رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 18 أبريل 2007
العدد 1770

كتاب
التربية الإسرائيلية في ما بعد - الحداثة:
عندما تحاصر اليهودية ذاتها والفلسطينيين

                                       

 

المؤلف: د· إيلان غور-زئيف

إعداد سلمان ناطور

منشورات مدار، 2006

(170 صفحة)

 

د· عادل سمارة:

تفيد قراءة هذا العمل منذ البداية أن الكاتب يعرض لنا اليهودية من مقترب فلسفي مثالي مجسداً إياها في الروح اليهودية، حسب تناوله، جرياً منه على تجسيد يوحنان بن زكاي (ت 95م) لليهودية بما هي ثورة، اي ثورة يوحنان نفسه، على النزعة القومية المعاصرة في سبيل إنقاذ الروح اليهودية، بالعودة إلى المنفى من عالم القومية الذي تضيق هي بدورها منه· فقد أقرّ بن زكاي واعترف بقوة وغلبة الأغيار على اليهود، ودعا إلى عدم التصادم معهم، بل إلى التعامل مع الذات اليهودية الداخلية· وفي هذا السياق يفصل الكاتب هذه الروح عن نزعة الصهيونية في الإنشداد للقوة وعن نزعة الصهيونية السياسية التي تعتبر اليهود أمة أو اليهودية ديناً قومياً· وإذا افترضنا نزعة المنفى مرتكزاً أساسيا في الكتاب، وهي كذلك بالفعل، يصبح بوسعنا القول إن هذه المراجعة هي اختبار لمدى نأي المؤلف بنفسه عن الإيديولوجيا الصهيونية حتى بزعمها انها إيديولوجيا قومية·

تواصلاً مع مقتربه الفلسفي الصوفي لليهودية، يوجه المؤلف نقداً للصهيونية من مدخل إنكارها للدياسبورا- كما اعتبرها بن جوريون- باعتبار ذلك الإنكار نأياً لها بنفسها عن القدر الأخلاقي اليهودي· وعليه، فإن الكاتب يموضع نفسه ضمن الفهم والتفهم الصوفي لليهودية·

ويواصل نقده للصهيونية بقوله إنها لم تخلق اليهودي الجديد كما زعمت· كما انها لم تربي اليهودي الذي يتجاوز الجيتو ويمد يده بكرمٍ إلى العالم العربي، ولم يقم السلام الحقيقي معه· وقد يكون محقاً في كون الصهيونية لم تخلق اليهودي الجديد بمفهومه الصوفي لهذا الجديد، ولكن بمفهوم الصهيونية، فهي ترى انها خلقت اليهودي الجديد، الذي هو بنظرها مشروع المحارب الدائم والمنتصر دوماً· وبهذا المعنى، فهو ليس محقاً في كونها لم تخلق اليهودي الذي يتجاوز الجيتو ويمد يده بكرم إلى العالم العربي، لأنه طبقاً لكون الصهيونية خلقته على شاكلتها، لن يمد للعرب يداً بل صاروخا! هذا مع العلم أن مد اليد بكرم إلى العالم العربي هو مثابة إخفاء من الكاتب لحقيقة الصراع· فإذا كان لا بد لليهودي أن يقدم للعرب شيئاً، فهو الإعتراف بالرواية العربية للمذبحة، اي إقرار اليهودي/ الصهيوني بجريمته، وبحق الفلسطيني وبالتالي طلب الصفح منه، (على طريقة فوكو وديريدا، فلاسفة الصفح المثالي الذين تحدث عنهم الكاتب لاحقاً)· وكل هذا لا علاقة له بالكرم· فاليهودية أصلا لم تمد يد الكرم إلى الآخرين بأي وقت من تاريخها· وما محاولة الكاتب إلا محاولة لإنتاج يهودية جديدة، لم تكن في أي يوم من أيام تاريخها المديد· فـالتناح وكافة الآداب اليهودية الأخرى من: مشناه ·· وتلمود، هي اليهودية الفعلية، التي لا تقبل الأغيار، وليس رغبة الكاتب بإنتاج يهودية جديدة·

في الفصل الأول من الكتاب، يرفع المؤلف الدراما الصوفية الإفتراضية إلى درجة عالية توصله للتساؤل:

ألا ترى أنه آن الأوان في إسرائيل من أجل تعليم مضاد يُعد لمبادرة ذاتية لإزاحة يهودية (استبدال المكان) ولطريقة حياة دياسبورية؟، فهو يرى في العرق والديانة اليهودية تميُّزاً ينتهي إلى صهيون، ليس بمعنى وطن محدد ولكن إلى الفضاء العالمي لوجود عالم الإنسان والتجاوز مثل صهيون الأصيل·

حتى الآن، فإن نقطة ارتكازه هي أممية المكان بالنسبة إلى صهيون وهذا ما يفترض اعتبار المنفى مكاناً طبيعياً، أو اعتبار النزوع إلى المنفى أمراً طبيعياً وحالة تسامي، تليق بصهيون الأصيل كما يرى· ولكن أممية المكان هي التي سترده إلى اعتبار فلسطين جزءاً من المنفى الأممي ليبرر بذلك ولو عن طريق غير مباشر بقاء المشروع الصهيوني على حاله في فلسطين·

ونظراً لطبيعة إسرائيل يرى مصيرها على النحو التالي:

إن اسرائيل التى لو تمكنت من البقاء لجيل او جيلين، آخرين، لن تتمكن من القيام بذلك إلا في إطار هيكل او كيان سياسي أشبه بـإسبارطة أشرار، وإسرائيل بهذه الصفة (أي إسبارطة أشرار) هي مثابة عملية أو سيرورة، وليست هدفا لعمليات تاريخية تصوغ حيز الخيارات الإسرائيلي-الفلسطيني في هذه اللحظة التاريخية·

من هذا يتضح انّ الكاتب لا يتوقع هزيمة لإسرائيل، وإن كان لا يرضى باستمرارها في حياة تقوم على حد السيف· كما لا يراها قادرة على التجسيد المستقبلي للخيارات الإسرائيلية - الفلسطينية· كما أنه لا يرى أو لا يقترب من خيار آخر هو اندماج إسرائيل في المحيط العربي، هل لإعتقاده انها بطبيعتها ليست اندماجية في المنطقة، ام لأن المنطقة مرفوضة بالنسبة لها (كما يقول عن انحطاط الشرق الأوسط)  أم لأنه هو نفسه لا يرضى لصهيون الأصيل أن يندمج في هذا الشرق الأوسط؟ هذا ليس واضحاً، كما يقول: إن التاريخ بحنكته ودهائه يجسد الحقيقة المرة التي يتهرب منها الإسرائيليون والعرب كالهارب من النار، ألا وهي أن شعب إسرائيل بات جزءاً من الإنحطاط والأفول الشرق أوسطي، وبهذا المعنى فانه (اي الشعب الإسرائيلي) يعد واحدا من اهل البيت في العالم العربي· هنا في هذا المكان لم يعد ثمة مستقبل لا لصنع او جمع ثروة طائلة ولا لمجتمع حر، منفتح متنور وديمقراطي، ولا حتى للرسالة الأخلاقية الإنساني كما يقول·

 هنا يجرد الكاتب العرب، الناس والجغرافيا من الارتقاء إلى درجة تحقيق الصهيوني الأصيل لنفسه ورسالته، وبالتالي يضع أمام اليهود خيار المنفى أو خيار الإندماج الانحطاطي في الشرق الأوسط· عمليا، هذا المنطق لا يزال يحكم اليهودية منذ نشأتها إلى اليوم· فاليهودية ترى اليهود جماعة نوعية لا بدّ لهم من العيش منعزلة عن الآخرين، كما تجسدت على مرّ تاريخهم·

وما يزيد ميله نحو نزعة المنفى وجود مأزق آخر غير إسبارطة الأشرار أمام إسرائيل وهو المأزق التربوي، بمعنى أنه لم يعد سهلا على المربين خداع الجيل الجديد بعبارات مثل تحسن الاحوال ، او النصر حليفنا···الخ فيقول لقد اخذت تنحسر قدرة تعبئة وتجنيد الأفراد للتضحية من اجل المثل والاساطير المهيمنة حتى لو ظلت تلهج الألسن بـالموت للعرب، أو  ليس لنا وطن آخر ···الخ·

وهذا ما يوصله إلى القول:

إن غاية ورسالة التربية على المنفى، هي في أبسط معانيها ضمان أن يكون أبناؤنا مستعدون تماماً للعودة إلى حياة المنفى"· ويبرر ذلك بالاستنتاج: لا يوجد مكان آمن هنا لحياة تجمع يهودي مستقل وذي سيادة، غير قابل للتحول إلى إسبارطة أشرار· وهذا تأكيد على رفض الإندماج في المكان، الإقليم إن صح التعبير· ولكن على ماذا يقوم هذا الرفض؟ هل هو قائم على التربية والثقافة العنصرية للدولة الصهيونية، أم على ثقافة المستوطن الأبيض، أم على ثقافة التصوف اليهودي المتعالي، أم على ثقافة اليهودية كدين ونهج حياة؟ ·

ويؤكد نزعة المنفى بقوله: فالتربية على المنفى لا تعرف الدول وليس لها بيت أو موطن··· هنا يغدو عدم الثبات قيمة، فعدم الثبات لا يشكل ضرورة حتمية ولا إمكانية مجردة، وإنما رسالة أخلاقية وغاية· ولكن، لماذا لا يكون لهذه النزعة، بل القناعة، أساس آخر ترتبط فيه وهو أن التربية على المنفى وخاصة في حقبة الرأسمالية المعولمة، هي خاصية راسمالية، كرأس المال الذي لا يعرف وطناًً؟

ثم يضيف:

وباختصار، فإن التربية على المنفى التي تؤدي إلى الخلاص، تخضع لمثل يهودية راسخة الحياة في ظل الحضور الإلهي والاستجابة لنداء المسؤولية الملح نحو الحياة الجديرة كحياة مفعمة بالحب والسمو والاجتهاد الخلاق المستمر، وبالاستعداد لمد اليد للآخر·

 لكن هذا الآخر، من جهة، ومد اليد له من جهة أخرى، هو حالة مفترضة ومجردة، إلا إذا كان هذا الآخر قريبا من اليهودي الذي يتحدث عنه· فلو كان الأمر بريئاً بسيطاً على هذا النحو، لكان الآخر هو العربي الفلسطيني، ولتم مد اليد إليه، أو بوضوح أكثر، لكان قد تم رفع اليد عنه، بما أن اليهودي في إسرائيل هو محتل ومستوطن· أو لكان الكاتب قد وازى بين الكارثة النازية ضد اليهود والمجموعات القومية والإثنية الأخرى، والكارثة التي أوقعتها الصهيونية بالفلسطينيين، والفارق بينهما هو إشتداد الأولى وامتداد الثانية·

 

من المنفى الفلسفي إلى المنفى الصهيوني

 

وبهذا المعنى فان التربية على المنفى تجسد دينية يهودية عالمية عميقة على نطاق عالمي· محاولات تجسيد اليهودية ومحاولات التغلب عليها، مؤجلة لصالح الصراع من اجل موقف انساني عام ضد سائر مفاهيم العودة للوطن الى الجنة المفقودة، وبضمنها المفاهيم اليهودية··· وفي حقيقة الأمر فان التربية على المنفى بمثابة مشروع للانسانية جمعاء· وهي على الصعيد اليهودي في اسرائيل ملزمة باعتراف بامكانية وضرورة وجود منفى يهودي في فلسطين المحررة· وفي هذا السياق فان باستطاعة هذه التربية بل ومن واجبها ومنذ الآن اتاحة مجال لمشروع إعادة بناء يبنة، (أي إعادة بناء ما تهدم) عليها أن تعود بصورة انتقادية لمنطق العقيدة المنفى ليوحنان بن زكاي، الذي أعاد بناء السنهدرين والمؤسسات اليهودية الأخرى في يبنة، بعد تدمير أورشليم عام 70 ميلادية (والذي ثار ضد النزعة القومية المعاصرة)، المتصارعة والمتحاربة مع الأغيار، في سبيل إنقاذ روح اليهودية·

 وهكذا، لا يلبث الكاتب أن يخرج إفتراضياً من النزعة الإستيطانية المغلفة بالدين حتى يعود إليها عبر نزعة استيطانية ظاهرها منفوي وجوهرها استيطاني صهيوني، معتبراً أنه على الصعيد اليهودي هناك ضرورة للإعتراف بضرورة وجود منفى يهودي في فلسطين المحررة· وهنا يعقد التناقض بين هذه النزعة اليهودية وبين رفض يوحنان زكاي للقومية المعاصرة، حيث يرفضها من أجل إنقاذ روح اليهودية· وعليه، فنحن أمام تحول في منفوية الكاتب من الخروج من فلسطين، إلى تبرير البقاء فيها· وهكذا، فهل نجح الكاتب كما زعم في الفصل بين روح الرسالة اليهودية وبين نزعة القوة الصهيونية؟ لا نعتقد ذلك!

 

التربية على التعددية الثقافية في مجتمع ما بعد الحداثة

 

ثم يفرد فصلاً بعنوان التعددية الثقافية في مجتمع ما بعد الحداثة، ويقتطف ما يلي من عزمي بشارة: "النموذج الذي يبدو منطقيا من وجهة نظري هو الذي يدعو الى اوتونوميا ثقافية وظيفية، وليس لأن المطالبة بالأتونوميا الإقليمية تذهب الى ما هو ابعد من ذلك· والجدير بالذكر انه يمكن اعتبار صلاحيات المجالس المحلية اوتونوميا اقليمية·وحيث ان العرب في اسرائيل موزعون في كل مناطق الدولة، وبضمن ذلك المدن المختلطة، فانه لا يمكن على الإطلاق ان تطبق عليهم اوتونوميا اقليمية· لذلك يمكن ان تطيق عليهم اوتونوميا وظيفية"·

بالطبع ليس هنا مجال نقض مزاعم بشارة بأنه قومي عربي وفي نفس الوقت يُقر ببقاء الفلسطينيين ضمن النظام والسلطة الصهيونية الإستيطانية ويحصر مطالبهم في المستوى الثقافي، بينما يعتبرهم أقلية قومية في الوقت نفسه· هذا دون ان يتطرق بشارة بكلمة للمنفى الفلسطيني، للشتات! وينتهي الكاتب إلى أنه لا بشارة، ولا اليهود الشرقيون الذين يشعرون بالاضطهاد يحققون متطلبات تربية متعددة الثقافات· فبشارة واليهود الشرقيون يريدون حصتهم في هذا المشروع· أي يريدون أن يكونوا شركاء فعليين فيه·

يفصل الكاتب بين التربية متعددة الثقافات والتعدد الثقافي الذي هو لبرالي غربي· فهو يرى أن التربية متعددة الثقافات تُباعد ما بين ذاتها وبين المباني الإثنية والقومية وأنها متجاوزة للتعدد الثقافي الذي حين يربطه باللبرالية الغربية، إنما يربطه بالطبع بأنظمة الحكم، بالطبقات الحاكمة· وكأنه يحاول الخروج على التربية كما هي من الدولة، إلى هيمنة الدولة·

 وحين يصل بنا الكاتب إلى الاستنتاج أن عزمي بشارة من الأقلية القومية العربية في إسرائيل واليهود الشرقيون وهم إثنية كبيرة في إسرائيل، لم يقدما بديلاً متعدد الثقافات، مثلهما مثل التربية الدولانية التي لا تقدم أيضا تربية متعددة الثقافات، فهو يصل إلى الاستنتاج بأن إسرائيل لم تتخطى التعدد الثقافي الإثني· كما ليس واضحاً فيما إذا كان الكاتب أدمج الإثنية الجديدة في الإثنية الأشكنازية، اقصد اليهود الروس الذين يشكلون اليوم إثنية صاعدة تنافس هذه المرة على قيادة الدولة علانيّة وبالسرّ أيضًا· فما معنى وجود هذا الكمّ الهائل من رجال المافيا من اليهود الروس في إسرائيل والعالم· وما هو سرّ علاقتهم بها، أي إسرائيل!؟·

يرى الكاتب أن التربية متعددة الثقافات، المتجاوزة للإثنيات تصطدم بالتربية اللبرالية الغربية التي تقبل بالتعددية اللبرالية شريطة أن لا تتعرض السلطة اللبرالية لتحدٍ يناقض المفهوم اللبرالي للثقافة السياسية والممارسة الديمقراطية الذي يضبط الحوار التربوي بين الاختلافات الثقافية الجماعية· أي تربية لا تقدم بديلاً للتربية الدولانية، التربية بالهيمنة· وهو يرى أن التربية الدولانية الإسرائيلية، الخطاب الدولاني في اسرائيل بين الجاليات المختلفة والثقافات المختلفة هو خطاب عنفي واضح· ولماذا لا نرى التربية متعددة الثقافات تحديا للفلسطينيين، سواء في فلسطين المحتلة، أو في فلسطين المحررة· فهذه التربية تعتبر تحديا لانتمائهم القومي، علما أن اليهود ليس بإمكانهم تجاوز اليهودي: الديني القومي!؟

ولكن السؤال هنا: هل هناك توجه في الصهيونية لتجاوز التعددية الثقافية باتجاه التربية متعددة الثقافات؟ بالطبع، لا· لأن اليهودية نشأت بفعل التاريخ، وليس خارجا عنه· بمعنى أنها ثقافة متعيّنة، وغياب التعدد الثقافي، يعني غيابها· وعليه، لا يعود هناك مجال حقيقي لنقده للصهيونية بأنها لم تنجح في تجاوز التعددية الثقافية· هذا مع أهمية الإشارة إلى الإدماج الذي يذكره الكاتب بين اليهودي الصبار المولود في إسرائيل وبناء الدولة حسب بن غوريون، لأن هذا لو حصل، فإنه في نطاق التعددية الثقافية لليهود الذين هم متعددو الثقافة حسب أصولهم، ولكن يستثنى بوضوح منها العرب، طالما أن الأمر محصور في اليهود·

 وفيما يخص الجانب العنفي، فهو يعود إلى ما بدأ منه، إلى إسبارطة الشريرة ولكن هذه المرة، ودون ان يذكر، أن هذه الشريرة هي أيضاً شريرة داخلياً، بمعنى ان الخطاب الثقافي بين الإثنيات في إسرائيل هو صورة داخلية للعنف الخارجي الذي يطبع إسبارطة هذه، وكأن كلا الخطابين يغذي الآخر ولا ينفيه· واضح لنا أن إسبارطة الشريرة هي أقلّ شرّا من (يهوشع بن نون) في (يريحو/ أريحا)· أو التطهير القومي في الـ1948·

ومن دون أن يشير إلى استخدامه لنظرية أنطونيو غرامشي في الهيمنة، فإن شرحه لدور الدولة، المجتمع السياسي في إسرائيل، هو تطبيق نموذجي لنظرية غرامشي لدور الدولة في المجتمع المدني وخلقه على شاكلتها· ويصل إلى الإشارة كيف تستخدم الدولة الهيمنة وكيف أن المؤسسة الرسمية، الدولة، تجعل من ضحاياها، اي المواطنين معجبين بها· واكثر ولاء لها، رغم أنها أغرقتهم ببراعة في الهيمنة، اي تحكمت بوعيهم فتمثلوا واستدخلوا الهيمنة وانتهوا معجبين بها·

بالنسبة للكاتب، فإن التربية من أجل السلام والتعددية الثقافية تربية تهجس بتطلعات التسامي في الصراع الدموي الاسرائيلي الفلسطيني وهو يصل بهذا الى الانتقال من التعددية الثقافية إلى التربية على الثقافة المتعددة التي شرطها امكانية الإلتزام، الأممي قبول آخرية الثقافة المختلفة·

 والكاتب في هذا المستوى، إنما يدخلنا في جدال طويل ولكن متجدد هذه الأيام فيما يخص المسالة القومية التي يشن عليها باسم الأممية اليهودية هجمة الإتهام بالعنصرية· وهذا الهجوم إنما يتقاطع مع حراك العولمة الراسمالية على الأرض التي تقضم السيادة القومية في المجتمع الحديث وتركز على تخليع حدود القوميات، حدود الدولة القومية· ولكن لصالح من؟ هل هو للتعايش الإنساني الأممي المتساوي، أم هو لكي يتنقل راس المال بحراك استغلالي حر في البلدان الفقيرة أو غير الصناعية، بلدان الاستهلاك؟ لعل هذا يكشف لنا الخيط الناظم الراسمالي في هذا الطرح، وإن كان مطلياً بالصوفية الفلسفية· فـالالتزام الأممي بقبول آخرية الثقافة المختلفة مطلوب بالنسبة للكاتب في أي نظام اجتماعي سياسي إذا ما انتقلنا من التجريد إلى التعيُّنْ فالآخر ليس مجرد حالة ثقافية، بل هو في الأساس حالة اجتماعية طبقية· وليس هنا مجال الدخول في إشكالية وجود ثقافة واحدة للمجتمع الواحد، وحتى وجود ثقافات في المجتمع الواحد محددة على اسس طبقية، إلى جانب المشترك الثقافي القومي للإمة الواحدة·

لا شك ان الكاتب محق في الحديث أن التربية على التعددية الثقافية تحمي الثقافات المهمشة، وهي بديل مطلوب للتربية الغربية السائدة، وهي كذلك تكشف التمركز الاثني للتربية الغربية التقليدية· ولكن هذه المساواة، وإن كانت ضد النمط اللبرالي الغربي في الثقافة، إلا أنها لا تتجاوزه في الاجتماع والاقتصاد والسياسة، بل تعود لتلتزم به مجدداً وبطريقة هي نفسها تجسد نفسها كنموذج هيمنة· هذه المرة هيمنة التعددية الثقافية التي تخضع الإنسان لهيمنة أعمق، هيمنة الطبقة الرأسمالية· وعليه كأن الكاتب يقول لنا، في المستوى الاجتماعي الاقتصادي الطبقي لا مكان إلا لِـ (تينا There is no alternative TINA) أي لا بديل للراسمالية·

شأنه شأن اتفاقات التسوية ولا سيما أوسلو، فإن الكاتب يجعل نقطة ارتكازه هي اللحظة الراهنة، الراهن السياسي، مبتعدا كلياً عن كيفية تكوُّن هذا الراهن السياسي، وما هي آثاره على الآخر الفلسطيني والعربي· وهنا يكمن تناقض خطير في مبناه الفكري· فكيف يمكنه استحضار الروح الصوفية لليهودية- وهي ليست في اليهودية وحدها- كيف يمكنه استحضار كل هذا القديم ليواجه به مطلق المسألة القومية، سواء قومية المركز الاستعماري/ الإمبريالية والمعولمة، أو قومية الأمم الخاضعة للذبح الرأسمالي؟ كيف له أن يستحضر كل هذا العتيق تاريخياً، ولا يستحضر، او يسمح للآخر، الفلسطيني باستحضار ما قبل عدة عقود، بل باستحضار الأمس ووعي اليوم! فمنطقه يبقى يهوديا نافيًا للآخر الفلسطيني·

* عن نشرة كنعان الالكترونية

 www.Kanaanonline.org

طباعة  

أزمة شعر أم أزمة شعراء؟