبرا إبراهيم جبرا·

4 - سيرجي يونوار شوك مخرج فيلم / الحرب والسلام / عن رواية الكاتب الروسي ليوتولستوي وقد حاز الفيلم على جائزة  "الأوسكار" عام 1968·

5 - مصير المجتمع المغربي الدكتور عبدالله حمودي·

طباعة  

إصدار
 
اللوبي الأمريكي المؤيد لإسرائيل يمنع الأمريكيين من سماع صوت راكيل كوري(3-3)
مسرحية أكثر سخونة من أن تطيقها نيويورك

 
هذا المساء
 
زلزلها رحيله المفاجئ
حركة "شعراء العالم" في الشيلي تؤبن الشاعر كمال سبتي