رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 2 أغسطس 2006
العدد 1739

نص

بيروت احتشمي

 

                                                                                 

 

منهل السراج*

باغتّ أمي وهي تتأمل من وراء نظارتها في صورة لها مع أبي تبدو في غاية السعادة تلوذ بكتفه وذراعه التي أطاحت خصرها قالت:

- كان علي أن أمزقها مثلما فعلت بغيرها·

- لماذا؟

- الله يعفي عنا·

معطف أمي في الصورة سماوي اللون، مشمور الكمين، وعلى رأسها إيشارب خفيف يكشف عن غرة شقراء وبقية شعرها يطل من تحت هذا الغطاء الخفيف· عيناها تضحكان بحرية· مكتوب على قفا الصورة تشرين 1949 بيروت·

قالت دون أن أسألها:

- كنت جهلانة·

كانت الصورة للعروسين في بيروت·

وظلت رحلة بيروت هدية أبي لأمي كل عام·

في كل صيف كانت لنا زيارة لبيروت، أرتدي ثوبي الحموي السموكن البني، ذي الجيوب والثنيات الكثيرة والمكوي بدقة جوارب بلون البيج تصل حتى الركبتين، كي لا يظهر أي مساحة من اللحم، وحذاء بنيا مغلقا رغم الحر، تأتي السيارة في السادسة صباحا·

صمت مطبق طوال الطريق، عند الحدود السورية، ننتظر الخلاص بحذر، وحين يدير السائق محرك السيارة: خلصنا نعرف أننا نجونا مم نجونا؟ لا أحد يستطيع الإجابة وما هو ذنبنا؟  لا أحد يستطيع الإجابة كنت حين أسأل أبي عن سبب إصفرار الوجوه لا يجيب· وأحيانا أسمعه يقول لأمي: أخاف أن يتبلونا·

الآن تجاوزنا الحدود السورية، تقول أم وهي ترخي غطاء رأسها: فرفح قلبي· كان الذهن يدوخ، والوجوه تتنهد، ما إن يظهر بحر بيروت، يدير السائق المسجلة يفتح أبي قبة قميصه قليلا مرخيا ربطة عنقه، ويبدأ حوار بينه وبين السائق ولا مانع أن تشاركهما أمي أيضا، حرية وصفح ونشوة غامضة، وحين ندخل أوتيلنا المعتاد في الحمرا، كان أبي يضحك مع موظف الاستقبال ويداعب المسؤولة عن تنظيف الغرف، قائلا:

- يالينا إنت ست الكل·

وأمي تبتسم بتسامح فكنت أفرح وأهرع الى نافذة الغرفة، كي أطل على السوق ومحلات الفاكهة وأناقتها، رواد المقاهي وثرثراتهم، وكنت أجفل من قهقهاتهم العالية، يأتيني صوت نصري شمس الدين ودبكة الميجنا ويتراءى لي دلع بنات دبكة لبنان وقامات شبابها، وفيما أراقب كنت أرمي من قدمي حذائي وأسحب جواربي الطويلة وأخلع ثوبي السميك، متباهية أمام النافذة بأن كتفي أنا أيضا عار، تفتح أمي الحقيبة، فأتناول الثوب الأزرق الرقيق ذا التنتنة، والذي كنت أسميه: ثوب بيروت·

لبيروت أثواب غير أثواب حماه، هكذا اعتدنا بيروت تعني لي ثوبا قصيرا متحرر الركبتين، أرتديه وفي كل قفزة تفرح ركبتاي وقدماي،

أغمس الخبز· في اللبنة وأقول:

- ماما لبنة بيروت أطيب من لبنة حماه، تضحك أمي موافقة، وزعتر بيروت أطيب وكمان المكدوس والجبنة، إلى أن اكتشفت متأخرة أن عدة الفطور كانت أمي تحضرها معنا من حماه·

أتمشى على الشاطىء وأبتهج بأمي وأبي المتحررين لأن ذراعيهما متشابكان، وكم تمنيت لو يفعلان هذا في حماه شديدة الرصانة·

في الليل أراقب الفتيات الصغيرات بعمري، يخطفن خرطوم الأركيلة من أمهاتهن كي يشاركن جلسة المساء وأنا في الغرفة، لا تعنيني أصوات المتفجرات التي بدأت حينها، لأن دفء التلصص على هذه الحياة أقوى بكثير من أي صوت خارجي وهذه الغبطة تقدر أن توفر أمني·

بيروت حبة الشوكولا، الشط الذي يذوب، والهواء السكران·

إلى متى تظلين هكذا؟ يلزمك ثوب من الجوخ السميك ومنديل أسود تغطي وجهك وحسنك، وكفاك مغريات، فقد بالغت في حبك للحياة الدنيا، وافقي على الزواج، طلاب الزواج كثر وكلهم يريدونك محجبة، وافقي، ألم تهلكي؟

غدا يغادرونك بعد أن يتأكدون أنك هلكت من الموت والخراب، نعم ستبدين لعيونهم الشرهة أنك تحتضرين، ولكن ما إن ينشغلون بأمور أخرى حتى ترجعين لعاداتك المضرة، ترتدين ثيابا شفافة وتتبخترين، شمس قريبة وخافتة وشط ذائب، ولون سماء قريب وحنون، غبش أبيض طيب، وما إن يأتيك زائر حتى تمدين ذراعيك، تلفلفينه بغطاء حنون وتضمينه كأنه عشيقك الوحيد، تهدهدينه وتلاطفينه حتى يتعلق بك، ومن بعدها كيف يقبل أن يتخلى عنك بعدما أغريته بكل هذه المحاسن؟

السلايف والضراير أصابتهن الغيرة، وضعن الغطاء منذ زمان وأنت مازلت المدللة، ارمي غطاء عليك وكفى· إذا نويت، لدينا منه الكثير تلقفي مني هذا، واعملي بنصيحتي، وقتها فقط ستنجين من اعتداءاتهم عليك·

 

روائية سورية تعيش في استوكهولم

www.ofouq.com

طباعة  

استند إلى أخبار الرواة وقدم قراءة إيقاعية في قصائده
سعد الجوير يتتبع أخبار الغريب "جان دمو" وأشعاره المبعثرة

 
جملة مفيدة
 
إصدارات
 
آثار بعلبك معرضة للقصف أيضاً
 
فريق الآثار الكويتي ينقب في سلوفاكيا
 
أسابيع ثقافية متنوعة وإعادة نشر 500 عنوان
الجزائر عاصمة الثقافة العربية عام 2007