رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 27 يونيو 2007
العدد 1780

تعذيب العقل

أحمد الخميسي

منذ فترة بسيطة قرأت عن تعذيب المواطن التونسي وليد العوني تعذيبا أدى به إلى فقدان عقله أو حسب التعبير الرسمي فقدان مداركه! وهو نوع من الحوادث يتكرر وقوعه على امتداد الخريطة العربية· 

هكذا ثمة شخص اسمه وليد أو عبدالله أو رشدي، طويل القامة، أو قصير، متزوج أو أعزب، فقد عقله بالتعذيب إلي درجة أنه لم يعد قادرا على استيعاب أو قراءة أو فهم كل ما يكتب الآن دفاعا عنه·

وليس فينا من لم يسمع عن التعذيب بشتى الطرق، لكن معظم وسائل الجلادين تستهدف في العادة بدن الإنسان، يديه، صدره، ذراعه· أما الوقائع التي تعذب العقل فإنها أقل شيوعا، لأنها تستلزم أحيانا قليلا من الخيال، والحرفية، التي لا وقت لها·

وتعذيب العقل عمل شيطاني قديم، تعرض لأحد فنونه الأديب الروسي الكبير فيودور دوستويفسكي في سيبيريا خلال اعتقاله، حين كانوا يجبرونه على تقطيع كميات ضخمة من الشجر طيلة النهار ليلقي بها عند الغروب في مياه النهر· التعذيب هنا لا يتعلق بالجهد البدني الشاق المبذول، التعذيب هنا يتجه إلي العقل مباشرة، إلى تدمير الدعامة التي يقوم عليها وهي العقل يقول إنك إذا قطعت أشجارا طيلة النهار فذلك لأنك ستبني منها كوخا أو بيتا، أما أن تعرق على قطع الأشجار لتلقي بأخشابها إلي النهر فهذا يعني أن العالم لا يحتاج إلى العقل، دمره إذاً، وارمه بعيدا، لأن الوجود بلا منطق· وحينما يكون جهدك كله عبثا، يغدو وجود العقل والمنطق مدعاة للسخرية، والاستهزاء، وتدوي في أذنيك أقوى فأقوى رسالة الجلادين: امسح عقلك، لأنك لست بحاجة إليه، لأنه لن ينفعك لا في تفسير العالم ولا في التحكم به· 

وقد اكتشف العلم الحديث أن القلب الذي نتغنى به في الشعر والروايات ليس أكثر من مضخة للدماء، وأن العقل هو حصن التفكير والمشاعر والطموح· وحينما تعذب العقل أو تدمره، فإنك تعذب وتحطم التكوين الإنساني المميز والبلورة الخاصة المشعة بكل أعماق وأبعاد الشخصية· واكتشف العلم الحديث أيضا أن الموت هو موت العقل، إذ يمكن استبدال الساق أو الكلى بأخرى، ووضع شريحة زجاجية في العين المعتمة لترى من جديد، وتغيير صمامات القلب أو القلب بأكمله، وزرع كبد، ورئة، لكن كل تلك المعجزات لا ترقى إلي المساس بالعقل الذي يجري مليارات من العمليات في أقل من ثانية والذي مازلنا لا نستخدم سوى جزء ضئيل من قدراته·

في هذا السياق أتذكر كتابا للدكتور عبد المحسن صالح اسمه " ما هو الموت؟ " · يقص فيه تجربة أجراها العلماء على كلب لمعرفة "ما هو الموت"، فيقول إن العلماء فصلوا كل أعضاء الكلب عن جسمه واحتفظوا خلال ذلك برأسه فقط حيا منزوعا من البدن، ثم قاموا عبر الأنابيب بضخ المحاليل والدماء إلي الرأس المنزوع، ففتح الكلب عينيه، وتعرف إلى صوت صاحبه وأخذ يلعق يديه· العقل إذاً هو الذي يصون الحياة والوعي والذكريات والإرادة بل وقلق الحب وهواجسه الرقيقة· 

وقد تم تدمير عقل وليد العوني المواطن التونسي، في ظروف، تشبه الظروف التي يتم فيها تدمير عقل الكثيرين على امتداد الخريطة العربية وبقدر سجونها· يختلف الاسم، والسن، وسمك أبواب الزنازين، واللهجات، وبدانة الزوجة، أو هزال الحبيبة، ولكن ثمة دائما إنسانا يفقد عقله وحده خلف أبواب موصدة· لكن تعذيب العقل ونفي دوره لا يجري في السجون وحدها، بل إنه يجري على نطاق المجتمع بأكمله أكثر بملايين المرات مما يتم وراء قضبان· وحينما تصبح الفوارق بين الدخول ضخمة إلي هذا الحد الذي نراه، يعجز العقل عن تفسير ذلك، وحينما يصبح من يحتكرون الحديد والأسمنت وغيره سادة المجتمع من دون عرق أو سبب، بينما لا يساوى كدح الشرفاء شيئا، وحينما يبني البعض قصورا خيالية في طريق الإسماعيلية والبعض مازال ينام على الأرصفة، وحينما يبرز كل شخص عديم الكفاءة ليتحكم في شؤون الثقافة، وحينما يصمت الأدباء ويتكلم أشباه الكتاب، وحينما يحل بالرشوة والعلاقات كل ما لا يحل بالطرق الشريفة، وحينما تربح الراقصة بهزة وسط واحدة أضعاف ما يربحه عالم على مدى حياته كلها، وحينما، وحينما، وحينما، فإن ذلك الواقع يصبح نوعا من التعذيب المستمر للعقل الذي لا يستطيع لا فهم ولا تفسير كل تلك المفارقات والفوارق، وهو تعذيب ينقل ٌ لٌلإنسان رسالة واحدة: امسح عقلك، لست بحاجة إليه، لأنه غير نافع لا في فهم العالم ولا في تفسير أحواله ولا في التحكم به·

 www.kanaanonline.org

طباعة  

جون بيركنز في "التاريخ السري للإمبراطورية الأمريكية" (2)
الذين لا تغريهم الأموال نطيح بهم... أو نغتالهم!

 
الحرية الأكاديمية في جامعة "دي بول"
في قبضة صهيوني صفيق هدد المطبعة وأثار هرجا لمنع نشر كتاب يفضح اعتداءه على الوقائع

 
لماذا خسرت الولايات المتحدة في العراق؟
 
القضية الفلسطينية: ماذا بعد الآن؟
 
كيف نرسم مسار الرؤية السياسية العربية؟