رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 18 يوليو 2007
العدد 1783

فصل من رواية تحت الانشاء
يسرى تحـت ظلال الخروب

·   الآنسة ولز: يا الهي·· هل تفهمين هؤلاء البدائيين؟

·   نواف عبد: سأذرع الحرش حافياً وفاء لنذر نذرته لصديقي

·   باميلا سميث: فتشت عن يسرى أو من يعرفها ··· ولم أجد أحداً

محمد الأسعد

فلاحةٌ فلسطينية تلوح عليها إمارات الطول، بشنتيان تتسلقه الفراشات، جالسةٌ على صخرة،ٍ تحتضن طفلا بشغف واضح وضحكة مطمئنة· وإلى جوارها على مقعد ٍ منخفض تتطلع إليهما إمرأةٌ جعداء الشعر بملابس اوروبية· كائناتٌ مرتْ في ذاكرة هذه الظهيرة، وتركتْ وراءها هذا الجذلَ الواضحَ على امرأتين تداعبان طفلا يقف في حضن أمه، فتحيطه بيد ها اليمنى وتشير إلى المرأة الأخرى بيسراها كأنها تسأله عن اسمها· كلتاهما بجوارِ حائطٍ طيني وخلفهما أشباح الأشجار، والطفلُ بثوبه الأبيض المطرّز وطاقيته يتطلع صامتاً إلى هذه المرأة العجيبة التي لاتشبه أمه ولكنها تبسط يدها وتدعوه اليها·

الظلالُ نفسها، وشذراتٌ من ضوء الشمس ذاتها، ومع ذلك لايمكن لهذا الظلّ والضوء أن يتساقطا أكثر من مرة واحدة على المشهد ذاته أو على هذه الكائنات ذاتها التي التقت قبل ثلاث وسبعين سنة·

يقول التعليقُ المكتوب بالانجليزية: "دوروثي غرود مع يسرى، إحدى النساء اللواتي نقبن في كهوف الكرمل في العام 1934"· وفي مكان آخر من يوميات عالمة الآثار هذه نجد لمحة أخرى تتحدث فيها عن الفريق النسائي من الفلاحات الفلسطينيات اللواتي قادتهن بين كهوف الجبل، ونفذ ن الجزء المهم من الحفريات بأكمله· لماذا أتذكرُ هذا الذي لم يكن جزءاً من حكايتي ثم أصبح فجأة خيطاً في نسيجها؟

في البداية، حين كتبتُ رواية أطفال الندى(1)، لم يكن ليسرى وطفلها وجود، وكانت غرود ظلا كما هي في ذاكرة الثقافية الغربية أيضاً، وظل غائماً في ذهني مشهد الأطفال الذين وجدوا أنفسهم في مغارة يعبثون بعظام لايدرون ماهي، ويتطلعون إلى جدران عليها آثار كشط وحك، وفجأة تغير كل شيء كأنما سقط ضوءٌ على المشهد كله، على الأطفالِ وعالمةِ الآثار وهذه المغارة والاسم المألوف: يسرى·

بدأ كلُّ شيء في مكتبة باريس الوطنية مع اكتشاف يوميات وأوراق غرود ومئات الصور في صندوق منسي في زاوية من زوايا المكتبة(2)· كانت الاشاعاتُ المتداولة أنها أحرقتْ كل ما دونتْ وصوّرتْ، ولذا بدا الاكتشافُ مثيراً ومذهلا، وعادتْ غرود إلى الحياة مرة أخرى، ودخلتْ مجدداً إلى حكايتي لتعرّفني على يسرى وهذا الطفل، وهذه الظلال، واتخذَ كلُّ هذا الانتشاء الظاهر على وجه الفلاحةِ الضاحكة وعالمة الآثار وحضور الطفل الصامت طريقه إلى الكرمل(3)·

كل شيء كان حقيقيا إذاً، تلك المغارة الغامضة، وهذه الجدران، وهذه الفلاحة التي بدأ اسمها يلحّ عليّ كما لو أنها تتطلع إلي ضارعةً أن أنقذها من طريق اتخذته ومحا ضحكتها وشنتيانها وطفلها· أين هي الان؟ ومن كان ذلك الطفل؟ لأمّي الملامح ذاتها، والملابس ذاتها، والضحكة نفسها، ولي هذه النظرة الساهمة في الوجوه الغريبة، ولنا هذه القرية التي يؤكد حسين حمدان، العجوز اللاجيء في مخيم البقعة، أن لاأحدَ يصاب بالمرض فيها، ولنا تلك الأمُّ التي أصرّت حين جاؤوا إليها بوحيدها قتيلا برصاص الانجليز في واقعة أم الدرج أن تصمده(4) في البيت كما يصمد العريس في ليلة دخلته وأن تغني له، وتغني حتى طلوع الشمس·

* * *

في أوراق دوروثي غرود أجدُ هذه الملحوظة: "انتشر رعبٌ كبير آنذاك بسبب نبوءات تحدثت عن سقوط أمطار ٍ غزيرة مفاجئة وزلازل ونهاية قريبة للعالم··"· ومن مكانه في جنين، كما روى بعد أن بلغ التسعين من عمره، كان مدرس التاريخ الشاب نيقولا زيادة يستمع إلى جارته تحدثه عن اقتراب الساعة، إلا أن أكثر ما كان يقلقها مع اقتراب النهاية هو مصير فستانها الجديد، ومن سيرتديه بعدها، وضحك الشيخ التسعيني متذكراً أياماً تزداد عذوبةً كلما أوغل في غاباتها، والتقى بنفسه هناك واقفا عند منحدر أو نهر أو سائراً ذات خريف على طريق ترابي تتطاير حوله العصافير· ولكن الشيخ حمزة آنذاك كان يفكر بنبوءات أخرى كما عرفتُ من أمي ؛ هذا الوادي سيمتليء بالشجر في غيابنا، وهؤلاء الصغار سيتولاهم الله برحمته، أما نحن الآخذين بأطراف السناسل، والقابضين على بنادقنا الايطالية الخربة، والرابضين في حبات الجوز، والعائدين من حيفا بخبر سقوطها، والمشرّقين في مابعد إلى حيث لايعلم إلا الله، فلن نعود إلا إذا وضع العرب يدهم بيد المسكوف(5)· متى؟ بعد سبع··· وسبع··· هكذا جاء في الكتب··· والله أعلم·

في ذلك النهار، نهار هذه اللحظات التي تأخذ فيها الفلاحاتُ أطفالهن إلى مغارة الطابون، أو يفئن إلى جدرانِ هذه الأكواخ الطينية والخيام المسماة قلاع التبن، كان الفريق النسائي ينتظر الزائرة صاحبة القبعة العريضة، الآنسة ولز، الفضولية والثرية، والتي ستهدي الفريق 25 جنيها استرلينيا مساهمة منها في اكتشاف كيف كان إنسان العصور الحجرية يتناول طعامه ويحلم··· ويتزاوج· وتهرع غرودُ لاستقبالها غير عابئة بنظرة القبعة المندهشة إلى ما حولها، وتقودها مبتسمةً إلى كوخها، أو إلى إحدى قلاع التبن بعد أن تحوّلتْ كلمةُ طابون إلى تبن ٍ في اللغة الانجليزية· وستنتقل هذه التسمية إلى أوراقِ ويوميات ورسائل وأحاديث رفيقات غرود، من دون أن يفهمن أن الطابون الفلسطيني الذي نتحدث عن خبزه الساخن المغموس بالزيت، والذي لم نذق لذته منذ أن بدأت غربتنا، لاصلة له بالتبن الذي خلطنه بالطين وبنين به قلاعهن· وسأعرفُ في ما بعد أن الحديث يدور هنا عن أرض منبسطة تجاور جبلا غائراً في الزمن تارة، حتى 600 ألف عام أو طالعاً منه تارة أخرى حتى أواسط القرن العشرين ما أن تمر بجواره الشاحنات الانجليزية ويتطلع إليه جنودها كمن يتطلع إلى شبح مهدد·

الفلاحاتُ يمنحن السيدة القبعة بلمحة ٍ عاجلة إحساسَ مستكشف، ورغبةَ طائر يحلّق في سمائه· لن تتحدثْ إليهن بالطبع، إذ يبدو أنهن كائنات لم تصل إلى عصر الأبجدية بعد· ربما تعرف صديقتها غرود ما يدور في هذه الرؤوس المغطاة بمناديل بيضاء ثقيلة، وما تشير إليه هذه الثياب المطرزة بأشرطة من النقوش والفراشات وعروق النبات وأوراقه، وهذا الزنار الملتف حول خصور الشابات والمكتهلات على حد سواء، ولكن الأكثر أهمية أخبار هذه القبائل ذات الجباه المنخفضة والفكوك البارزة، تلك التي تقول غرود إنها عاشت في هذه الكهوف في أزمان لايعرف إلا الشيطان مداها، ولن يخطر ببالِ عاقل أن لهذه العيون الشابة المحدقة بها على استحياء، أوهذه الابتسامات المطمئنة والساخرة، أو هذه البلاهة المطلقة، وهذا الطفل اللاهي تحت أقدام أمه، علاقة بهذه الفؤوس المتناثرة وكسر الفخار والعظام الثمينة·

*ياللهول عزيزتي غرود··· أنت مدهشة··· أين عثرتِ على كل هذا؟ ألم يمسك بكِ أحدهم وأنتِ تنقبين عن عظامه؟

فتبتسم غرود، ومن وراء نظارتها الطبية يتألق فرحٌ خجول، وتتمتم كأنها تتفحص رؤيا غائبة:

- هو الذي عثر عليّ كما يبدو، نحن نذهب إلى حكايةٍ، وندخل فيها، ونجد أنفسنا في ضيافة أناس غرباء يتدفأون حول نار، أو يكشطون الجلود، أو يغنون لأطفالهم، أو يحفرون لأنفسهم أسرة للنوم، نحن نصغي فقط، وعندها لا يعودون غرباءَ أبداً· لقد رحب بي أمواتهم وأحياؤهم، ومن سيولدون أيضاً·

- أوه ·· أنتِ لستِ في اليونان ولا في فرنسا ولا في مرتفعات انجلترا حتى، أنت في أزمان خارج الزمن، وبين أناس خارج الجغرافية· هل تعلمتِ لغة هؤلاء؟ كيف تتفاهمين مع هؤلاء البدائيين؟ أشعر في كل لحظة أنهم يهمون بالتهامي !

وأشارت بيدها إلى الباب المفتوح، إلى الفلاحات المشغولات بالثرثرة أو الصياح تحت الظلال، أصوات لايصل إليها منها إلا ما يصل من نداءاتِ البط البري فوق غابات رتشموند أو نقيق الضفادع في بركة بيتها الريفي، وضحكت:

- لاعليك ·· أنا أمزح فقط·

* * *

على مقربة من الأرض المنبسطة وقلاع التبنيات التي اختفت ْ الان، إذا اتخذتَ طريقكَ صاعداً بين الأحراش الجبلية، وخلفت الكهوفَ التي عادت إلى سكونها منذ زمن بعيد، ستجد هناك أربعة صعاليك، أو هكذا أطلقوا على أنفسهم، يفترشون الأرضَ تحت سماء منذرة بمطر غزير· جاب هؤلاء الأربعة، كما قال لي سعود الأسدي الناجي من بين أنقاض قرية دير أسد واللاجيء إلى الناصرة، الأرض في شهر مارس، وتنقلوا من واد إلى سهل ومن سهل إلى واد، متقمصين أرواح صعاليك جاهليين، وحين وصلوا إلى أحراش أم الزينات جمعوا كمية من أوراق نبات اللوف اللاذع تكفي لطبخة ٍ واحدة، وبعض من نبات الفطر، وإضمامة هليون كبيرة تكفي لإطعام أربعة أيتام· وفجأة أبرقت السماء وأرعدت، وزخ مطر غزير، فقال كبير الاربعة نواف عبد، وكان هذا قبل أن تصيبه الجلطة الدماغية بسنوات، دعوني ·· سأذرع الحرش حافياً وفاءً لنذر قطعته على نفسي لكاتبنا محمد ابن أم الزينات· وانطلقَ حافي القدمين بين الأشجار متخبطاً بالوحول والمطر إلى أن غاب عن النظر·

لم تتوقف الحكاية عند هذا الحد، فقد وصل نواف إلى حدود الدالية(6) كما قيل لي، وعاد لاهثا وممطرا ومبتهجا، ولمّ حطباً وأوقد ناراً، وبدأ بقلي البيض بالهليون المحيوس بزيت الزيتون في تجويف تحت صخرة عظيمة، وبدت وجوه الأربعة حول النار قريبة الشبه بوجوه الرعاة الذين صادفتهم غرود ذات يوم في جولاتها، وتوقفت لتسألهم عن اسم هذا المكان، فقال كبيرهم، هذه هي الروحة، وهناك أشجار الأرملة الباكية، اما هذه البلاطات فهي بلاطات الشقاق· لهذا السبب ربما، وما أن وصلت غرود إلى قلاعها، أخرجت دفتر يومياتها وكتبت وهي تجمع شتات الأمكنة التي زحفت في كهوفها: "··· وهنا أيضاً تجدين نفسكِ أمام مشاهد برية غامضة يلفها ضوء لبني تخلف بعد سقوط الأمطار، ويتراءى لكِ في آخرها، وبعد أن تكوني تنقلت من صخرة إلى أخرى، رجلٌ ذو لحية بيضاء، كاهنٌ ربما، وبلاطاتٌ عليها نقوش وأسماء، وتسمعين صوت موسيقى تجيء من مكان غير منظور، وحين تسألين، يتحفك الرعاةُ بحكاية عن كل بلاطة وشجرة ومنعطف··· يبدو أن الناس هنا لم يتركوا شيئا بلا تسمية ·· إنهم يربون حتى الحجارة كما يربون أبناءهم"· وأعادتني هذه العبارات إلى ملحوظة أخرى كتبتها بعد استكشافها للكهوف الفرنسية: "··· هنا تزحفين على بطنكِ طوال ساعات، وتشرفين على حافات خطرة لايضيئها سوى مصباح الأستلين، وتضرب رأسكِ صخورٌ بارزة متدلية، وتضرب قدميكِ صخورٌ ناتئة من الأرض، وتصلين أخيراً إلى عجائب متنوعة ؛ كتلة من الطين على هيئة ثور البيزون، وصور سحرة مقنعين راقصين على جدار، وآثار أقدام إنسان من العصر المجدليني ·· يخيل اليّ أنه غادر لتوه"·

وقال نواف، بعد أن لاحظ خفوت صوت قطرات المطر الذي يسبق السكون، علينا أن لانغادر قبل أن نضيف إلى ذاكرة أشجار أم الزينات أسماء أبنائها الضائعين تحت سماء الله الواسعة· هذه سروة صديقي محمد، وتلك زيتونة أستاذي صالح برانسي، ولابد أن تحمل أجمة الصبار اسم غسان كنفاني· وأرهف الأربعة أسماعهم كأن فاردة تحل بالمكان فتترك الخيول والجمال جانبا، ويتوزع أصحابها في دائرة، وتتوافد جوقة عازفين تتخذ أمكنتها بين الأشجار، وبين حجارة البيوت المهدمة وقد غطّاها البلان وتسلقت أطرافها أزهار الخرفيش ·

* * *

كروم الحرادنة، نسبة إلى عائلتي، أو هذه الأحراش، لاتذكر إلا ويتبعها المتذكرُ برنة اندهاش محاولا تمثيل اتساعها بما لاتدرك أعداده ولا مداه، ولكن ابنة عمي خالد تقول لي، ولا أشك أنها تتطلع في تلك اللحظة من باب بيتها في الدالية جنوبا إلى كرومنا، هل تذكرها؟ كانت تمتد بنا في كل الاتجاهات، حتى مشارف الدالية· وأسالها، من يجدّها (7) الان؟ أما زالت ْ تحمل كما كانت ؟·

- وأكثر، ولكن اليهود لايسمحون لنا، لايضمّنون زيتونها لأحد من أهل أم الزينات ·

- من يأخذ زيتونها؟

- يضمّنونها لغرباء، ليسوا من أهل بلدنا·

وتتبع هذا نهدةٌ يبدو أنها تثلم أوتار صوتها أكثر مما هي رفّة جناح عابر بين لحظة وأخرى، أو بين شجيرة وشجيرة من أشجار الزعرور ·

وأقول مواسيا ربما، أو مصمما على إضافة حكاية أخرى إلى رصيدي من الحكايات :

- أتعرفين عائلة محمد أبو الهيجاء؟ هم يقيمون على التل الوسطاني منذ العام 1948، بالقرب منكم، ومع ذلك لايستطيعون وضع إصبع على طرف قريتهم عين حوض التي يرونها من مكانهم ذاك رؤيا العين· اسمعي هذه الطرفة من طرائف أبناء الشيطان الذين احتلوا بيوتها، وجعلوها مستعمرة فنانين، وحولوا مسجدها إلى مشرب ومطعم، والمقبرة إلى موقف سيارات ؛ جاءهم أحد ابناء أبو الهيجاء راجياً بحق العشرة الطويلة، فهو من عمل مع إخوته على ترميم وتجديد البيوت التي احتلها الغرباء، أن يسمحوا له فقط بوضع سياج حول ما تبقى من قبور أسلافه، فثار الخوف في نفوسهم، ورفضوا بشدة وعصبية· كانوا محتشدين بهؤلاء الناس غير المرئيين، أو الغائبين كما يسمونهم"·

فاطمة لاتقرأ الكتب، وهي لاتعرف بالطبع بقية الحكاية، فهي لم تكن هناك حين تجمع الفنانون، ولم أكن أنا هناك ولا أحد من أهلي، ولكن الكاتب الصهيوني المصاب بالقلق ديفيد غروسمان كان هناك، وسأل فنانا نحيلا جاحظ العينين تجعدت رقبته حتى عادت كرقبة دجاجة مكتهلة، لماذا رفضتم؟ هل ينتقص سياج مقبرة من فنونكم العظيمة؟ هل يخرجكم من هذا المكان إلى المكان الذين جئتم منه؟ هل ما زلتم تخشون أشباح موتاهم؟ فرد الفنان المتشبث بكرسيه الهزاز : "لا ·· لم نعد نخشى الأشباح ·· ولكن خوفنا هذه المرة من أنكَ إذا أعطيتهم بصمة إصبع هنا، فمعنى ذلك أنك تعترف فوراً بأن هناك نوعا، لا أدري ماهو، نوعا من الظلم حدث هنا، وحولهم إلى أناس سيء الحظ اقتلعوا من أرضهم· إذا أخذوا هنا موقعاً، سياجاً أو جداراً، سيقوض هذا حقنا في المكان، في امتلاكه"·

وسيطلق ميرون بنفنستي، بعد أن روى هذه الحادثة، على هذا الخوف لقب "الخوف العقلاني"، هو الذي تجاوز شيئا من خوفه ووظيفته في بلدية القدس، وأسس مركز أبحاث ليواجه الخوف بأعمدة اسمها، ما صار صار، وما فات فات· تغير المشهد كما يقول، وحتى مضافة آل ماضي في إجزم، لن تجد من يؤمن بيننا أن فلسطينيا بناها أو اقام فيها· هذه الأرض وأهلها في خريطة اليهود العقلية رقعة بيضاءٌ اسمها مستعار· صحيح أن هذه البيوت العربية أنيقة وجميلة، ولكن الغرباء الذين حلوا فيها لا يستطيعون تصديق أن سكانها السابقين امتلكوا ذوقا رفيع المستوى مثل هذا، وسيخترعون قصصا عن أصلها ؛ هي بالتأكيد بيوت وقلاع بناها الصليبيون، وإلا هل يمكن أن يبني غير المرئيين والغائبين هؤلاء بيوتا من هذا النوع ؟·

حتى كروم الحرادنة إذاً، لاوجود لها، ولكن لابأس أن يأكل زيتونها صندوق أراضي الدولة، فالمحصول هو الحقيقة الواقعية الوحيدة الملموسة، أما هذه السناسل، كما قيل لفرانسواز(8) ذات يوم بلسان مرشد سياحي هاجر إلى فلسطيننا من اوكرانيا في الثمانينيات، فقد تناسلت مثلما تناسلت الصخور والوديان، وخلقها الله كما خلق كل شيء من أجل اليهود وكل من سيتهود في مقبل الايام· و يومها قلت لفرانسواز، هل تظنين أن الله وكيل عقارات يعمل لدى هؤلاء الخائفين من رؤية وجوههم في المرآة؟ هم صنعوا أوهاما وعاشوا فيها، وأعطوا مخاوفهم عقلا، ولكن الحكاية لن تتوقف هنا كما تعرفين·

فاطمة حقيقة تتناسل، هي وبناتها وأبناؤها الذين أدهشني عددهم، وسيتعرف عليها وعليهم الغازي(9) في سعيه إلى حل ما بدا له ذات يوم لغزاً، آخذا معه روايتي، صاعدا جبل الكرمل ليسأل عن من يعرفني ويعرف أناس الحكاية، هؤلاء الذين يخشى زملاؤه في الصحيفة فهمهم، لأن الفهم يخرجهم من مستعمرة الفنانين ورامات غان وشارع جابوتنسكي· هل يخشون أن يجدوا أنفسهم في الحرش الذي ذرعه نواف مجرد متطفلين على مشهد عرس لايشبه أعراسهم في بلغاريا أو بولندا، أوعلى مشارف عين حوض وهي تعج بأهلها؟ أو صامتين محدقين في هذا البحر الغريب؟

* * *

حين وصلتُ إلى هذه اللحظة التي دخلت ْ فيها يسرى وطفلها إلى حكايتي، حاولتُ استرجاع ملامحها من الصورة الوحيدة المنشورة في موقع باميلا سمث، في هذا الفضاء المسمى فضاء الانترنت، أو الكون الخيالي المنتشر فوق أو تحت أو حول أو في عالمنا الملموس بأناسه وأحجاره وغاباته وصحاريه، ومع ذلك لانراه عيانا وإن كنا نسمع به، فنكتفي بقراءته والدخول فيه أينما اتجهنا، حيث لا ملمسَ للأمكنة والأزمنة، بل لمتصَل غامض لايُرى يجمع بين ماض وحاضر وآت في فضاء لافوق فيه ولاتحت ولا يمين ولاشمال· هنا صورة يسرى، أعني أينما التفتَ، كما لو أنها لم تغادر، مثلما الطفولة التي مازلتُ أثق أنها ماثلة في فضاء ما أستطيع إيجاد طريقي إليها فور أن تلتمع علامة ؛ كلمة أو صورة أو صوت أو مذاق خروب (10) أو رائحة سرّيس(11) بعد ليلة ممطرة· هذه بوابات تصلنا بعوالم لانهائية تتراجع أمامها صور واقع يبدأ بالاختفاء وتبدأ بعدها قوة الروح بالامتداد في حلم أبدي يمكن للزمن الآتي أن يجيء فيه ويكون لنا· صورة يسرى تقول لي هذا، أنا الذي لم أكن موجوداً حين بدأت ْ تتعلم اكتشاف الشظايا وتجميعها، وها أنا اكتب لمن لم يوجدوا بعد لأقول لهم كل شيء، وأعيد خلق كل شيء·

هنا صورة باميلا أيضاً، باميلا الساهرة في مكان ما من هذا الفضاء ذاته، وهنا عنوان بريدها الذي يمكنه أن يصلك بها في أية لحظة كما لو أنها تقيم في غرفة مجاورة أو تقلب أوراقها بجوارك، أو تعد فنجان قهوتها في المطبخ المجاور·

أقدم نفسي لباميلا، وأقول وأنا أضرب على مفاتيح الحاسوب :

- سيدتي··· إليكِ هذه المفاجأة ؛ ربما يعني لك شيئاً أن غرود دخلت في رواية فلسطيني وهي تتنقل بين صيافير(12) الكرمل قبل أن يولد بسنوات، وربما يعني لك شيئاً أن تعرفي أن رفيقتها يسرى الجالسة بجوارها تحت الظلال، ورفيقتها إلى عصورنا الحجرية، هي من أهالي قريتنا·

فتلتفت كما لو أنها تواصل حديثاً مألوفاً ولكن مع دهشة لاتخفى :

- عزيزي··· مرت عشر سنوات أو أكثر وأنا أبحث عن أقرباء يسرى ! ولكن قيل لي أن كل القرى تم تدميرها وأنكم تشتتم· هل أنت متأكد أنك ربما عرفتها؟ كيف تسنى لك أن تعرفها؟ على أية حال··· ما تقوله ممتع !

- لم أعرفها، بل التقطتها كما التقطتُ آخرين من ذاكرة أمي، انا من أم الزينات على السفح الجنوبي للكرمل، تماما فوق مغارة الواد·

- سمعتُ عن قريتكَ بالطبع، كانت قريبة من إجزم، أليس كذلك؟ ودمرت في العام 1948، وزرعت فوقها الأشجار لإخفاء الدلائل على وجودها·

- صحيح··· هذه القرى في منطقة واحدة ·

- إليك رسالتي الجامعية، فقط لأن فيها المزيد من الصور، أرجوك ليس عليك أن تقرأها كلها، يكفي أن تقرأ الفصل الذي كتبته عن غرود· أنا متعبة هذه الليلة لأننا نعد لجنازة عالم آثار شهير كان صديقا وفياً لزوجي، ولاستقبال ضيوف من أفريقيا، ولن استطيع مواصلة الكتابة طويلا في هذه الليلة ·

- وهذه مفاجأة أيضاً ·· رسالتكِ الجامعية مفاجأة لم أتوقعها، ترميمٌ للذاكرة، أعني لذاكرتنا نحن الفلسطينيين، نعم، هذا هو المشهد قبل ميلادي، لدي الآن تفاصيل أكثر وصور حية وأناس يمكنني إعادتهم إلى الحياة·

وأواصل الكتابة، كما لو أنني لاأتحدثُ إلى باميلا وحدها بل إلى جمهور ينتظر:

- نحن كما تعرفين بحاجة إلى قدر كبير من الذكريات لنبقَ على صلة بمستقبلنا وماضينا· قرأتُ الفصل الذي أشرت إليه، ولكنني لاحظت هفوة بسيطة، أنت ترجمت "مغارة السخول" إلى "مغارة الأطفال الصغار"، بينما كلمة "السخول" تعني الماعز في اللغة العربية ! هل رأيت صوراً حديثة لما يقارب 500 قرية مدمرة لم يتشتت سكانها في الحقيقة بل اقتلعوا وحرموا من ملكية أراضيهم؟ لدي أقرباء مازالوا يعيشون على بعد ميل من أم الزينات، ولا يزال الإسرائيليون يمنعونهم من العودة إليها، انهم يسمونهم "غائبين"!

ثم ألحقتُ صورتين بهذه الكلمات، وكتبت:

- هنا صورتان، الاولى لما يبدو أنها صخور جاء بها من القمر رائد فضاء، بينما هي صورة بيت مدمر، والثانية لثلاثة أشخاص، اثنان ليسا من علماء آثار العصر الحجري بل لإسرائيليين من عصر حجري معاصر ؛ المترجم وإلى جانبه ناشر روايتي في العبرية· الشخص الثالث قريب لي يقودهما إلى مكان ميلادي· أصر الاثنان على رؤية المكان الحقيقي حيث حدث كل شيء، وحيث يدعي الكاتب أنه ما زال يسمع أصوات الصمت·

وعادت باميلا تكتب :

- مرة أخرى، مازلت أعمل والوقت تجاوز منتصف الليل، سأنظر في هذه الصور في مابعد، ولكن كلمة "أطفال صغار" تعني في الإنجليزية أيضاً "صغار الماعز"، ألا تفي بالمعنى؟ لدي المزيد من الصور، ربما يمكنك المجيء إلى انجلترا، أين أنت؟··· وأيضاً··· ستبقى فلسطين، الناس يتجاوزون الإبادة ويعيشون، أنا رأيتُ كيف يتمكن الناس من البقاء وتجاوز آلام لا تصدق· هذا مدهش !

* * *

تحدثتْ غرود، كما تقول زميلتها في بعثة التنقيب جاكيتا هوكس، مع يسرى عن أخذها إلى كيمبرج· لابد أن هذا حدث في تلك الظهيرة، أوخلال جولة بين أكوام التراب المتبقي من مناخل الفلاحات، أو تحت ضياء سراج تحمله يسرى المنحنية بجانب غرود على تجويف غير طبيعي في أرضية الكهف، ولكنه حدث بالتأكيد كما تقول باميلا وهي تقلب يوميات تلك السنوات· فبعد عدة مواسم أصبحت يسرى خبيرة في تمييز العظام، وفي التعرف على الثمار والبقايا الإنسانية والأدوات الحجرية· تعرفت على سن قاد إلى اكتشاف جمجمة مهشمة، ورغم أن لاأحد يذكر أنها اكتشفت هيكل أنثى إنسان النياندرتال الشهير، جوهرة كشوفات غرود، إلا أنها هي من اكتشفه في مغارة الطابون في الطبقة الاولى، وتحولت إلى مسؤولة عن التقاط المواد قبل أن يصار إلى نخل التراب ·

هل حلمت ْ يسرى بالذهاب إلى كيمبرج مع المرأة الضئيلة الحجم التي ستصبح في مابعد أول استاذة لكرسي علم الآثار في الجامعة؟ وهل حدثتها هذه عن موسم الخريف الذهبي الذي يحول كيمبرج إلى مدينة سحرية؟ حسب هوكس القابعة الان في بيتها الصغير على أطراف اوكسفورد تراقب طلبة استأجروا غرفتين من غرف بيتها، امتلكت هذه الفلاحة الضاحكة قدرات غير عادية بالفعل، وامتلكت حلماً، وكان يمكن أن تصبح زميلة في جامعة نيوهام·

ولكن خريف غرود الذهبي المجهول لم يكن مغرياً كما يبدو، أو أن الفلاحة الفلسطينية فضلت الإنطواء على حلمها ببلاد لم يكن لها موقع على خريطة هذه القرية المعزولة على أطراف الجبل· واحتفظ الفريق النسائي الذي غادر مواقع الحفريات بعد سبعة مواسم بصورة يسرى وهي تقف مودعة والعربات تحمل الصناديق والخيام والفؤوس، وتلوّح القبعات والنظارات الطبية وهي تنحدر على طريق حيفا·

أتساءل الآن: أين ذهبت يسرى، كما لو أنني لاأعرف أخبار الطوفان الذي اجتاح سكان حبات الجوز، ولا هذا الشتات المحتوم الذي فقد فيه أخي آثار أهله في تلك الليلة حين عاد هابطاً إلى الوادي فوجد البيت خالياً، والذي دخل فيه الضابط يهودا من مستعمرة يكنعام بجنوده بيت الحاج عبد الغني، فقال لهم، تفضلوا، فسألوه ماذا تفعل هنا؟ فقال هذا بيتي ·· تفضلوا واشربوا قهوة، فتفضلوا وشربوا قهوة وقتلوه، وكأنني لاأعرف أنهم خرجوا ودخلوا بيت الشيخ يوسف فوجدوا شاباً، ففتشوه وأخرجوه من البيت إلى الزيتون وهناك قتلوه، ويقال إنهم ذبحوه بالسكين· كل هذا أعرفه، وأعرف أن خمسة رجال مع زوجاتهم، في تلك الليلة التي تناثر فيها أهل أم الزينات لأول مرة منذ أن خلق الكون بين الدالية وعارة وأم الفحم، طوقهم جنود يكنعام عند بيادر خبيزة، وانتزعوا من زنار بنت المختار ألف ورقة فلسطينية، وأوقفوهم صفا واحداً واطلقوا عليهم الرصاص ·

باميلا لاتعرف شيئاً من كل هذا، ربما هي عرفت ماقيل لها: قيل لي أنكم تشتتم، مثلما عرف الأفريقي في مومباسا أو العربي في بغداد أو الهندي في كراتشي، صورة غائمة سحبت منها ملامح الحسرات الانسانية وذعر ويأس عيون الفلاحين الفلسطينيين الذين فاجأتهم هذه الضباع المسلحة وأنشبت فيهم مخالبها· أما غرود، فهي لم تهتم حتى بأوراق يومياتها بعد أن غادرتْ، ولا ترددت في قاعة محاضراتها كما يبدو أصوات الفلاحات الفلسطينيات اللواتي غنين في فترات الاستراحة للتراب المنخول وكسر الفخار وغوامض في الروح لايفهمها سواهن، ولا ألم بها حلم يسرى بالرحيل إلى كيمبرج· بالتأكيد لم تعد أنداء الكرمل تتساقط في خيالها مثلما ظلت تتساقط في خيال عجوز مخيم البقعة حين تحدث عن الأم الفلسطينية التي صمدت إبنها القتيل في البيت مثلما يصمد العريس وظلت تغني له حتى طلوع الشمس· وفق رواية هذا العجوز، كان اسم هذه الأم أيضاً يسرى· هل هي يسرى ذاتها، يسرى العصر الحجري؟ وهل طفلها ذاك الذي داعبته غرود هو نفسه العريس القتيل؟ لا أدري، ولن يدر أحد اللهم إلا هذه الظلال الصامتة والنسائم العابرة فوق أشجار الزيتون·

هوامش:

(1) رواية صدرت عن دار رياض الريس، لندن، 1990·

(2) اكتشفت هذه الأوراق الباحثة الامريكية باميلا سمث في العام 2000 خلال إعدادها لرسالة جامعية موضوعها علم آثار العصر الحجري·

(3) المقصود جبل الكرمل الفلسطيني المطل على مدينة حيفا الساحلية·

(4) صمده، أي وضعه في صدارة المكان، والعادة هي أن يصمد العريس في غرفة أو قاعة في ليلة زفافه·

(5) المسكوف، عرف الروس بهذا الاسم في بلاد الشام منذ أواسط القرن التاسع عشر ·

(6) هي دالية الكرمل، قرية من قرى جبل الكرمل تبعد عن قرية أم الزينات مساحة ميل واحد شمالا·

(7) جدّ الزيتون أي قطافه، وكانت تستخدم العصي في ضرب أغصان الزيتون لإسقاط الحب·

(8) فرانسواز جيرمين، صحفية فرنسية مسؤولة عن شؤون الشرق الاوسط في صحيفة لومانتيه·

(9) يوسف الغازي، صحفي إسرائيلي، هاجر من وطنه مصر إلى فلسطين في الخمسيينات·

(10) الخروب شجر ذو ثمار قرنية حلوة المذاق يصنع منها الرُبّ والدبس·

(11) السرّيس شجيرة صغيرة خضراء ذات رائحة عطرة قريبة من رائحة شجيرات الآس·

(12) الصيافير هي صخور الجبال الشاهقة ومفردها الصِفار·

طباعة