رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 9 مايو 2007
العدد 1773

روائي من "صربيا" يتجنب البداية والنهاية
الفن طائر بساقين طويلتين في ساقية ماء.. وعليه أن يتحرك دائماً حتى لا يغرق!

تاناسيس لالاس*:

اسم "ميلوراد" يعني "المحبوب" في لغته، ومع ذلك، فالكثيرون لا يعرفونه، إنه كاتب صربي، رشح عدة مرات لنيل جائزة نوبل للآداب، وهو، حسب صحيفة "الباري ماتش" الكاتب الأول للقرن الحادي والعشرين بلا شك· إنه الكاتب الذي عمل على تأليف رواية يمكن أن يقرأها أي شخص بالطريقة نفسها التي يتفحص فيها تمثالاً· هذا الكاتب يعيش في "بلغراد"، وقد امضينا معه ثلاثة أيام نتحدث فيها فقط·

 

اللقاء الأول

 

إنها بلغراد، وقد هبط المساء، وحركة المرور في الشوارع خفيفة· وفي الطريق الى بيت الكاتب، وجدت "غاغا" حانوت ازهار ما زال مفتوحا، فاشترت بضع زهرات· وهناك في شارع "بريكي بارو" وأمام مبنى رقم 2، انزلنا السائق، المبنى قديم وبوابته الرئيسية مواربة· ودخلنا· الى اليمين بعض من صناديق البريد الخاصة بسكان المبنى، وكلها متماثلة من ناحية الحجم باستثناء الأخير المدهش بحجمه، وشاهدت على الصندوق الكبير لأول مرة اسم "ميلوراد بافتش"· اسم الكاتب الذي قالت عنه صحيفة "الصنداي تايمز" إنه يؤلف مع "بورخيس" و"نابوكوف" و"سنجر" و"كالفينو" و"ايكو" الكنز الأدبي للنصف الثاني من قرننا العشرين· في الطابق الأول وجدنا أنفسنا أمام باب خشبي أبيض· قرعنا الجرس فإذا نحن أمام "بافتش"، مرتدياً رداء أزرق غامقاً مع ربطة عنق، وقادنا الى صالون ذي سقف عال·

كانت هناك بضعة مقاعد بيضاء في الصالون، وعلى الجدران لوحات من رسم ابنه "ايفان" المقيم في باريس·

وقدم لنا "بافتش" الكاتب "الذي يفكر بالطريقة التي نحلم بها" شرابا واقنعنا بتذوق بعض من معجناته الرائعة· ثم قدمنا الى زوجه، فسلمنا، و"بافتش" يتحدث بينه وبين نفسه ونحن ننظر الى طبعات كتبه المترجمة الي كل اللغات باستثناء الصينية والنرويجية: "كان من الصعب جداً الحصول على مراجعة إيجابية لكتبي في بلدي، ولهذا السبب تزوجت ناقدة"·

ضحكنا، ثم كتب إهداء على نسخة من كتابه "معجم الخزر" الى "الفتاة الذهبية"· وأعطى الكتاب لمواطنته "غاغا روسك"، والتي هي تلميذته في الجامعة أيضاً، وتترجم كتبه الى اليونانية·

وغادرنا سوية لحضور افتتاح سينما جديدة في قلب بلغراد·

كان يقود سيارته مثل طفل· وتبدو السيارة بين يديه مثل لعبة· كان يقود عكس السير في شوارع ذات اتجاه واحد، ودلنا على البيت الذي قضي فيه طفولته، بيت من طابقين ذو حديقة وأشجار في باحته الخلفية· إنه يترك سيارته دائما بعيدا عن المكان الذي يقصده، واستثار هذا الأمر فضولي، وبدا لي وكأنه يعيش طيلة الوقت في عالمه الخاص به· وتقدمنا سائرا الى قلب المدينة وهو يقول لي: "هذا هو المسرح الوطني"· وفي الساحة الكبيرة المواجهة للمسرح تعرف عليه الكثير من الناس، إلا أنه واصل سيره متظاهرا بإنه لا يلاحظ شيئا· من المحتمل إنه لاحظ كل شيء، ولكن الى أن يجد نفسه مستلقيا في فراشه، لا يستطيع البرهنة على أنه لاحظ شيئا·

إنه يكتب دائما متمددا في فراشه، ويحتفظ بملحوظات في دفتر صغير يكتب فيه دائما فكرة تخطر بباله·

يقول: "النصف هو ما تحصل علىه دائما، ففي كل وقت تصطاد فيه شيئا من جمال العالم الشاسع حولك، تغرق قطعة جمال أخرى من دون أن يلمسها أحد في مياه الدانوب الزرقاء"··· وينتهي أول لقاء لي ببافتش بمصافحته خارج فندق المتروبول· وراقبته خلال هذا اللقاء الأول باستمرار، وتبادلنا بعض كلمات، وحددنا موعدا للقائنا في شقته في اليوم التالي·

 

من اللقاء الثاني:

 

لاحظتك أمس بدقة، وكانت ردود أفعالك تشبه ردود أفعال طفل· وكل هذا لم يمنحني إنطباعا إنك أكثر الكتاب الصرب أهمية في الوقت الراهن·

- الحقيقة هي أن هذه هي الطريقة التي أشعر بها· أنني أحاول رؤية العالم كما لو أنني أراه لأول مرة، أحاول نسيان كل الكتب التي كتبتها كي أواصل الحياة والكتابة·

 

هل تمنعك الكتب التي كتبتها من مواصلة الكتابة؟

- إذا لم تنس ما كتبت، فلن تستطيع كتابة كتب جديدة، لأن كل كتاب جديد يشبه عودة الى البداية·

 

لا بد أن البداية والنهاية أكبر مشكلة بالنسبة للروائي·

- حاولت ما وسعني الجهد محو أو تدمير بدايات ونهايات رواياتي· لرواية "الجانب الداخلي للريح"، على سبيل المثال، بدايتان، وأنت تبدأ قراءة هذا الكتاب من الجانب الذي تريد· في رواية "معجم الخزر" يمكنك أن تبدأ من أي قصة تريد· ولكن خلال الكتابة عليك أن تضع في حسابك أن كل مادة يجب أن تقرأ قبل وبعد كل مادة أخرى في الكتاب· ما عملت عليه هو أن اتجنب، حتى الآن على الأقل، طريقة القراءة القديمة، والتي تعني القراءة من البداية الكلاسيكية الى النهاية الكلاسيكية·

 

حين تكون هناك أكثر من بداية وأكثر من نهاية، هل معنى ذلك إننا نقمع فكرة البداية والنهاية الكلاسيكية؟

- حتى لو لم نقمعها، نحن نحررها، ونحرر أنفسنا معها·

 

هل تعتقد أن هناك نهاية واحدة لكل بداية؟

- لا·· هذا غير صحيح·

 

ومع ذلك نحن نرى كل ما يبدأ بالولادة ينتهي بالموت·

- صحيح، ولكن ما دمت في حياتي لا استطيع تجنب هذا الطريق ذي الاتجاه الواحد، أحاول على الأقل تجنبه في رواياتي قدر ما أستطيع·

 

هل الاخيولي (الفانتازيا) هو السلاح الذي يستخدمه المرء لمحاربة "وقائع" الحياة؟

- لا توجد حدود محددة بين العالم الواقعي والعالم المتخيل· الرجل الحر يقمع الحدود بين هذين العالمين، وككاتب، لدي هذا الشعور في أغلب الأحيان· اعتقد بالفعل أن أكثر القدرات التي يمتلكها الكاتب أهمية هي قدرته على الوصول الى لحظة معينة، حيث يعكس فيها الاخيولي والواقعي العالم ذاته كعالم واحد· وعندئذ تتطور الأشياء تطورا طبيعيا· إنها تتطور بالطريقة التي عليها أن تتطور بها·

 

هل تتذكر الكاتب الأول الذي أعجبت به؟ هل حدث أن قلت لنفسك "سأكون مثله"؟

- نعم، إنه عمي "نيقولا بافتش"· كان شاعراً· ولكنني لم اتعلم عن أوائل الكتاب بالقراءة، لقد تعلمت بالإصغاء الى الناس الآخرين وهم يتحدثون، اعتمدت في الواقع على أمرين: على التراث الصربي الشفاهي (الأغاني الشعبية والأمثال) وعلى المواعظ الكنسية وتراث بيزنطة الثقافي· وكان العنصر الشفاهي مهماً في كلا الحالين·

 

ما مدى أهمية هذا التراث الشفاهي بالنسبة لأسلوب كتابتك؟

- اعتقد أن التعبير يجب أن يكون صوته جميلاً في المقام الأول، حين يبدو صوته جميلاً، يكون جملة جيدة تلقائيا، وحين يفكر امرؤ بالأدب بالطريقة التي أفكر بها، فهذا يعني أن الموجود في ذهنه ليس قارئه، بل من يستمع إليه، وهنا تنشأ مشكلة جديدة: يجب أن لا تدع مستمعك يغفو ويستغرق في نومه·

 

هل هناك كتاب يشعرونك بالنعاس والرغبة بالنوم؟

- الكثيرون منهم، واتجنب قراءة كتبهم· أنا اعتقد صدقاً ان لهوميروس الحق في أن يغفو وينام، ولكن لا يحق له أن يجعل مستمعيه ينامون·

 

متى تصبح قطعة مكتوبة مملة بالنسبة للقارئ؟

- حين لا تتطلب من القارئ أن يستخدم أخيولته· بالنسبة لي، القطعة المكتوبة لا تشير الى ذهن القارئ فقط، وهذا يعني أنها لا تستطيع أن تكون مجرد عملية إعمال ذهن بالنسبة للكاتب·

 

أي شيء آخر يحتاجه الإنسان ما عدا "الذهن"؟

- الحب، بكلمات أخرى، يجب أن تحب ما تكتب· ويجب عليك أن لا تسدّ طريق الطاقة الداخلية أيضا إذا كان لدى كتابتك فرصة لتصبح طريقا لها· إذ تركت هذه الطاقة تتدفق خلال كتابك، من المؤكد أن الكتابة ستجد طريقها الى القارئ·

 

ما الذي يعنيه الفن بالنسبة لك؟

- طائر بساقين طويلتين يقف في ساقية ماء، ولا بد له أن يتحرك باستمرار حتى لا يغرق· إذا توقف الفن عن الحركة حتى ولو للحظة، فسيغرق·

 

هل تفكر بالقارئ حين تكتب؟

- أنت لا تملك وقتا أبداً للتفكير بالقارئ خلال الكتابة، ومع ذلك، أنت لديك تعهد معين تجاه قارئك المستقبلي وتجاه نفسك: أن لا تكذب· وأنا أكتب، أحاول ألا أنسى كلمات الروائي الكبير "ايفو اندريتش"، الذي اعتاد أن يقول: "القصد الرئيسي خلال الكتابة يجب أن يكون جعل القارئ يبكي وليس أنت المؤلف"·

 

ما الذي يفعله الكاتب بشكل عام؟ هل هو المجيء بالنظام الى فوضى العالم؟

- لست على يقين مما إذا كان باستطاعتك تسمية عمل من أعمال الفن يدخل النظام في الفوضى المحيطة بك، لم أرغب أبداً بادخال النظام في شيء اعتبره عملاً من أعمال الخالق· الحقيقة انني أريد التعبير عن هذه الفوضى بواسطة كتبي، ولا شيء آخر· وفي هذا الكفاية بالنسبة لي·

 

هل من الضروري كما تقول، أن تكون قارئا موهوبا كي تفهم عمل كاتب موهوب؟

- إذا قرأ قارئ غير موهوب عملا من أعمال كاتب، فلن يفهم هذا العمل· ولكن لدينا في العالم الآن لحسن الحظ قراء موهوبين أكثر مما لدينا من مراجعي كتب موهوبين· ولدينا أيضا"ً قراء موهوبين أكثر مما لدينا من كتاب موهوبين· القراء العاطلون عن الموهبة هم وحدهم من يمتلك سمات خاصة· أفضل قارئ وأكثرهم موهبة في قرننا كان "بورخيس"·· كل إنسان يمكن أن يدرس في الجامعة· ولكن ليس من الممكن أن تعليم الإنسان في المدرسة كيف يؤلف أوبرا "الناي السحري"· لا أحد يستطيع تعليم قارئ كيف يقرأ بين السطور وعبر الكلمات·

 

هل يمكنك تعريف الموهبة؟

- إنها مجرد فيتامين فكري أو روحي· العالم يعاني من قصور الفيتامين على المستوى الروحي أيضاً· المهم هو ما إذا كان الفيتامين الذي يملكه كاتب هو ما يحتاجه العالم الآن· وهكذا، إذا حدث وقدمت الفيتامين الملائم في المكان والزمان المناسبين فسيتحول العالم الى حاضنة كبيرة وسيأخذك إليه· الموهبة مجرد فيتامين، ومن الممكن أن تقدم فيتامينك في الوقت الخطأ· وهذا هو ما نعتبره "مواهب ضائعة"· وبالنسبة للكاتب، للوصول الى سماء الشهرة، أي أن يكون مقروءاً، عليه أن يمر عبر ما ادعوه الأعراف السماوية السبعة: يجب أن يقبله الناشرون، والقراء، ومراجعو الكتب، وفي اللحظة التي يموت فيها كاتب، يمر ببقية الأعراف السماوية· العالم مصاب بالضجر من الفيتامينات التي يقدمها الكتاب الموتى· العالم يشعر إنه لم يعد بحاجة إليهم· ربما يأتي وقت آخر يحتاج فيه العالم مرة أخرى الى الفيتامينات ذاتها· وهذا هو ما نسميه "الانبعاث"، ولادة ما بعد الموت، عودة كاتب·

عن www.Centerofbookculture.org

طباعة  

بودابست ..تداعيات الغربة(1):
في إحدى حدائق أوروبا الخلفية.. وربما مقلب نفاياتها!