كتب آدم يوسف:
على الرغم من الشهرة الكبيرة التي يحظى بها الكاتب التركي أورهان باموك في بلاده، إلا أنه لم يتح لنا هنا في الثقافة العربية التعرف عليه إلا بعد حصوله على جائزة نوبل للآداب، حيث بدأنا بترجمة بعض أعماله، أو التحدث عن سيرة حياته وإنجازاته الأدبية بين الحين والآخر في الصحف السيارة، وقد أتيحت لي فرصة اقتناء روايته "البيت الصامت" الصادرة عن دار المدى ضمن سلسلة، مكتبة نوبل ترجمة عبدالقادر عبداللي·
ومنذ الوهلة الأولى القراءة الرواية تشعر أنك أمام عمل ما مخالف أو مختلف عما ألفته ذائقتك العربية من أسلوب للصياغة أو سير للحدث، وتتابع شخصياته وانسجامها مع المكان والزمان، وقد يصدق حدسك حين تقول: إن الترجمة فيها خلل ما، أو ربما يكون الأمر طبيعيا، والأحداث في غاية التماسك، ولكن حين تكون في سياق لغتها الأم، وليس بعد نقلها إلى لغة أخرى·
ضمير المتكلم
يرتكز بايوك في روايته على آلية السرد بضمير المتكلم وعلى لسان الراوي، وبذلك يكون قد تخلص من تقنية الحديث بضمير الغائب، وهي في المجمل طريقة يعتمد عليها كتاب القصة القصيرة، أكثر من الروائيين، ولو جئنا إلى مفتتح الرواية فإننا نجد باموق يبدأ أعلى النحو الآتي قلت: الطعام جاهز أيتها السيدة الكبيرة· تفضلي إلى الطاولة"·
لم تقل شيئا· وقفت متجمدة تستند إلى عكازها· ذهبت، وتأبطت ذراعها، وجلبتها، وأجلستها إلى الطاولة· تمتمت فقط· نزلت إلى المطبخ، وجلبت صينيتها، ووضعتها أمامها· نظرت، ولم تمس الطعام· تذكرت حين تحدثت لنفسها، ومطت رقبتها· أخرجت منديل الطعام، وأحنيت نفسي، وربطته من تحت أذنيها الضخمتين·
قالت: "ماذا حضرت هذا المساء، لنر ما لفقته؟"
قلت: مقلي الباذنجان بالبندورة، أما طلبته البارحة؟"
"أهو الذي كان ظهرا؟"
ودفعت الصحن إلى أمامها، تناولت شوكتها، وقلبت الباذنجان وهي تحدث نفسها، بدأت تأكل بعد أن قلبته قليلا·
قلت: سلطتك هنا أيتها السيدة الكبيرة"· وولجت إلى الداخل أخذت صحن باذنجان لنفسي، وجلست، وبدأت بالأكل·
بعد قليل، نادت قائلة: "ملح، أين الملح يا رجب"؟
نهضت، وخرجت إليها، ونظرت، وإذا به تحت يدها· "ها هو هنا ملحكم!"·
أول ما يشدنا في الفقرة السابقة من الرواية هو الوتيرة السريعة للحدث في فضاء ضيق محصور، وعلى الرغرم من أن البقعة التي يدور فيها الحدث لا يتجاوز غرفة طعام ضيقة إلا أن الحركة فيها كبيرة ومتسابقة فلنتأمل مثلا هذه الأفعال/ الأحداث: "قلت، لم تقل، تفضلي، ذهبت، تأبطت، جلبتها، جلستها، تمتمت، نزلت، وضعتها، نظرت، أخرجت، قالت··· إلخ"·
ولعل من الملاحظ أن الفعل هنا قائم على الزمن الماضي، وليس المضارع، وهو ما يزيد الأحداث جمودا، ويضيق من أفق الرؤية، ويركز بعض النقاد أن الفعل المضارع يزيد من دينامية الحدث وتجدده لأنه يوحي بالاستمرار، وهو أمر يصدق إلى حد كبير، ولكن الفعل الماضي يضعك أمام طريق مسدود، فقد وقع الحدث واكتمل نموه، فماذا عساك أن تفعل·
اللغة التركية
وفي حال اعتقاد أن الرواية المكتوبة باللغة التركية تعتمد هذه الآلية في الكتابة فإن جماليات اللغة العربية تفسح مجالا أكبر للخيال، وللتركيب البلاغي للجملة، وكذلك تفسح مجالا أكبر للشخصيات كي تنتقل من مكان لآخر، وينتقل معها الحدث كذلك وإن كنت أرجح أن المسألة تعتمد على خلل في الترجمة، وليس لها علاقة بخلفيات الثقافة أو المرجعية الجمالية للغة·
يقول باموق واصفا ما يدور بين الراوي بطل الرواية/ وشخصيات أخرى في بيت طوران:
كنا جالسين في بيت طوران لأنهم قرروا أنهم لهوا كثيرا الليلة الماضية، ويريدون تكرار الأمر هذه الليلة أيضا·
سأل طورغان: "من يريد شكولا"؟
قالت زينب: "أنا"!
قالت غولنور: "يقول شيكولا· أنا سأنفجر"· ونهضت على قدميها غاضبة: "لماذا الجميع هكذا هذه الليلة؟ أنا أعرف الحقيقة: لأنكم مخدرون! ليس ثمة لهو هنا"·
مشت متوترة وسط الموسيقا البطيئة التي كان من المفروض أن تكون حزينة، والأضواء الملونة، وضاعت·
كان فم زينب مليئا بالشيكولا· أطلقت قهقهة، وقالت: "جنّت"!
قالت فوندا: "لا، أنا أيضا متضايقة"·
"من المطر"!
من أجمل التجول بالسيارات في الظلام· هيا يا شباب!
قالت فوندا: "ليضعوا موسيقا أخرى على الأقل· قلت: لديك أسطوانة قديمة لإفلس برسلي"·
بيت العائلة
تدور أحداث الرواية حول بيت عائلي تقليدي في تركيا وما يواجهه من هموم معتادة·
تتعلق بالعمل والترفيه والمأكل والمشرب، إلا أن الملاحظ كثرة الشخصيات وتناثر الحدث وتوزعه دون رابط يجمع بين الشخصية الرئيسة والشخصيات الأخرى يقول:
"فتح جنيد النافذة فجأة، وصرخ باتجاه الظلام: كل المعلمين مخبولين· كان يئن قليلا: كل المعلمين، كل المدرسين، أطلقت غولنور قهقهة، وقالت: ملأ رأسه، إنه يطير، هل ترونه ياشباب؟ كان جنيد يصرخ: الملعوب بأسفلهم رسبوني هذا العام فورا· ولاه، من أين تحصلون على حق التلاعب بحياتي؟ فجأة، لحقت به فوندا، وجيلان، وقالتا: "صـ صـ صـ ـه يا جنيد، ماذا تفعل في هذا الوقت؟ انظر إنها الثالثة ليلا· وحين قالتا: الجيران والجميع ينامون، قال جنيد: الله يبعث البلاء للجيران· دعيني يا أختي، فالجيران متحالفون مع المعلمين· وقالت جيلان: ابطل هذا، وحاولت أخذ سيجارة الحشيشة من يده، ولكن جنيدا لم يعطها، وقال: كل شخص يأخذ نفسا، لماذا الذنب ذنبي فقط؟ وقالت فوندا رافعة صوتها لإسماعه وسط الموسيقا والصخب المقرف: اسكت إذن، اسكت، ولا تصرخ، حسن· وفجأة، هدأ جنيد، وكأنه نسي كل كرهه وحقده، وبدأ يهتز ببطء مع موسيقا (البوب - روك) التي تطن في أذني· بعد ذلك، ذهبوا تحت المصابيح التي تضيء وتنطفىء التي وضعها طوران ليشبّه المكان بصالة الرقص· نظرت إلى جيلان، تبدو غير مهمومة كثيرا، جميلة ومبتسمة بشكل خفيف، وهي مكدرة وحزينة أيضا في آن واحد"·
والملاحظ أيضا تكرار "قال، قلت، تقول" بصيعة مباشرة في جميع فصول الرواية، وهو ما يجعل الأسلوب مباشرا وصادما دون تلميح أو إشارة يقول: "كنت أجلس مع نيلفون في الأسفل· نهضت فورا عندما سمعت السيدة الكبيرة تنادي، وصعدت الدرج راكضا· كانت السيدة الكبيرة عند باب غرفتها·
كانت تنادي: اركض يا رجب· ماذا يحدث في هذا البيت؟ اخبرني فورا·
قلت لاهثا: "لا شيء"·
قالت: "يقول لا شيء! هذا مسعور· انظر!"·
أشارت برأس عكازها إلى وسط غرفتها مشمئزة كأنها تشير إلى فأر ميت· دخلت: تمدد متين منكبا على وجهه فوق سرير السيدة الكبيرة· يرتجف، ورأسه مدفون في المخدة المطرزة الطرفين·
قالت السيدة الكبيرة: "كان سيقتلني· أقول ماذا يحدث يا رجب؟ لا تخفوا عني شيئا في هذا البيت"·
قلت: "لا شيء· أيليق هذا يا سيد متين، هيا انهض!"·
"يقول لا شيء· من خدع هذا؟ ستنزلني إلى الأسفل الآن"·
قلت: "حسن، شرب السيد متين قليلا أيتها السيدة الكبيرة! هذا كل شيء· شاب، يشرب، ولكنه غير معتاد· وها أنت ترينه، كان أباه قد وجده هكذا"·