محمد الأسعد:
في عدة مناسبات تستفتي بعض الصفحات الثقافية في الصحف السائدة نقادا أو شعراء أو عابرين حول ما تدعوه أزمة القصيدة العربية الراهنة، ودائما تجيء مناسبة هذا الاستفتاء مترافقة مع حدث سياسي كبير أو كارثة وطنية أو قومية·
سأنطلق من الاختلاف مع أصحاب هذا التوصيف، أو التكييف لظاهرة يُساء فهمها كثيرا، أعني ظاهرة قد تكون عدم الرضا عن ردود فعل الشعراء تجاه الأحداث، أوالإحساس بأن القصيدة لاتغيّر شيئا في العالم من حولنا ·
أسأل بداية، هل هناك أزمة قصيدة؟ وماذا يعني أن تتأزم القصيدة؟، هذه الكينونة التي لاتقوم بذاتها بقدر ماتقوم بفعل إنسان·
سؤال أصحاب هذا الاستفتاء وأمثاله، يفترض وجود قصيدة عربية يحيط بها جمع من الشعراء، يتناول كل شاعر طرفا من أطرافها، ويرفعها الجميع، فتنحط وتنحدر أو تتأزم· هذه صورة كاريكاتورية مضحكة تمثل فرضية متخيلة ·
لا أعتقد أن هناك وجودا لقصيدة في مثل هذه الوضعية، لأن القصائد متعددة بتعدد الشعراء، وما يصيبها مجتمعة أو متفرقة إنما يصيبها بفعل هذا الشاعر أو ذاك· أعني أن الأزمة إن كان هناك من أزمة هي أزمة شعراء، أو بتبسيط أكثر، هي أزمة أفراد من الجنس البشري لم يعودوا قادرين على كتابة قصيدة تنسجم مع طموح أصحاب الاستفتاء أو طموح قارئ ما أو طموح ثقافة ·
هناك مطمح ثقافي إذن يصدر عن وسط أو أوساط قد تكون سياسية أو أدبية أو اجتماعية ترى أن مايكتب من شعر وينشر يعجز عن إحداث فعل نفسي أو اجتماعي أوثقافي كما كان يحدث في الماضي، أو يتجاوب مع حاجات الالتفات الى هذه القضية أو تلك، ويربط الطامحون بين هذا وبين انكسارات وهزائم الأمة أو الشعب· هم إذن يرون رابطا سببيا بين هذه الانكسارات واتجاه الشعراء نحو الداخل، داخل الشاعر وانكساراته وخسارته· انكسار أمة يفسر انكسار شعراء، وهزائم أمة تفسر هزائم شعراء· وكيف هو هذا الانكسار وهذه الهزيمة؟ إنها في اتجاه الشاعر بقصيدته نحو الداخل، وفقدان اتصال قصيدته بالخارج، وتحديدا بما يدور من أحداث·
هذا المطمح الثقافي إذن هو أن يتخذ الشاعر طريقه نحو الخارج، وتتصل قصيدته بما يدور حوله من أحداث، وبخاصة وأن هناك حاجة ملحة كما يرون عادة، فنحن نعيش أزمتين أو أزمات، ولا تكون قصيدة الشاعر في نظرهم إذن إلا إذا اتصلت بالخارج، وبهذه الأزمات المتفاعلة وإلا فهي في أزمة أو أن شعراءها في أزمة·
وفق هذا المنطق، لو افترضنا عدم وجود هذه الأزمات، هل ستسمحون للشاعر بالعودة الى داخله ؟ أم ستجدون أزمات خارجية أخرى تسحبه دائما من الداخل؟
الوعي الشعري أولا
هذا التكييف لما يدعونه أزمة القصيدة العربية خاطيء من منطلقين:
الأول، ليس هناك بالضرورة تلازم بين انكسار وهزائم أمة وانكسار وهزيمة شاعر· للشعر قوانين انكساره وانتصاره المستقلة الى حد ما، فقد يكون منكسرا ومهزوما أي رديئا، حتى في وسط انتصارات وأمجاد الأمة، وقد يكون عظيما ورائعا وسط الهزائم والانكسارات·
الثاني، إن الداخل والخارج ليس مرادفهما الانكسار والخسارة والاتصال بالخارج وما يدور من احداث· هذا توصيف لا يصلح لما يدعونه الأزمة، لأن تجربة الشاعر أو الفنان بعامة لاداخل لها ولا خارج، هي داخل وخارج معا وشىء آخر هو الحضور الإنساني في العالم· ماالذي نعنيه بالحضور؟ وماالذي نعنيه بالعالم ؟
من المؤسف أن يقاس حضورالشاعر، سواء في الماضي أو الحاضر، بمعيار ملاحقة الخارج وما يدور فيه من أحداث حسب توصيف أصحاب الأزمة، لأن حضوره أعمق من هذا بكثير، وعالمه أوسع من حدود هذه القضايا أو الأزمات· هو حاضر كتجربةِ كشف مصيري ذي معنى، وعالمه ليس هو فقط عالم الراهنين بل وعالم الذاهبين والقادمين· هو تجربة شخصية بالضرورة، وعالم مأخوذ بتعابير الشخصية الفريدة·
اسمحوا للشاعر إذن أن يقارب هذا العالم مقاربة مختلفة عما تُعلّمه المدارسُ والجامعاتُ والأحزابُ والحكوماتُ، أو هذه الكتلة التي تسمونها عادة المجتمع أو الأمة· اسمحوا له أن يقول وعيه الشعري بالعالم، لا أن يستعير خطاباتكم، فيتغير أو يتوقف عن التغير كما تشاء رغباتكم مهما كان لها من قداسة في نفوسكم·
اذا أفلت الشاعرُ والشعرُ من هذه الإلزامات التي أراها خارجية لا تعلّقَ لها بوظيفة صياغة رؤية فريدة سيقع في حقل مختلف ومعايير مختلفة ومشاغل أعمق، وغاية أكثر روعة، أو بعبارة مختصرة سيقع في واقع مختلف ·
ماهو الواقع؟
حين تسألون لماذا الابتعاد عن الواقع؟ سيسأل الشاعر من جانبه ما هو المقصود بالواقع؟ هل هو هذه الاحداث التي تصفون؟ أم تلك التي يصفها قوم آخرون وثقافة أخرى؟ هل هو واقع الماضي أم الحاضر أم الآتي؟ أم هو مجموع كل هذا؟
تأملوا صورة واقع الماضي الذي يعيش فينا، وصورة واقع الحاضر، وتأملوا صورة واقع الآتي بعين واحدة تعلو على الزمن، عندها تدركون أن واقع الشاعر شيء مختلف يطمح الى استكمال الوجود أو إحياء الوجود بكل أبعاده· دعوتكم للالتصاق بهذا الحدث أو هذه الأزمة هي دعوة لعزف معزوفة ناقصة بآلة واحدة لا تشارك فيها آلات الماضي ولا آلات الحاضر· وما هكذا يحيا الشعراء أو يودون للبشر أن يعيشوا حياتهم ·
اسمحوا لي أن أضع هذا التشبيه بين أيديكم· إنني أفترض أن طموح الشاعر هو أن يحيا الوجود بكل أبعاده، أن يحرك أصابعه على أوتار الماضي والحاضر والمستقبل في وقت واحد معا، ويتسع هذا العالم ويتعمق إذا لم نختصر هذه الأزمات وآلاتها بهذا الشعب أو هذه الطائفة أو هذه القبيلة، وانتبهنا الى واقعنا الإنساني الباطن· نحن جزء من إنسانية أوسع ووعينا جزء من كل أكبر·
استنتج من هذا أن الواقع الذي تدعون الشاعر إلى ولوجه أو الالتفات اليه ربما كان شبهَ واقع أو شظية من شظاياه، وليس هو الواقع الذي يستبطن كل شيء، أعني أساس وجود الكائنات والطبيعة والحياة· هو منه بالطبع، فلا شيء في هذا الوجود ألا وهو جزء من شبكة، ولكنه ليس كل شيء· ومن الأفضل الإصغاء إلى الوعي الشعري بالعالم ومطالبة الشاعر أن يكون فريدا ورؤيويا في وعيه فحسب، لا صانع تسليات أو ناسخا أو محاكيا أو هاذيا· أن يكون جادا وكبيرا في مطامحه لا باحثا عن شهرة خادعة أو مهرجان باذخ· نعم لكل إنسان الحق في أن يطالب الفنان والشاعر وكل صاحب بصيرة ورؤيا أن يكون جميلا ومسؤولا، أن يكون معبرا عن أعمق النوازع الإنسانية، ولكن اتركوا له أن يكون حرا في مقاربته لهذا العالم ·
نحو النقد الثقافي
هل هناك أزمة شعر؟ لا بالطبع· هناك أزمة شعراء، وفي كل اللغات، وفي كل العصور· هي أزمة شعراء في ضوء هذا المعيار الذي أراه أكثر أهمية: مدى استشراف الشاعر لتجربة معنى كونه إنسانا في هذا العالم وفرادة هذا الاستشراف·
هذا معيار لاتأتي به نزوة هذا أو ذاك من نقاد الأدب أو المجتمع أو السياسة أو الأخلاق، بل هو معيار تصوغه ثقافة· هنا في الثقافة يقع جوهر الموضوع الذي تحوم حوله أسئلتكم ولا تلتقطه· الثقافة العربية بكل أساسياتها أو أنساقها الأدبية والدينية والفلسفية والعلمية هي التي قدمت وتقدم منذ زمن طويل، وعبر حساسيات العصور التي ساهمت في تكوينها، منظور المقاربة، مقاربة العالم (أو هذا الحدث أو ذاك إذا شئتم)، للشاعر والمتلقي والمؤسسة الوسيطة صاحبة الخطاب السلطوي واللغة ·ولئن كان هناك من نقد يمكن توجيهه إلى الشاعر فهو نقد يجب توجيهه إلى المنظور الثقافي· واسمحوا لي هنا أن أذكّر بصياغة نظرية وتطبيقية طرحتها ومارستها في كتاباتي النقدية منذ العام 1981 لما أصطلحتُ عليه باسم النقد الثقافي، وهو ماتبلور في كتابي بحثا عن الحداثة (1986). أعرف بالطبع أن الناقد د· عبد الله الغذامي التقط بعد ذلك في التسعينات هذا المصطلح، كما التقط الصياغة النظرية والتطبيقية التي طورتها في كتاباتي على امتداد الثمانينات، ولكن ما قدمه الغذامي في كتابه المعنون النقد الثقافي :قراءة في الأنساق الثقافية العربية (2000) كان ابتسارا واختزالا مخلا لما هو أعمق وأبعد من مجرد ملاحظة دور الشاعر في شعرنة القيم الاجتماعية أو إشاعة وتثبيت قيم الفحولة والطغيان· العكس تماما هو ماطرحته تحت مصطلح النقد الثقافي لأول مرة في اللغة العربية، وقبل أن يشيع هذا المصطلح في الثقافة الغربية ·
ولأن كتابي ذاك لم يصل إلا إلى قلة من الناس، بعضهم استهان به جهلا وبعضهم وضعه على رأس قائمة قراءاته المهمة، اسمحوا لي بذكر شيء مما جاء فيه وله علاقة بموضوع أزمة القصيدة العربية ·
في ذلك الكتاب، دعوتُ، على أساس نظري وتجريبي وبعد قراءة موسعة في حركة تجديد الشعر العربي الحديث، إلى نقد القصيدة لا انطلاقا مما تجسّده من قيم ورؤى فحسب، بل وبالتلازم مع العودة إلى الأساسيات أو الأنساق الثقافية-الاجتماعية التي تؤسس هذه القيم والرؤى، وعنيت ُ بها الأساسيات الدينية والأسطورية والفكرية بعامة التي تقف وراء صياغة موقف الإنسان من العالم وتثبيته، سواء كان شاعرا أو غير شاعر· وكتبت يومها أن انحطاط الشعر أو عظمته يمكن أن تفسرها هذه الأساسيات التي بها يفهم الانسان العالم ويتعامل معه· الشاعر لايختلق الأساس أو النسق، بل هو أمام واحد من موقفين في اشتباكه مع أربعة أطراف هي، الثقافة (الموروثة والراهنة) والمتلقي (نتاج الأساسيات نفسها) والمؤسسة الوسيطة (الخطاب المهيمن) واللغة (بحساسيتها العامة)، فإما أن يتواطأ مع هذه الأساسيات والأنساق فيكررها ويعززها، أو يتمرد عليها ·
هنا تقع الأزمة أو الاشكالية بمصطلحي آنذاك· ومن هذا المنطلق قلت في كتابي المشار إليه:
إن الطريقة التي يسير فيها الجدلُ بين الأطراف الأربعة في العالم الموضوعي تشير إلى علاقات تتم في نطاق بنية أوسع هي بنية النظام الاجتماعي، ولا بد لمنهج النظر أن يعكس هذه العلاقات الموجودة فعلا بين الظواهر، وأن يعبّر عن تبدلات الموضوع التي تطرأ على الواقع فعلا· وهذا يستلزم ميلاد النقد الثقافي الشامل في الوطن العربي، ذلك الذي ينسجم مع المفهوم المعاصر للفن بوصفه تجربة للعلاقات الإنسانية ···ولذلك هو نقد تركيبي وتحليلي في وقت واحد يُبنى على المعطيات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية في سياق الزمن، ليصل إلى إضاءة وتقييم التجربة الشعرية (بحثا عن الحداثة، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1986، ص72)·
بهذا المعنى، الأزمة أو الإشكالية غير مقيدة بالأحداث والأزمات الراهنة، أو بهذا الجانب من الحياة أو ذاك، بل هي إشكالية تلازم كل فعل إبداعي، وتتجاوز الآني والعابر إلى شيء أعمق يتصل بممارسة الفعالية الشعرية، أو بوعي العالم شعريا، إنطلاقا من أسس وأنساق ثقافية· هذه الأسس في ثقافتنا العربية هي الثبات في العلاقة بين الوعي ومعطيات التجربة، أي أن التجربة مفهوم ملتبس وجديد في الثقافة العربية التي مازالت تحيل الأصالة الى حسن الاتباع لا التفرد، وتحفظ للعالم صورته الأزلية· ومن هذه الأسس أيضا الخرافة وتمثيلاتها أو التصور الزراعي الرعوي للعالم، والافتقار إلى الحرية أمام الخطاب السلطوي المهيمن بجوانبه الأيديولوجية والسياسية، وهناك التجزيئية، أي الغفلة عن الكلي والشامل·
هناك إذن أزمة أو مشكلة شاعر، وهي مشكلة عامة لا تختص به كفرد متميز بقدر ما تختص به كإنسان بالدرجة الأولى، كمشروع باحث عن تحقيق وجود عميق ووطيد في ظل شرط انعدام الحرية على أكثر من صعيد في تعامله مع الأساسيات التي وصفتها· ولكن هذا الشاعر يمتلك من جانب آخر وجها خاصا لمشكلته، وهو أن تحققه في التاريخ الثقافي لن يكون بالخضوع والتكرار بل بما يمارس من استشراف خلاق يعيد مساءلة الأساسيات والأنساق، أو نظرة الإنسان العربي الى العالم وإلى نفسه·