رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 7 مارس 2007
العدد 1764

البدوي الذي لم ير وجهه أحد
الشاعر محمود البريكان في عزلته

بمناسبة الذكرى الخامسة لرحيله

 

                                                                 

 

بقلم: عزيز الساعدي

يفتتح مشهد جريمة الاغتيال على جسد الشاعر شاخصا أمام رعب وذهول عيوننا، ممددا على بلاط صالة الاستقبال مثخنا بسبع عشرة طعنة مدية حسب تقرير الصفة التشريحية، نافذة كعيون مفتوحة من هول الرعب· راسمة داخل أعماقها اللامرئية صور قتلة خرجوا من ظلامية عصور القتل التي توارثناها من ثقافة تاريخنا العربي السياسي الملوث بالدم· وعلى جدار غرفة الصالة تواجهك لوحة بقايا السفينة التي جنحت على الساحل الصخري، وهي تندب بحارتها الذين التهمهم ظلام البحر العاصف، تنبئك بقدرية فناء الشاعر وسط مجازر - العقاب الجماعي - الذي وزعه الطاغية صدام على ضحايا شعبنا بصورة عادلة· إن عجبي ليس منصبا على اغتيال الشاعر وإنما عجبي من بقاء الشاعر حيا طوال فترة ثلاثة وثلاثين عاما وهي الفترة الممتدة منذ كتابة قصيدته (حارس الفنار) التي انتظر فيها الزائر المجهول، حتى تاريخ اغتياله في ظلمة 28/2/2002·

جاء ذلك الزائر الدموي في أعماق الساعات في ظلمة الرؤيا، ودخل ببرود وطعن بنصل العدم، فسقطت فنارات العوالم دون صوت "للريح سيدة الفراغ"، كان البريكان ينتظر ذلك الزائر المجهول منذ زمن بعيد: أعددت مائدتي وهيأت الكؤوس متى يجيء··· الزائر المجهول (حارس الفنار) شبح عائد من ظلام المقابر·· رسول من الغيب يحمل لي دعوة غامضة·· ومهرا لأجل الرحيل (الطارق)·

إن ذهول البريكان وعزلته وليس اعتزاله، وصمته الناطق وامتناعه عن النشر رغم المغريات العديدة من قبل المؤسسة الثقافية للسلطة بنشر جميع أعماله، كان له ما يبرره، وسط مظاهر العقاب الجماعي والزيف والتطبيل الذي تمارسه السلطة ومؤسساتها الثقافية لتجميل وجه النظام وشرائها لذمم المثقفين بأبخس الأثمان لقاء تخليهم الكامل عن حرية الكلمة والموقف الإنساني الشجاع والنبيل، بل إن بعضهم قد تجاوز هذه الحدود بتلطيخ أياديهم بدماء العراقيين· في خضم هذه الأجواء المحملة بعفونة روائح الغدر والخيانة والوشاية التي توصل صاحبها إلى حبل المشنقة، كتب البريكان صور قصائده الشعرية محملة بأبعادها الإنسانية والرمزية والدلالية والاجتماعية·

إن قراءة تأويلية لقصائده المنشورة في الفترة الأخيرة وما تحمله من رسائل مشفرة فيها التركيز والاختزال المكثف والاحتجاج والتمرد تنبىء عن موقفه الرافض للاحتفالات الدموية الضاجة المثيرة للخوف والفزع في الناس التي تقيمها السلطة أثناء حملة الإعدامات التي تنفذها في الساحات العامة أو أثناء بث البيانات حول الانتصارات الوهمية المزعومة في ساحات المعارك التي ساق فيها النظام الشعب كالقطيع للموت·

"أرأيت كيف تدمر المدن المهيبة في الخفاء"

"شاهدت ما يكفي، وكنت الشاهد الحي الوحيد"

"في ألف مجزرة بلا ذكرى"·

"وقفت مع المساء"·

"أتأمل الشمس التي تحمّر: كان اليوم عيد"

"ومكبرات الصوت قالت: كل إنسان هنا"

"هو مجرم حتى يقام على براءته الدليل"

قبل أكثر من أربعين عاما، كنت أراه سائرا بوجل المأخوذ جنب النهر المار بمنطقة العباسية حيث تمثال معلمه الفراهيدي شاخصا في موقفه القديم، وحقيبته السوداء تحت إبطه وهواجس "ابن زريق في مشغله الشعري ترافقه"، يشكل منها كائناته المرئية والرؤيوية·

شاهدني للمرة الأولى في منزله حيث كانت تربطني صداقة مع أشقائه القاضي سليمان البريكان والمحقق العدلي الشاعر عبدالله البريكان ولم يدر بخلدي بأني سوف أحظى بصداقته وأصبح وكيله العام وشاهدا على جريمة اغتياله البشعة، هذه هي صورة البريكان في ذهني والذي ظل سائرا في دروب رؤيته وعزلته المحفوفة بالمخاطر··· مضى ساهما وهو يصلي في محراب مملكة الشعر··· متوغلا بعيدا داخل غابة روحه التي تظللها أنغام شوبان وموسيقى بحيرة البجع لجايكوفسكي، مبتعدا عن صخب المهرجانات الشعرية، التي كان النظام يقيمها في المرابد الشعرية وفي غيرها، حيث كان الشاعر يسر إلى خاصته بأن ما يقدم في تلك المهرجانات باسم الشعر والثقافة لا يمت بصلة إلى الشعر الحقيقي أو الثقافة الحقة·

إن البريكان لم يكن مجرد ناسك يعيش عزلته بل فاعل يمجد العمل والحياة ويتآخى مع الطبيعة كي يطوعها ويتذوق خفايا الجمال داعيا إلى "الشعر العميق" المشحون بالفكر، ينقد بحرارة خاصة ويحمل من الإحساس أكثر ما يسمى في العادة شعرا عاطفيا·· كل هذا الإحساس بروعته وجمال الحياة وحبه للناس جسده في قصيدة "الوصية" التي كتبها في 19/10/1984:

"لكم أن تكونوا صغارا

وأن تنعموا بالشباب

وأن لا تشيبوا سريعا

لكم كل شيء: جمال العطاء

وكنز الصداقة

لكم هذا الوجود العريض

فلا تقنطوا

ولا تتبعوا الشعراء إلى الوهم

لن تجدوا حكمة في البكاء

تسيئون فهمي

إذا لم تروا غير حزني العميق

نشدت الفرح

ولكن حملي ثقيل

فكونوا أخف وأوفر حظا

لكم أبسط الكلمات

ستكفي

لكم فسحة الوقت

أن تصنعوا أجمل الذكريات

وأن تعرفوا للفصول مسراتها

وأن تغنوا معا

ألا آمنوا بالحياة

ولا تفقدوا لون الحضور

عذوبة هذا الهواء

وحرية الأفق المترامي

ودفء اليد البشرية

ومعجزة الحلم المشترك"·

طباعة  

نعاني وضعاً صعباً وننفق على النشر من مدخولاتنا الخاصة
الربيعان: تخالجني دمعة حين أرى كتبي تباع في بسطات سوق الجمعة

 
وجهة نظر
 
إشراقة
 
كليلة ودمنة