رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 18 يوليو 2007
العدد 1783

استخباريا وعسكريا وسياسيا
كيف هُزمت إسرائيل في جنوبي لبنان(2)

·         بعد عشرة أيام استنفذت إسرائيل قنابلها وطلبت المدد الأمريكي واستدعت الاحتياط!

·       ضابط أمريكي: "طلب الأسلحة الأمريكية يعني أنهم يختنقون"!

·       لم يتزحزح مقاتلو حزب الله عن مواقعهم في مارون الراس الحدودية

·         حزب الله يخوض الحرب كلها بثلاثة آلاف مقاتل··· ولم يشعر بالحاجة إلى دعوة الاحتياطي

·     فوجىء المقاومون ببؤس تنظيم وانضباط الجيش الإسرائيلي وانهيار معنوياته عند أي احتكاك مباشر معه!

·         الخبراء الأمريكيون يشككون في استراتيجية إسرائيل وقدراتها

·       صواريخ ساجر (1973) تصيب الدبابات وقادتها بنوبات صرع··· فكيف لو كانت من نسخة أحدث؟

·         سجل حزب الله نصرا حاسما،عسكريا وسياسيا، وأحدث زلزالا في المنطقة

 

في الجزء الأول الذي كتبه الباحثان "الستير كروك" و"مارك بيري" للإجابة على سؤال "كيف هزمت إسرائيل في جنوبي لبنان"، شرح الباحثان معركة الاستخبارات التي أخفقت فيها إسرائيل، وهنا يواصلان في الجزء الثاني متابعة الجانب العسكري حيث كان الإخفاق الإسرائيلي ظاهرا للعيان أمام الخبراء العسكريين من كل الجنسيات، بما فيها الجنسية الأمريكية، ويصلان إلى الاستنتاج الذي يقطعان به، وهو أن حزب الله في معركة 33 يوما من يوليو وأغسطس في العام 2006 خرج بنصر حاسم·

قرار إسرائيل بشن حرب برية لتحقيق ما أخفقت في فعله قواتها الجوية اتخذ بعد تردد وكيفما اتفق· فيما كانت وحدات جيشها تقوم بغزوات في جنوبي لبنان خلال الأسبوع الثاني من النزاع، ظلت القيادة العسكرية الإسرائيلية بلا قرار حول أين ومتى، بل وما إذا كانت ستستخدم وحداتها البرية· وكان انعدام اتخاذ قرار في جزء منه راجعا إلى مزاعم القوات الجوية بتحقيق النصر· فقد ظلت القوات الجوية تزعم أنها ستنجح جوا بزيادة يوم ثم يوم آخر· وانعكس انعدام القرار في عدم تيقن وسائط الإعلام الغربية من موعد قيام الحملة البرية، أو ما إذا كانت قد حدثت سلفا·

وواصل كبار الضباط الإسرائيليين إخبار الصحافيين أن توقيت الهجوم البري مازال سرا، في الوقت الذي لم يكونوا فيه في الحقيقة يعرفون التوقيت· وكان التردد أيضا نتيجة تجربة وحدة صغيرة من وحدات الجيش الإسرائيلي عبرت الحدود·

كانت الوحدات الخاصة العاملة في جنوبي لبنان ترسل تقارير إلى قياداتها منذ الثامن عشر من يوليو بأن وحدات حزب الله تقاتل بعناد للحفاظ على مواقعها الحدودية المطلة على إسرائيل·

عند هذه النقطة اتخذ رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت قرارا سياسيا، وهو أن يستخدم كل قوة الجيش الإسرائيلي ليهزم حزب الله في الوقت الذي كان فيه كبار مساعديه يرسلون إشارات برغبة إسرائيل في قبول وقف إطلاق النار ونشر قوات دولية· وصمم أولمرت على أن إسرائيل لا يجب أن تقيد يدها، ستقبل انتشار قوات للأمم المتحدة ولكن فقط كملجأ أخير·

في البداية قرر أن تقول إسرائيل أنها ستقبل قوات لحلف الناتو· وفي مواصلته لاستراتيجيته، ثم استدعاء قوات الاحتياط الإسرائيلية إلى الجبهة في 21 يوليو· وجاء الاستدعاء المفاجىء بعد أن كان من المخطط أولا أن يهزم الجيش الإسرائيلي حزب الله من الجو، ثم إذا أخفق، أن يستخدم قواته النظامية من دون دعوة قوات الاحتياط، ليجعل نشر قوات الاحتياط منذ البداية عجولا وبلا تنسيق (ومن المحتمل أن إسرائيل لم تعتقد أنه سيكون عليها استدعاء الاحتياط خلال النزاع، أو أنها كان عليها أن تستدعيهم مبكرا)·

أكثر من هذا، إن قرار استدعاء الاحتياط فاجأ كبار ضباط الاحتياط الذين يكونون عادة أول من يعلمون بدعوة وشيكة· وجرت الدعوة بشكل فوضوي، إذ تأخر الإمداد اللوجستيكي للاحتياط ما بين يوم أو يومين بعد نشر قوات الاحتياط·

 

قوات بلا معنويات

 

استدعاء الاحتياطي يوم الحادي والعشرين من يوليو كان مؤشرا واضحا بالنسبة للعسكريين الاستراتيجيين في وزارة الدفاع الأمريكية بأن حرب إسرائيل لا تسير على ما يرام، ويساعد أيضا على تفسير لماذا وصلت قوات الاحتياط الإسرائيلية إلى الجبهة من دون المعدات الضرورية، ومن دون خطة معركة متماسكة، ومن دون الذخيرة الضرورية لخوض المعركة (خلال النزاع كافحت إسرائيل لتوفير دعم ملائم لقواتها الاحتياطية، الطعام، والذخيرة، بل وحتى مياه الشرب وصلت إلى الوحدات متأخرة ما بين يوم أو يومين على ظهور الوحدات في مناطق انتشارها المحددة لها في الشمال)·

ولاحظ المراقبون العسكريون تأثير هذا فورا، فالقوات الإسرائيلية بدت غير مستعدة، بطيئة ومعنوياتها منهارة" كما لاحظ أحد كبار القادة الأمريكيين السابقين، مضيفا "إن هذا لم يكن الجيش الإسرائيلي المتبجح الذي شاهدناه في حروب سابقة"·

وببقائه إلى جانب خداع أولمرت السياسي، تراجع أيضا هدف الجيش الإسرائيلي الذي كان يستهدف تدمير حزب الله تدميرا كاملا تراجعا ملحوظا· فبعد يوم من استدعاء الاحتياط، قال: "إدوينهوشتان" أحد جنرالات هيئة الأركان الإسرائيلية "هنالك خط واحد بين أهدافنا العسكرية وأهدافنا السياسية، فالهدف ليس بالضرورة القضاء على كل صاروخ من صواريخ حزب الله، ما يجب أن نفعله هو تمزيق المنطق العسكري لحزب الله· وعليّ القول إن هذا مازال قضية أيام"·

وكانت هذه طريقة غريبة في عرض استراتيجية عسكرية عن سابق تصور وتصميم، أن تشن حرب من أجل "تمزيق المنطق العسكري" لعدو· وأحدثت تصريحات "ينهوشتان" تأثيرا بعث القشعريرة في نفوس القادة الميدانيين الذين تساءلوا ما هي بالضبط أهداف الحرب· ولكن قادة آخرين كانوا متفائلين، فمع أن الطيران فشل في إيقاف هجمات حزب الله الصاروخية على المدن الإسرائيلية، إلا أن صواريخ أقل أطلقت على إسرائيل بين يومي 19 و21 يوليو مما أطلق في أي وقت آخر (عدد صغير جدا يوم 19 يوليو، وبحدود 40 ربما في 20 يوليو و50 يوم 22 يوليو)·

 وكان يوم 22 يوليو علامة أيضا، فلأول مرة ترد الولايات المتحدة على النزاع عسكريا· فقد تسلم البيت الأبيض في وقت متأخر من يوم 21 يوليو طلبا من أولمرت والجيش الإسرائيلي بإمداده بكميات كبيرة من الذخائر الحربية الموجهة بدقة، وهي إشارة خطر أخرى إلى أن الطيران الإسرائيلي أخفق في مهمة إضعاف مواقع حزب الله العسكرية إخفاقا يعتد به خلال جولات الحرب الأولى· وتمت الموافقة على الطلب فورا، وشحنت الذخائر إلى إسرائيل بدءا من صباح الثاني والعشرين من يوليو· وتسببت هذه الشحنة بامتعاض كبار مسؤولي وزارة الدفاع الأمريكية، لأنها تعني أن إسرائيل أنفقت معظم ذخائرها في العشرة أيام الأولى من الحرب، وهو إنفاق هائل يوحي بأن إسرائيل تخلت عن القصف التكتيكي لمواقع حزب الله العسكرية، وأنها لجأت إلى هجوم على ما تبقى من بنية لبنان التحتية، وهي استراتيجية لم تنجح خلال الحرب العالمية الثانية حين دمرت الولايات المتحدة وبريطانيا 66 مركزا مدنيا ألمانيا من دون أي تأثير ملموس، لا على المعنويات ولا على القدرات العسكرية الألمانية·

ولكن كان هناك القليل من التذمر في وزارة الدفاع الأمريكية، رغم أن ضابط خدمات سابق لاحظ أن إرسائل الذخائر الأمريكية لإسرائيل ذكر بطلب مماثل قدمته إسرائيل في العام 1973، في ذروة حرب أكتوبر· وقال هذا الضابط آنذاك "لا يمكن أن يعني هذا إلا شيئا واحدا، وهو أنهم يختنقون"·

وأبقى كبار الضباط الأمريكيين وجهات نظرهم بعيدا عن الأنظار، رغم شكوكهم العميقة حول الرد الإسرائيلي (وكانت هذه الشكوك عميقة مع أنها لم يصرح بها، وذات دلالة، ووصلت حتى إلى المراتب العليا في القوات الجوية الأمريكية)، ولم يكن من دون سبب وجيه، أن انتقاد طلب إسرائيل لشحنة أسلحة خلال حرب 1973، قاد إلى استقالة من كان آنذاك رئيس هيئة الأركان الأمريكية الجنرال جورج براون· فقد غضب براون من إرسال الأسلحة والذخائر الأمريكية إلى إسرائيل في الوقت الذي كان فيه القادة الأمريكيون في فيتنام يحتجون على الافتقار للإمدادات في حربهم في جنوبي شرق آسيا·

وفهم رئيس هيئة الأركان الحالي، بيتر بيس، الذي ظل صامتا صمتا ذا معنى خلال الحرب بين إسرائيل وحزب الله، الدرس التاريخي، فأدى التحية، وظل صامتا· ولكن لم يكن ضباط هيئة الأركان الأمريكية وكبار القادة العسكريين هم وحدهم الذين أصابهم القلق من أداء إسرائيل· فضباط المخابرات، في الوقت الذي كانت فيه الأسلحة الأمريكية تتخذ طريقها إلى إسرائيل عبر برستويك في أسكوتلندا، كانوا يجرون تقييما أوليا لأيام الحرب الأولى، بما في ذلك ملحوظة لأحدهم من أنه رغم الهجمات الإسرائيلية المتواصلة، فقد ظلت قناة "المنار" تبث من بيروت، مع أن القوات الجوية الإسرائيلية دمرت بث شبكات لبنانية رئيسة (وسيظل هذا صحيحا خلال كل أيام الحرب، فالمنار لم تتوقف أبدا)· فكيف يمكن أن تكون الحملة الجوية الإسرائيلية فعالة إذا لم تستطع إيقاف بث محطة تلفزيونية؟

 

نحن لا نريد الغزو!

 

دعوة الاحتياط الإسرائيلي كان معناها تدعيم القوات التي كانت تقاتل سلفا في جنوبي لبنان، وإضافة ثقل إلى الهجوم البري· وفي يوم 22 يوليو، خاضت وحدات حزب الله من لواء "نصر"، معركة مع الجيش الإسرائيلي من شارع إلى شارع في مارون الراس· ومع أن الجيش الإسرائيلي ادعى في نهاية ذلك اليوم أنه سيطر على المدينة، إلا أن هذا لم يكن صحيحا· كان القتال داميا، ولكن مقاتلي حزب الله لم يتزحزحوا عن مواقعهم· كان الكثيرون من جنود لواء "نصر" قد قضوا أياما عديدة في انتظار الهجوم الإسرائيلي، وبسبب قدرة حزب الله على اعتراض اتصالات الجيش الإسرائيلي العسكرية، ارتطم الجنود الإسرائيليون بوحدات متخندقة جيدا ومستعدة·

وأخفقت كتائب القوات الخاصة الإسرائيلية باستمرار في تطويق المدافعين، وتلقت ضربات معاكسة في غربي المدينة· ودمرت فرق اصطياد من لواء "نصر" تتكون كل واحدة منها من ثلاثة رجال، بضع مدرعات إسرائيلية خلال القتال بصواريخ مضادة للدبابات يحملها الأفراد· وقال ملازم ثان إسرائيلي مجهدا آنذاك "لقد عرفنا أنهم سيفعلون هذا، فهذه الأرض هي أرضهم، وكنا سنفعل الأمر نفسه إذا دخل أحد بلدنا"·

وفي الوقت الذي واصل فيه الجيش الإسرائيلي الإصرار على أن غاراته ستكون "محدودة المدى"، رغم استدعاء آلاف من قوات الاحتياط، بدأت كتائبه تتشكل جنوبي الحدود·

وقال "آفي باشنر"، أحد الناطقين الحكوميين "نحن لا نستعد لغزو لبنان"· ثم أطلق الجيش الإسرائيلي على مارون الراس اسم "موطىء قدمه الأول" في جنوبي لبنان· وأضاف "آفي باشنر": "إن ضغطا يشكله تركيب من القوات الجوية والمدفعية والقوات الأرضية سيدفع حزب الله بعيدا، من دون الوصول إلى نقطة يكون علينا فيها أن نغزو ونحتل"·

ومن هنا كان الفرق بين "دفع" قوة بعيدا، وغزو واحتلال مدينة، إشارة أخرى واضحة للخبراء العسكريين الأمريكيين إلى أن الجيش الإسرائيلي يمكن أن يدخل مدينة لكنه لا يستطيع احتلالها· وقارن أحد الضباط الأمريكين الذين يدرسون التاريخ العسكري الأمريكي غزوة الجيش الإسرائيلي في جنوبي لبنان بهجوم الجنرال "روبرت لي" الدموي على مواقع القوات الاتحادية في جيتسبرغ، بنسلفانيا، خلال الحرب الأهلية الأمريكية· فقال أحد ضباطه "صحيح، أنا أستطيع الوصول إلى هناك، ولكن البقاء هناك هو المشكلة"·

وتأكد، بعد تقارير قادة حزب الله عن المعركة أن قوات الجيش الإسرائيلي لم تؤمن منطقة الحدود تأمينا تاما أبدا، ولم تؤخذ مارون الراس بالكامل أبدا· ولا شعر حزب الله على الإطلاق بالحاجة إلى استدعاء قواته الاحتياطية كما فعلت إسرائيل· وقال خبير عسكري في المنطقة "خاض الحرب كلها لواء لحزب الله من 3 آلاف مقاتل لا أكثر· وخاض لواء "نصر" الحرب كلها· ولم يشعر حزب الله أبدا بالحاجة إلى تعزيزه"·

وتؤكد التقارير من لبنان على هذه النقطة· فقد وجد قادة حزب الله ما فاجأهم، وهو أن القوات الإسرائيلية كانت بائسة التنظيم والانضباط· والوحدة الإسرائيلية الوحيدة التي جاء أداؤها وفق المعايير العسكرية كانت لواء غولاني، حسب مراقبين لبنانيين· أما الجيش الإسرائيلي فكان "تشكيلة متنافرة" كمالاحظ مسؤول ذو معرفة عميقة بالعامية الأمريكية الدارجة، ولكن، كما يضيف: "هذا ما يحدث حين ننفق أربعة عقود تطلق الرصاص المطاطي على النساء والأطفال في الضفة الغربية وغزة"·

وكان قادة الجيش الإسرائيلي منزعجين أيضا من أداء قواتهم وهم يلاحظون علائم فقدان الانضباط حتى بين جنودهم النظاميين الأفضل تدريبا· وكان جنود الاحتياط في حالة أسوأ، وتردد قادة الجيش في زجهم في المعركة·

في الخامس والعشرين من يوليو كانت استراتيجية أولمرت في التنازل عن الهدف الذي زعمه بتدمير حزب الله بكامل قوتها، وحامل هذا المد والجزر كان وزير دفاعه عمير بيرتس بقوله إن هدف إسرائيل الحالي كان خلق "منطقة آمنة" في جنوبي لبنان· وترافقت كلماته مع تهديد: "إذا لم تأت قوة متعددة الجنسيات لتسيطر على الحدود، فسنواصل السيطرة بالنار تجاه كل من يقترب من المنطقة الآمنة، وسيعرفون أنهم يمكن أن يصابوا بالأذى"·

واختفى فجأة اختفاء تاما ادعاء بأن إسرائيل ستدمر حزب الله، واختفى أيضا ادعاء بأنه لن يكون مقبولا سوى قوات الناتو كوحدة حفظ سلام على الحدود· وفي الخامس والعشرين من يوليو صدر تقرير إسرائيلي أيضا بأن "أبو جعفر"، وهو أحد قادة حزب الله في "القطاع الأوسط" على الحدود، قد قتل في "تبادل لإطلاق النار" مع القوات الإسرائيلية بالقرب من القرية الحدودية مارون الراس التي لم تؤخذ بعد· ولم يكن التقرير صحيحا· وأدلى أبوجعفر بتصريحات علنية بعد انتهاء الحرب·

بعد ذلك في 25 يوليو، خلال زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية رايس للقدس، شقت القوات الإسرائيلية طريقها نحو بنت جبيل، مطلقة عليها اسم "عاصمة إرهاب حزب الله"·

واستمر القتال للسيطرة على بنت جبيل تسعة أيام، ولكنها ظلت بيد حزب الله حتى نهاية النزاع· وخلال هذه المعارك تم تدمير المدينة، ولكن مقاتلي حزب الله كانوا قادرين على النجاة من القصف المدفعي والجوي المتكرر بالانسحاب إلى مخابئهم المحصنة خلال أسوأ حملات القصف، ولا يظهرون إلا حين تتقدم القوات الإسرائيلية في محاولة للسيطرة على المدينة·

وذكرت تكتيكات حزب الله بتلك التي اتبعها جيش فيتنام الشمالية خلال الأيام الأولى للنزاع الفيتنامي، حين أخبر قادة الجيش الفيتنامي قواتهم بأن عليها "الثبات أمام القصف والنجاة منه"، وبعدئذ قتال الأمريكيين بوحدات صغيرة (عاملة)· قال أحد القادة الفيتناميين، يصف هذه التكتيكات: "عليكم أن تمسكوا بهم من ابزيمات أحزمتهم"!

 

المهمة المستحيلة

 

في الرابع والعشرين من يوليو، وفي الوقت الذي كانت تلوح علامة أخرى من علائم إخفاقها في لبنان، استخدمت إسرائيل أول دفعة من آلاف القنابل العنقودية ضد ما دعته "مواضع حزب الله" في جنوبي لبنان· والقنابل العنقودية هي أداة معركة فعالة ووحشية، والدول التي تستخدمها، بما في ذلك كل أعضاء حلف الناتو (كما روسيا والصين) رفضت باستمرار الدخول في معاهدة دولية تمنع استخدامها· ومع أن تحقيقا كاملا في استخدام إسرائيل لهذه القنابل لم يكتمل بعد، فإن ما يبدو الآن هو أن الجيش الإسرائيلي استخدم النوع الموقوت ضد الأفراد· وتشير التقارير الأخيرة في الصحافة الإسرائيلية إلى أن ضباط المدفعية فرشوا القرى اللبنانية بهذه القنابل بلا تمييز·

في 26 يوليو اعترف الجيش الإسرائيلي بأن معركة اليوم السابق في بنت جبيل كانت "الأصعب بين أيام القتال في جنوبي لبنان"·

وبعد الفشل في الاستيلاء على المدينة في الصباح، قرروا إرسال لواء النخبة غولاني، وخلال ساعتين قتل من هؤلاء 9 وجرح 22 عنصرا· وأرسل الجيش عند حلول المساء نخبة لواء المظليين إلى مارون الراس حيث كان القتال مع لواء "نصر" محتدما لليوم الثالث· وفي 27 يوليو، وردا على إخفاق وحداتها في السيطرة على هاتين المدينتين، وافقت الحكومة الإسرائيلية على استدعاء المزيد من فرق الاحتياط،

(ثلاث فرق) يبلغ تعدادها 15 ألف عنصر· ولكن مع يوم 28 يوليو، أصبح واضحا كم كان قاسيا إخفاق القوات الجوية في محاولاتها إيقاف هجمات حزب الله الصاروخية، ففي ذلك اليوم استخدم الحزب صاروخا جديدا، صاروخ خيبر-1 الذي ضرب العفولة·

وفي 28 يوليو، وصلت إلى الرأي العام الإسرائيلي أخيرا أخبار إخفاقات مخابرات إسرائيل الخطيرة· ففي هذا اليوم سرب مسؤولو الموساد معلومات أن حزب الله، حسب تقديراتهم، لم تصب قدراته العسكرية إصابة ذات أهمية، وأن هذا الحزب قد يكون قادرا على مواصلة الصراع لعدة أشهر قادمة· ولم يوافق الجيش على هذا قائلا أن حزب الله قد تم تدميره بشدة· وهكذا بدات تظهر أول الشروخ في أوساط المخابرات الإسرائيلية·

وبدأ خبراء في الولايات المتحدة الأمريكية أيضا بوضع استراتيجية إسرائيل وقدراتها موضع تساؤل· ونشر معهد بروكجنز المحافظ شرحا لفيليب هـ·جوردون (الذي ألقى باللائمة على حزب الله) يقول فيه القضية ليست في ما إذا كان حزب الله مسؤولا عن هذه الأزمة، فهو كذلك، أو في ما إذا كان لدى إسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها، فهي تفعل، ولكن القضية هي ما إذا كانت هذه الاستراتيجية الخاصة (استراتيجية الحملة الجوية المتواصلة) ستنجح، وهي لن تنجح، فهي لن تجرد حزب الله من قوته، لأن من المحال بكل بساطة القضاء على آلاف من الصواريخ الصغيرة المتنقلة والمخبأة، والتي يعاد إمدادها بسهولة بوساطة حملة جوية"·

وعكس تقرير جوردون وجهات نظر عدد متزايد من الضباط العسكريين الذين هرعوا لنفض الغبار عن خططهم الجوية في حالة إصدار البيت الأبيض أمرا باستهداف المواضع النووية الإيرانية· وقال لنا خبير بالشرق الأوسط مقرب من كبار ضباط وزارة الدفاع الأمريكية أن "هناك إدراكا خاطئا شائعا بأن القوات الجوية الأمريكية قد استثارتها الحرب الإسرائيلية على لبنان· لقد كانوا مشدوهين· إنهم يعرفون جيدا حدود قوتهم ويعرفون كيف يمكن أن يساء استخدامها· وبدا لضباط القوة الجوية الأمريكية أن إسرائيل قد رمت جانبا كتاب التعليمات في لبنان· ولم يكن هذا أمر اجراء جراحة ولا محددا، ولم يكن براعة بالتأكيد، فأنت لا يمكنك أن تأمل بالفوز بمجرد تغليف بلد بالحديد"·

وتعطي الأرقام الباردة والقاسية المزيد من التأكيد على المظهر الخادع للحملة الجوية الإسرائيلية والحملة البرية· فقد أعد حزب الله سرا ما يصل إلى 18 ألف صاروخ في ترساناته قبل النزاع·

وتم تحصين هذه المواقع ضد الضربات الجوية الإسرائيلية، ونجت بسهولة من الحملة الجوية· وقد قدر مسؤولو حزب الله بأن المدة الفاصلة بين إطلاق الصاروخ وبين أن تكتشف الطائرات الإسرائيلية مواقع الإطلاق وتستخدم تلاها لضربها، 90 ثانية، أي دقيقة ونصف· ولهذا، وطيلة سنوات من التدريب المتواصل، تعلمت فرق حزب الله الصاروخية نشر وإطلاق الصاروخ وإخفاء منصات الإطلاق المتنقلة إخفاء آمنا في أقل من 60 ثانية، أي في أقل من دقيقة، بحيث كانت النتيجة أن القوات الجوية الإسرائيلية والمروحيات (التي تمتلك منها إسرائيل عددا أقل بكثير مما تدعي) لم تستطع إيقاف إطلاق صواريخ حزب الله على إسرائيل· (علق أحد الضباط الأمريكيين بالقول إن إسرائيل بعيدة عن كارثة كاملة بحوالي ثلاث مروحيات)·

وأطلق حزب الله على إسرائيل حوالي 4000 صاروخ (وبحساب أكثر دقة، رغم أنه غير مؤكد، تم إطلاق 4180 صاروخا)·

مما خفض مخزون إلى 14.000 صاروخ كافية لمواصلة الحزب إلى ثلاثة أشهر إضافية على الأقل·

يضاف إلى هذا، وهو أكثر اهمية، أن مقاتلي حزب الله أثبتوا أنهم منضبطون ومتفانون، وبرهنوا، باستخدام المعدات الاستخبارية لتحديد نقط اختراق المشاة الإسرائيليين، على أنهم أنداد لأفضل وحدات إسرائيل المقاتلة· وفي بعض الحالات اندحرت وحدات إسرائيلية في ميدان المعركة، وأجبرت على انسحابات مفاجئة أو أجبرت على الاعتماد على تغطية جوية لحماية عناصرها من الانسحاق· وحتى عند اقتراب نهاية الحرب في 9 أغسطس، أعلن الجيش الإسرائيلي أن 15 من جنود احتياطه قتلوا وجرح 40 في معارك في قرى مرجعيون والخيام وكفركلا، وهو معدل إصابات مذهل بالنسبة لمعركة هامشية في عقار ثابت· ونال دفاع حزب الله الصلب أيضا من المدرعات الإسرائيلية· فحين وافقت إسرائيل أخيرا على إيقاف إطلاق نار وبدأت بالانسحاب من المنطقة الحدودية، خلفت وراءها ما يقارب 40 مدرعة، ومعظمها تم تدميرها باستخدام ماهو لصواريخ آتي-3 (ساجر) المضادة للدبابات، وهو الاسم الذي يطلقه حلف الناتو على الجيل الثاني من الصواريخ الروسية الموجهة ( 9 أم 14 ماليوتكا) أي "الصبي الصغير"·

لقد برهن صاروخ "ساجر" الذي يطلق من مسافة 3 كم على نجاحه الهائل في التغلب على الدبابات الإسرائيلية، وهي حقيقة لابد أنها أصابت قادة المدرعات الإسرائيلية بنوبات صرع، ويرجع هذا في جانب كبير منه إلى أن صواريخ ساجر التي استخدمها حزب الله هي نسخة أقدم تم تطويرها  وتمتلك رأسا حربيا أكبر· فإذا كان الجيش الإسرائيلي غير قادر على حماية مدرعاته من نسخة العام 1973 (الجيل الثاني)، فلابد أن قادته الآن يتساءلون كيف يمكن لمدرعاتهم حماية نفسها من نسخة أحدث، وأكثر تطورا، وقدرة على إهلاك مدرعاتهم·

 

قرار سياسي كارثوي

 

في الفترة التي سبقت تطبيق وقف إطلاق النار، قررت المؤسسة السياسية الإسرائيلية إنزال (قوات مظلات إسرائيلية في مناطق متحكمة على امتداد نهر الليطاني· ومن الواضح أن هذا القرار اتخذ لإقناع المجتمع الدولي أن قواعد الانخراط بالنسبة لقوة من الأمم المتحدة يجب أن تمتد من جنوبي الليطاني· ومثل هذا المطلب لا يمكن أن يتحقق ما لم تستطع إسرائيل منح ادعائها أنها أفرغت ذلك الجزء من لبنان حتى نهر الليطاني مصداقية·

وهكذا نقل عدد مهم من القوات الإسرائيلية جوا داخل نقاط متحكمة جنوبي الليطاني مباشرة لتحقيق هذا الهدف· وكاد هذا القرار أن يقود إلى كارثة، فغالبية القوات الجوية التي نقلت جوا الى هذه المواقع حاصرتها فورا وحدات من حزب الله، وكان يمكن أن تسحق بشكل حاسم لولا نفاذ وقف إطلاق النار· وأغضب هذا القرار السياسي الضباط الإسرائيليين المتقاعدين، واتهم واحد منهم أولمرت بأنه يستخدم الجيش لأغراض العلاقات العامة·

 قتال حزب الله ضد إسرائيل، كيفما حسبناه، سواء بالصواريخ أو المدرعات أو عدد القتلى والجرحى، يجب أن يسجل كنصر عسكري وسياسي حاسم، وحتى لو أنه لم يكن كذلك (ومن الواضح أنه كذلك) فإن تأثير حرب حزب الله على إسرائيل طيلة 34 يوما في يوليو وأغسطس كان زلزالا سياسيا في المنطقة·

كان انتصار حزب الله عسكريا على إسرائيل حاسما، ولكن دحره للولايات المتحدة سياسيا (وهي التي بلا نقاش وقفت إلى جانب إسرائيل خلال النزاع ورفضت وضع نهاية له)· كان كارثيا وله تأثير دائم على هيبة الولايات المتحدة في المنطقة·

 

* يدير الباحثان معا"منتدى النزاعات" ومقره لندن، المكرس لتقديم بوابة على الإسلام السياسي·

عمل كروك كمستشار في شؤون الشرق الأوسط لممثل الاتحاد الأوروبي خافيير سولانا وعمل عضوا في لجنة ميتشل التي حققت في أسباب الانتفاضة الفلسطينية الثانية· أما زميله بيري فهو مستشار سياسي يقيم في واشنطن، ومؤلف لستة كتب·

يتبع

طباعة