رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 11 يوليو 2007
العدد 1782

تدمير الديمقراطية

جوزف مسعد*

في هذا الوقت الذي يهاجم فيه أعداء الشعب الفلسطيني الفلسطينيين على أكثر من جبهة (ملاحقة إسرائيل القضائية التعسفية ضد عزمي بشارة ومعه المقاومة الفلسطينية للإساس العنصري للدولة اليهودية داخل الخط الأخضر، وسعي شركة الحريري وحلفائها في 14 فبراير للبرهنة على قدرة الجيش اللبناني على حساب حياة المدنيين الفلسطينيين في مخيم نهر البارد، وحصار الاحتلال العسكري الاسرائيلي وراعيته الولايات المتحدة للمناطق المحتلة) جاء آخر الهجمات على يد المتعاونين الفلسطينيين مع العدو: قيادة فتح، بتحريض من الولايات المتحدة ·

والحق أن تدمير الديمقراطية في الشرق الاوسط ظلت الدعامة الأساسية لسياسة الولايات المتحدة في المنطقة منذ أن دعمت المخابرات المركزية الأمريكية (السي ·آي· إيه) انقلاب حسني الزعيم في العام 1949 الذي أطاح بالديمقراطية في سورية· والقائمة التي تلت هذا الانقلاب طويلة· فقد دعمت الولايات المتحدة انقلاب شاه إيران في العام 1953 ضد حكومة مصدق، ودمرت التجربة البرلمانية الاردنية الليبرالية بتنظيم انقلاب قصر في العام 1957، ودعمت انقلاب البعثيين في العراق في العام 1963 ضد الزعيم الشعبي عبدالكريم قاسم·· وهكذا· ولم تقتصر السياسة الامريكية على الاطاحة بالحكومات الليبرالية والديمقراطية في المنطقة، بل بتقديم الدعم الفعال، إن لم يكن بالتخطيط والتحريض، للحكم الاستبدادي الذي يحل محلها، وبتدريب وتجهيز اولئك الحكام الذين أقاموا أنظمة متطرفة في قمعها وطغيانها· ومن هنا ليس جديدا ً دورها الحالي في تدمير الديمقراطية الفلسطينية، وفرض فئة متعاونة فاسدة على الشعب الفلسطيني·

في وسط كل هذا، يقدم المعلمون الغربيون ونظراؤهم "العلمانيون" الفلسطينيون والعرب الموالون للامريكيين فنطازيات استشراقية لما يزعم أنه وضع فلسطيني استثنائي· ويبدو أن هؤلاء الخبراء ينسون تاريخ التعاون في أوساط المضطهدين ووسط المأساة والقمع، من مجالس الادارة الذاتية اليهودية في الجيتوات "1" ومناصب السجناء المحظوظين "2" إلى الرئيس الفيتنامي "ثيو" وحركة "يونيتا" في أنغولا و "بوثيليزي" زعيم الحزب المتعاون مع العنصريين في جنوب أفريقيا و حركة "رينامو" في موزمبيق وجيش لبنان الجنوبي بقيادة سعد حداد ثم انطوان لحد· الحقيقة هي أن الوضع الفلسطيني في ضوء هذا قاعدة وليس استثناء ً· الاستثناء الوحيد الذي يقدمه الشرق الاوسط للسياسة العالمية هو المصالح الامبراطورية غير المتجانسة التي يجتذبها النفط، والدعم الدولي غير المسبوق المقدم لمستعمرتها الاستيطانية اليهودية، والاثنان مترابطان ترابطا ً جوهريا ً· العالم العربي ليس هو الاستثنائي، بل الاستثنائي هو الاستراتيجية الامريكية في المنطقة والمفارقة التاريخية التي تنطوي عليها طبيعة مستعمرتها الاستيطانية اليهودية· وطمس المعلمين الغربيين وخدمهم العرب لأي معرفة بهذا الوضع، يقوم على مواجهة أي تحليل يستهدف مقاومة الحكم الامبراطوري·

في حالة فلسطين، يوصف دعم الولايات المتحدة لبينوشيه الفلسطيني، جريا ً على عادة الدعاية الامريكية، كدعم لــــ الديمقراطية، بينما يوصف دفاع الحكومة الفلسطينية الديمقراطية عن نفسها ضد هذا التدمير وقطع الطريق كانقلاب على الديمقراطية· وقد شرح عالم النفس سيجموند فرويد عملية تشبه هذه العملية سماها "الإسقاط"، حين ينسب لاوعي شخص مشاعرَه وأفعاله تجاه آخر إلى الآخرتجاهه· هذه العملية عند فرويد عملية لاواعية، أما في حالة الانقلابيين الفلسطينيين (أو اللحديين كما أصبح يشار إليهم في العالم العربي) وراعيتهم الولايات المتحدة، فإن إسقاطهم لكل جرائمهم على حماس هو استراتيجية واعية، وهي جزء من رزمة استراتيجيتهم الشاملة لتدمير الديمقراطية الفلسطينية·

دعونا نبدأ من بعض الممهدات التاريخية للوضع الراهن· المرة الأولى التي قامت فيها حكومة فلسطينية شرعية في غزة ومنعت من مد سلطتها إلى الأجزاء الأخرى من فلسطين كانت في سبتمبر من العام 1948· وكان عبدالله ملك الاردن هو الذي وقف آنذاك في وجه "حكومة عموم فلسطين" التي تعارض وجودها مع خطته لضم وسط فلسطين إلى مملكته· وقد اعترفت الجامعة العربية بالفعل بحكومة عموم فلسطين (وكانت أقل انصياعا بلا خجل لجداول الاعمال الامبراطورية آنذاك مما هي عليه اليوم) ،كممثل شرعي للشعب الفلسطيني، والوريث الشرعي للهيئة العربية العليا· ولجأ الملك الاردني إلى اجراءات قمعية لإخلاء الضفة الغربية من كل انصار حكومة عموم فلسطين، وقدم إغراءات عديدة للذين يناصرون مطلبه بالضم الذي أطلق عليه اسم "التوحيد"· وما أن ضم عبدالله المنطقة "إدارياً وقانونيا" حتى سارع "المجتمع الدولي"، أي بريطانيا وإسرائيل ،إلى الاعتراف له بتوسيع مملكته (ناقص القدس الشرقية )، بينما واصلت الجامعة العربية معارضة الضم بحث من حكومة عموم فلسطين· وسرعان ما ستختفي حكومة عموم فلسطين من الذاكرة الشعبية والقانونية مع إخضاع غزة للأدارة المصرية إخضاعا تاما ً وكاملا· وتغيرت تسمية فلسطين الوسطى إلى الضفة الغربية وأعلنت جزءا من الأردن كخطوة على طريق الوحدة العربية ودعما ً للفلسطينيين· وصور الملك معارضة الضم كمعارضة للوحدة العربية وتحرير فلسطين· وهذا هو بالتحديد ما يأمل إنقلابيو فتح ورئيسهم تحقيقه في الضفة الغربية اليوم، باستثناء أن الوحدة التي يسعون إليها هي وحدة أيديولوجية بين إنقلابي فتح ورعاتهم الاميريكيين والإسرائيليين والعرب·

هذا الانقلاب الذي نفذته فتح كان قيد الإعداد ردحا ً من الزمن، فقد كانت تتم تهيئة عباس، بينوشيه فلسطين، لدوره الجديد منذ أكثر من سنة ونصف، بل وأطول إذا أضفتم الفترة التي فرضته فيها الولايات المتحدة كرئيس للوزراء ضد ياسر عرفات الذي اعتبر تعاونه مع الخطط الامريكية والإسرائيلية غير كاف· ومنذ الانتخابات الديمقراطية التي أزاحت انقلابي فتح وجاءت بحماس بأصوات الأغلبية الشعبية، تم وضع خطة إعلان حكومة طواريء قيد التنفيذ بتوصية مشدّدة من الأميركيين الذين ترسم معارضتهم للديمقراطية التاريخ الدموي الماضي والحاضر الذي أوقعوه، ويوقعونه، بالمنطقة· وكانت المشكلة هي أن الفرصة لتنفيذ الخطة لم تكن متاحة، وليس لأن عباس وموظفيه الانقلابيين لم يحاولوا خلق الفرصة· لقد حاولوا خلقها بالتعاون العلني المفتوح بلا تحفظ مع المحتلين الإسرائيليين وراعيتهم الولايات المتحدة· وتضمن هذا الحصار الاقتصادي والخنق الذي فرضته الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي على الشعب الفلسطيني، وتجدد الاجتياح الاسرائيلي للضفة الغربية وغزة، واختطاف عدد كبير من الوزراء وأعضاء البرلمان المنتمين لحماس، وقيام قطاع طرق فتح بإحراق مكاتب رئيس الوزراء، ومهاجمة الوزراء، وتخريب أعمال الوزارات تخريبا عمليا ً، والمساعدة الفعالة التي قدمتها المخابرات الاردنية والمصرية اللتان كانتا المستشارتين الكبريين لعباس بأوامر الاميريكيين، والاسرائيليين أحياناً·  وعلى صعيد الجبهة الفكرية، دعمت هذه المحاولات تصريحات وبيانات المثقفين الفلسطينيين المتعاونين الذين تطلق عليهم تسمية "العلمانيين" بسبب مساندتهم لاوسلو، أو المنظمات غير الحكومية التي أنشئت من أجلهم بعد اوسلو وتولدت عن هذه الاتفاقيات· واكملت جهود هؤلاء مجموعة من المثقفين اليمينيين اللبنانيين الموالين للحريري الذين نصبوا أنفسهم "ناشطين يساريين موالين للفلسطينيين" لأنهم كانوا قد انضموا في السبعينيات والثمانينيات إلى صفوف فتح الممولة خليجيا ً· وفي الأشهر الأخيرة لم يعد بالأمكان اخفاء تعاون انقلابي فتح، كانت الاستعدادات العلنية لللانقلاب تنطلق بكامل قوتها مع توسل المساعدة الامريكية تدريبا ً وتسليحا ً (وقد تم تلقيها) ومع المساعدة الاسرائيلية في تسهيل هذه الجهود (وقدمت بكرم أيضا ً) ومع وجود غطاء دبلوماسي عربي (في المتناول دائما ً)· وهاهي الخطة التي ناقشت ُ تفاصيلها في مقالة لي في نوفمبر الماضي (انظر مقالة "بينوشيه فلسطين") يتم تنفيذها أخيرا ً مع كل الجعجعة التي تصلح لاوغستو بينوشيه ذاته·

انقلابيو فتح، وجرياً على عادة كل النظم العربية غير المنتخبة التي قامت بانقلاباتها أيضأ على القوى الديمقراطية في مجتمعاتها، وصفوا أعداءهم المنتخبين ديمقراطياً بأنهم "إنقلابيين" يقودون الشعب الفلسطيني إلى هاوية "مظلمة"! ولم يسلك بينوشيه سلوكا ً مختلفا تجاه آليندي، فقد رأي في نفسه وفي إنقلابه الفاشي المخطط له أمريكيا تصحيحا ً لإعادة الأمة التشيلية إلى الطريق الصحيح لخدمة الامبراطورية والتعاون معها· ويفهم الانقلابيون الفلسطينيون أنهم لن يظلوا في السلطة ويواصلوا مراكمة أرباحهم المالية إلا إذا واصلوا خدمة الاحتلال الإسرائيلي وراعيته الولايات المتحدة· وفي هذا تفوق الانقلابيون الفلسطينيون حتى على إسرائيل والولايات المتحدة في تلفيق الاتهامات ضد حماس· فأوصاف مثل "قوى الظلام" و"إمارة الظلام" ليست إشارات إلى إلى الدولة اليهودية العنصرية التي تقمع الفلسطينيين باستخدام اللاهوت اليهودي ومزاعم التفوق العنصري والقصف الجماعي العشوائي للمدنيين وسرقة أراضيهم على امتداد العقود الستة الماضية، بل هي إشارات إلى حماس المنتخبة ديوقراطيا ً التي تدافع عن نفسها ضد المرحلة الأخيرة من مراحل الانقلاب الذي كان يعده محمد دحلان باسم فتح ورعاتها الاسرائيليين والأمريكيين في غزة· وتتسق خطابية عباس الطنانة ، ولاريب أنها من إملاءات كوندي رايس وإيهود أولمرت عليه، مع طنين خطابية "المثقفين" الفلسطينيين الموضوعين على قائمة مدفوعات أوسلو وأنصارهم اللبنانيين (الذين هم أيضا ً على قائمة مدفوعات شركة الحريري وصحيفة النهار)· الخطيئة الكبرى التي ارتكبتها حماس هي انتصارها على الانقلابيين بعد أن حشروها في الزاوية آملين أن يذبحوا كل قادتها في غزة· و لم يكن أمام حماس، وقد صبرت أكثر مما ينبغي رغم شهور من الاستفزازات الدموية (والتي تضمنت إغتيال قادة من حماس وسجن وتعذيب كوادرها، هذا أردنا تسمية أكثر الأفعال بروزا ً) على يد الانقلابيين، إلا أن تدافع عن نفسها ضد هجومهم النهائي·

وكعقاب على هذا، سيواصل الأميريكيون والإسرائيليون والاتحاد الاوروبي إخضاع الشعب الفلسطيني لكل أنواع الرعب· وقد بادرأعداء الديموقراطية، الاميريكيون والاوروبيون، سلفا إلى إرسال الجوائز المالية والدبلوماسية إلى قادة الانقلاب في الضفة الغربية، كما يفعل الاسرائيليون أيضا ً، مع أن الأخيرين أكثر حذرا ً· وتضمنت مساعدة إسرائيل الكبيرة للإنقلابيين في الأيام القليلة الماضية بشكل أساس قصف غزة وإعداد محادثات "سلام" مع قائد الانقلاب في شرم الشيخ كجائزة· وبهذا تقوم إسرائيل والولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي عمليا ً بقلب الاجراءات التي أتخذوها لمعاقبة الديموقراطية الفلسطينية منذ انتخاب حماس من أجل مكافأة الانقلاب المعادي للديمقراطية· وفي هذا السياق بدأت إسرائيل بإعادة أموال الضرائب التي سرقتها من الشعب الفلسطيني طيلة العام الماضي ونصف العام الحالي (حوالي بليون دولار أمريكي)· وبالنسبة لحكومة الانقلاب غير الشرعية التي شكلها عباس ووضع التكنقراطي سلام فياض رئيسا لوزرائها، فستتسلم، مثل سابقتها الحكومة التشيلية، كل أنواع المساعدات الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية· ودعونا لاننسى أن الاقتصاديين التكنوقراط من "مدرسة شيكاغو"، تلاميذ ملتون فريدمان، هم الذين تولوا مسؤولية الاقتصاد التشيلي تحت حكم بينوشيه، وهم الذين أوصلوه إلى حافة الانهيار تقريبا ً· إن النموذج التشيلي هو الذي أشاع مصطلح "حكومة التكنوقراط"، الذي أصبح متداولا بعد الثمانينيات، والذي يعدون الشعب الفلسطيني الآن بأنه سيكون مخلصهم·

لقد علق عباس منذ قيادته للانقلاب على الديمقراطية مواد في القانون الفلسطيني الأساسي التي تتطلب موافقة برلمانية على القرارات التي يتخذها· وأمر أيضا بحل كل منظمات المجتمع المدني، التي عليها الان أن تتقدم بطلبات تراخيص جديدة، وهي تراخيص لن تعطى للمنظمات ذات الصلة بحماس، ومن هنا ستجعلها قرارات عباس غير شرعية· وبينما استطاعت حماس السيطرة خلال أيام على النهب والاختلال الذي كان يقوم به بعض أعضاء هذه المنظمات، ينتشر الان انتشارا ً واسعا تخريب الاملاك الخاصة بحماس، بما في ذلك مراكز الخدمات الاجتماعية والمدارس والمكاتب، ويتواصل في أرجاء الضفة الغربية على يد قطاع طرق وسفاحي فتح· وفي هذه الاثناء يلجأ أعضاء حماس، بمن فيهم المسؤولون المنتخبون، إلى الاختباء خوفا على حياتهم، ناهيك عن المئات الذين تعتقلهم إسرائيل وفتح· وتنتشر الأن أنباء عن اختفاء وفقدان أشخاص، وكل هذا يجري بموافقة "المجتمع الدولي" الكاملة باسم دعم "الديمقراطية"· ولا يفوتنا أن نلحظ هنا أن الخطابية الفارغة التي يستخدمها عباس وعصبته من فتح في تبرير هذا التخريب والارهاب مستعارة من خطاب الولايات المتحدة الطنان في ما يدعى "الحرب على الإرهاب"، وخاصة ربط حماس بإيران·

وخلال ذلك، تضع جوقة علمانية من المثقفين الفلسطينيين الذين يدعمون إنقلاب فتح مسؤولية أفعال قام بها قطاع طرق فتح، وتضمنت رمي ناشط من فتح من سطح بناية عالية (حسبوه ناشطا من حماس) وما يشبه هذا من أفعال، على حماس، وكذلك تفعل وسائط الاعلام الفضائية التي يملكها سعوديون· وربما يمكن تفسير القصيدة الأخيرة لمحمود درويش دعما للانقلاب والمنشورة على الصفحة الأولى من صفحات صحيفة "الحياة" السعودية، بالشيكات الشهرية التي يتسلمها من السلطة الفلسطينية التي تسيطر عليها فتح، وهو ليس وحيدا ً في هذا· إن إدانته لاولئك المثقفين العلمانيين الذين يدعمون الديمقراطية الفلسطينية هي محاولة موسعة لاحداث استقطاب في المجتمع الفلسطيني، ليس على أساس خطين، خط من يدعم الديمقراطية الفلسطينية وخط من يعارضها، بل على أساس خط العلمانيين ضد خط الاسلاميين· يصور درويش "العلمانيين" المتعاونين مع إسرائيل الثيوقراطية (المحكومة بالكهنة) على تدمير ديمقراطية يرمز لها بـــ "الاسلامية"، على أنهم قوة التنوير والحداثة الغربية· ولكن ماهو مفقود عند درويش وأمثاله هو أن ما يصفها "القوى الظلامية" الاسلامية في فلسطين هي القوى التي تدافع عن الديمقراطية·

إن موقف موالاة الانقلاب الذي يتبناه الكثيرون من مثقفي اوسلو العلمانيين في مواجهة الديمقراطية الفلسطينية، لهو موقف يحوّل فعلا وقولا العلمانيين الفلسطينيين إلى "قوة ظلامية" في التاريخ الفلسطيني في العقود القادمة· وما نشهده لايقل عن انهيار شامل للنموذج الفلسطيني العلماني المقاوم للاحتلال الاسرائيلي· والإنقاذ الوحيد لهذه القوى من ظلامية حقيقية هو مواصلة دعم الديمقراطية الفلسطينية والتعبئة من أجلها، وفضح قادة الانقلاب المعادين للديمقراطية ومثقفيهم وعرضهم كما هم: كمتعاونين مع العدو·

* الكاتب أستاذ السياسة العربية المعاصرة والتاريخ الفكري في جامعة كولومبيا· من كتبه الأخيرة "دوام القضية الفلسطينية" و"ترغيب العرب"· نشر هذا المقال في الأصل في "الاهرام ويكلي" ثم أعاد نشره موقع "الانتفاضة الالكترونية" (4 يوليو 2007)·

"1"  مجالس الادارة الذاتية اليهودية، ويشير إليها الكاتب بالمصطلح الألماني "Judenrats"، تعني تلك المجالس المحلية التي كان النازيون يطلبون من اليهود تشكيلها في كل جيتو في البلدان التي احتلوها· ومهمة هذه المجالس هي التعاون مع المحتل النازي، وتقف بين سكان الجيتو والنازيين، وتتألف عادة من قادة التجمع اليهودي· تؤدي هذه المجالس عدة وظائف مثل توفير اليد العاملة اليهودية للقيام بأعمال السخرة، ومساعدة النازيين على ترحيل اليهود إلى معسكرات الاعتقال، وكان يتم اعتقال من لايتعاون أو قتله أو ترحيله إلى معسكر اعتقال·

"2" السجناء المحظوظون، ويستخدم الكاتب هنا المصطلح الالماني أيضا "Kapos"، هم سجناء معسكرات الاعتقال النازية خلال الحرب العالمية الثانية الذين تعينهم إدارة السجن في مناصب إدارية ثانوية، ويحظون بامتيازات لايحظى بها السجناء الآخرون، ويعامل هؤلاء السجناء المتعاونون عادة زملاءهم السجناء بوحشية تفوق وحشية إدارة السجن النازية·

اللافت للنظر أن هذين المصطلحين "مجالس الادارية الذاتية والسجين المحظوظ"، وغيرهما من الذي يخترعه المحتلون، هي ذاتها التي تستخدمها سلطات الاحتلال الاسرائيلي مع الفلسطينون تحت الاحتلال· فالسلطة الفلسطينية التي نشأت على أساس اتفاقيات اوسلو اسمها في الاوراق الاسرائيلية: سلطة الحكم الذاتي أي Judenrats ، ورجالها المتعاونون مع الاحتلال يحتلون وظائف ثانوية نسبة للوظائف التي يأخذها المحتل بيديه الأمن والسياسة والاقتصاد والاتصالات والموصلات ··· إلخ، ولهم امتيازات لايحظى بها غير المتعاون أي أنهم Kapos· وإذا تذكرنا قيام سلطة الحكم الذاتي منذ البداية بمطاردة رجال المقاومة واعتقالهم أو تسليمهم للعدو، والحرص على دفع العمال الفلسطينيين للعمل في انشاء المستعمرات والجدار، وعقد صفقات استيراد الاسمنت، وإذا تذكرنا أيضا أن مخطط بناء الجدار الصهيوني وتوزع المستعمرات هدفه خلق "جيتوات" فلسطينية، ندرك كم هي دقيقة هذه المصطلحات النازية في التعبير عن الحقائق التي فرضها المحتلون والمتعاونون على الارض الفلسطينية قبل صعود حماس، وندرك لماذا هذه الشراسة التي يبديها كهنة إنجيل اوسلو المقدس الـ Judenrats وموظفوهم المحظوظون، أي الـ Kapos تجاه الفلسطينيين الذين يعيشون معهم في الجيتو نفسه وفي السجن ذاته، ولماذا يستعينون بالأسلحة الاسرائيلية ·

طباعة  

استخباريا وعسكريا وسياسيا
كيف هُزمت إسرائيل في جنوبي لبنان(1)