بعد أن خلطت إسرائيل الأوراق متعمدة في الشرق الأوسط تحاول التنصل مما تبقى من التزامات فرضتها عليها اتفاقيتا مدريد وأوسلو، ثم ذهبت الى أبعد من ذلك عندما أقدمت طائراتها وبوارجها البحرية على قصف مقر الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ضمن حملة عسكرية سياسية وإعلامية تمركزت حول مجموعة من المحاور المهمة التي تريد من خلالها إسقاط كل المكاسب التي حصل عليها العرب والفلسطينيون نتيجة للدخول في التحالفات الأمريكية ضد الإرهاب وما نتج عنها من مواقف أمريكية مختلفة عن سابقاتها على الأقل على مستوى التصريحات السياسية· فالحملة الصهيونية الجديدة تم توقيتها بدقة حيث تزامنت مع انتصارات أمريكا وتحالف الشمال في أفغانستان عسكريا على طالبان والقاعدة وتزامنت أيضا مع التفاتة أمريكا الى ملف الشرق الأوسط· حيث قامت القوات الصهيونية بتصعيد حملتها لاغتيال القادة الفلسطينيين وهي على علم بأن هذه الاغتيالات لا بد وأن تثير ردود فعل معاكسة من قبل التنظيمات الفلسطينية المناهضة للاحتلال ولهذا قامت بتكثيف عمليات الاغتيال قبيل مغادرة الإرهابي شارون الى واشنطن· وبذلك تكون قد هيأت الوضع السياسي لتنفيذ مشروعها الذي ارتكز على التالي: إلصاق تهمة الإرهاب بالفلسطينيين واستخدام المنطق المقلوب هذا للضغط على الرأي العام الأمريكي والعالمي للتخلي عن أي مواقف لصالح الفلسطينيين·
ثم تكثيف الحملة على الرئيس الفلسطيني “للقيام بدوره وتنفيذ التزاماته” الذي يعني القيام بدور الشرطي الحامي للاحتلال المطلوب منه قمع شعبه الخاضع للاحتلال والعدوان والقتل اليومي من قبل جيش الصهاينة· كما يطلب منه إلقاء القبض على المسؤولين عن العمليات الاستشهادية وتسليمهم للسلطات الصهيونية· هكذا!! تم يطلب منه طبعا القبول بالمقترحات الصهيونية التي نسفت كل اتفاقاتها السابقة وبهذا فقط يكون الرئيس الفلسطيني بل والسلطة الفلسطينية بأكملها مقبولة لدى الصهاينة ولدى الولايات المتحدة·
وهكذا يكون شارون قد حقق ما لم تحققه سياساته القمعية لوحدها وبالتالي يكون قد نفذ ما وعد به أثناء الانتخابات من تحقيق الأمن مقابل السلام· بدلا من الأرض مقابل السلام·
إذن المطلوب الآن - ضمن سيناريو شارون ومن يؤيده - أن يتغاضى العالم عن كل الجرائم الصهيونية واعتبارها مجرد “دفاع عن النفس” واعتبار أي عمل يقوم به الفلسطينيون إرهابا حتى لو كان البادئ شارون· ثم بعد ذلك وتحت هذا الضغط السياسي والإعلامي والعسكري مطلوب من عرفات التنازل عما لم يكن قادرا التنازل عنه في كامب ديفيد الثانية، أي بعبارة أخرى القبول بالحل الصهيوني والتنازل ليس فقط عما تم التنازل عنه في 1947 ولا 1967 ولا ذلك الذي تنازل عنه في مدريد ثم واشنطن فأوسلو وما تلاها من اجتماعات يفرض فيها الأمر الواقع دائما ويقبل ما تم رفضه مسبقا· فقد كانت كامب ديفيد الثانية المصيدة الأكبر التي حاول فيها باراك آنذاك الحصول على الحد الأقصى من التنازلات ولما لم يفلح بذلك تغيرت الوجوه والمقاعد بينه وبين شارون واعتمدت سياسة العنف بدلا من المفاوضات وهكذا حتى وصلنا الى أحداث سبتمبر وما تلاها من تغييرات لفظية على الموقف الأمريكي وتراجع سياسي موقت للصهاينة·
الحملة متواصلة وشديدة اختلطت فيها أوراق محاربة الإرهاب الذي تقوم به أمريكا بأوراق الشرق الأوسط حيث جمدت أرصدة بعض المؤسسات الخيرية العاملة في أمريكا للاشتباه بأنها تمول أنشطة حماس التي تتهمها أمريكا وإسرائيل بأنها منظمة إرهابية لأنها ترد على إرهاب الدولة وأعمال استشهادية هي بذاتها تدل على مستوى الإحباط واليأس الذي وصل له الفلسطينيون من أدنى احتمال لحل منصف ما أدى بهم الى هذا الوضع الذي يفجر الإنسان بنفسه ليلفت أنظار العالم الى مأساته·
إن أي سعي لحل القضية الفلسطينية لا بد وأن ينطلق من أن فلسطين محتلة من قبل الكيان الصهيوني وأن العرب والفلسطينيين وإن كانوا قد تنازلوا كأمر واقع عن الجزء الأكبر من فلسطين لتقوم عليه دولة الكيان الصهيوني فإن سياسات الأمر الواقع هذه لا بد وأن تقف عند حد معين فلا يعقل أن تستمر· وأن يستمر العالم بالضغط على الفلسطينيين للمزيد من التنازلات· من يريد الحل لا بد وأن ينطلق من أن الاحتلال الصهيوني هو الذي نكث بكل التزاماته في المؤتمرات الدولية والثنائية وهو الذي لا يزال يبني المستوطنات على أراضي 1967 وهو الذي لا يزال يهدم بيوت الناس على من فيها ويقتلع الأشجار ويحجب المياه وهو الذي يخرج من قرية ليعود لها من الجهة الأخرى وهو الذي جزأ الضفة الغربية والقطاع الى ما يقارب الستين جزءا بين كل جزء وآخر تسيطر عليه السلطة الفلسطينية جزء يسيطر عليه الجيش الصهيوني· من يريد الحل العادل وإنهاء العنف المضاد لعنف الصهاينة عليه أن يعرف أن أي قوة في الأرض لا يمكنها وقف ردات فعل المضطهدين إلا إذا رأوا بصيص أمل في الإنصاف· من هنا يجب على أي دولة أو قوة سياسية دولية من مصلحتها حل قضية الشرق الأوسط أن تنظر الى الواقع بعين مجردة من الميل الواضح للجلاد وأن ترى صيحات الضحية على حقيقتها لا أن ترى فيها مصدرا للإزعاج في همجية الصهاينة “دفاع عن النفس”·
هذه فرصة تاريخية إما أن تستثمر لوضع حد لمأساة شعب يعيش تحت الاحتلال وجزء آخر منه مشرد في أصقاع الأرض أو أن القادم من الأيام ينذر بالمزيد من الدمار وخلط الأوراق الإقليمية بالدولية·