رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 13 يونيو 2007
العدد 1778

في حياة صغيرة خالية من الأحداث
باسمة العنزي ترتكز على الحدث وتداعيات الوجدان

                                   

 

كتب آدم يوسف:

بالرغم من أن القاصة باسمة العنزي أطلقت على مجموعتها القصيصية الأخيرة عنوان: "حياة صغيرة خالية من الأحداث" إلا أنها ترتكز على الحدث بالدرجة الأولى في تقديم شخصياتها وصياغة أسلوبها القصصي، والملاحظ هنا دينامية الحدث من خلال بروز الفعل المضارع وتكراره في أكثر من مرة مثل: تنهض، تتعثر، تفتح، تحدق، تضغط، تبتسم، تزرع، تغمرن، تجتاح··· إلخ·

إن الحدث هنا يؤدي وظيفة جمالية أساسية تقوم على الموازنة بين الجانب المضموني القاتم والجانب اللغوي القائم على الصياغة الأسلوبية الجمالية، ومما هو واضح من حيث المضمون أن القاصة في هذه المجموعة تولي أهمية كبيرة للمرأة وهمومها الإنسانية والوجدانية· تقول في إحدى قصصها: تنهض من سريرها تكاد تتعثر بلعبة طفلها البلاستيكية الملقاة منذ ليلة البارحة قرب المنضدة· تتذكر أنها تعرضت كثيرا لصدمات الوقوع ثم تعاود النهوض من جديد· تفتح الباب الموصد يتسلل الضوء تدريجيا لتبدأ رحلة اللهاث اليومية بفتور من أنطفأ فانوسه السحري وتدثر بالصمت·

تفتح عينيها· تحدق في النسوة اللاتي يملأن غرفة المعيشة والممر القصير· وضعت نظارتها الطبية، تظاهرت بالجرأة وتقدمت وسط الغريبات· بدت ككائن غير مرئي·

تضغط الذاكرة، تبتسم بحزن لضيفات الساعة السادسة صباحا، صوت خطوتها يرن في أذنها وهي تذرع المسافة القصيرة بحثا عن وجه تتوسد فيه حلم التخلص من قناعها الذي سئمت·

نساء مألوفات الوجوه مختلفات التضاريس والأشكال بعباءات جديدة ودرجات متفاوتة من الأنوثة يغمرن المكان بروائح شرقية جميلة· تحدق فيهن تشعر بالغربة وتجتاح قلبها وحشة عاصفة لصغيرها الذي بدا وجوده وهما عندما اندلقت وجوه النساء غازية مكانها ويومها·

تبدو قافلة الغريبات المجتمعات من حولها كأنهن خرجن للتو من سراديب المدينة السرية وتقاطرن من شاشات السينما وردهات المجتمعات التجارية الحديثة ليزاحمنها في صبيحتها الشتوية الجدباء·

الستائر مسدلة والأبواب موصدة وهي ترصد أجسادا ملونة ووجوها بلاندوب تتحرك في أفقها الضيق·

لسعة البرد الخفيفة تنسل من فتحة القميص إلى قلبها·

وكما هو واضح من قصة "رؤى موجعة"، التي يقوم فحواها على فاجعة المرض الخبيث وأثره على المرأة، وما يستلزمه من تداعيات الخوف، وضياع الأبناء وتشرد الأسرة هذا مع الأخذ بعين الاعتبار أن المرأة هي محور الأسرة· والحلقة التي يلتف حولها الجميع تقول:

تنكمش أطرافها، تشعر بالبشاعة غير المعلنة للبناء الضخم· الطفلة التي ودعت الممرات والجدران والبياض المرعب للمكان، عليها أن تعيد صعود السلالم الخلفية للمرة الثانية وفتح الباب الصغير المفضي إلى عوالم الوحشة بعد ربع قرن من الغياب!

كانت في العاشرة، الآن هي في الخامسة والثلاثين، مرت أزمنة بأحداثها وأشخاصها وتعاقبت عليها فصول· كانت تزور شقيقتها الكبرى، الان تزور صديقتها الحميمة، غدا لا تعرف من سيكون الراقد وسط ضباب الأسئلة المؤلمة في الداخل!

البناء ذاته لم يتغير، قبحه المستمد من ارتباطه بالمرض الصعب يجعل الجميع يستعيذ من الشيطان الرجيم عند مرور اسمه فقط في أحاديثهم العابرة مع شعور مبهم بالخوف·

السلم الحجري الخلفي يبدو متآكلا، تخطو خطوتها الأولى في ظلام تلك الليلة الباردة وشعور بالانقباض يملأ قلبها، تتساءل كم عدد الذين مروا على هذه السلالم؟! لكل منهم حكايته الخاصة، منهم من ترك المبنى وعاش مكملا باقي فصول الحكاية ومنهم من لف بقطعة قماش بيضاء وغادر إلى الأبد مخذولا حزينا بأطراف باردة ويد تملؤها وخزات الأبر!

دخلت الكثير من المستشفيات للزيارة، للعلاج، للولادة، لأطفالها، لأفراد أسرتها، لمعارفها· لكن لم تشعر يوما بالوحشة التي تشعر بها هذه الليلة وهي تحاول صعود السلم القديم الهرم الذي نسي خطوتها الصغيرة· كأن جنيات الليل وأشباحه يحومون حولها بنزق، ثمة اتفاق غير معلن بين واجهة المستشفى الكئيبة والأشجار المسنة من حولها، تردد لنفسها:

- لست فتاة العاشرة التي تخاف من الظلمة وحكايات الرعب والأعين اللامعة المطلة من شقوق الجدران المجهولة، أنت الآن··· ربما أشد ضعفا من قبل·

 

هموم وجدانية

 

وتميل باسمة العنزي كذلك إلى سرد أو تفصيل حالة وجدانية عن أشواق المرأة وانفعالاتها العاطفية، ولم تأت تلك العواطف في قالب شعري مباشر، إلا أنها تفضل والإفادة من تقنية التداعي الوجداني عبر التذكر واستحضار الماضي كما هو واضح في قصة "حلم يمرق" وتقول فيها:

سرت القشعريرة في جسدها، الوحدة تخزها بأشواكها الصحراوية والظلام يتسيد المكان الخالي إلا من الصناديق المهملة التي تلوذ بها ذكريات ممزوجة بالغبار والصمت وقطرات العرق· تفكر في أن ما يحدث لها لا يمكن أن يكون من ضمن ما ستحويه حياتها لاحقا، على الزمن أن يتوقف لتسدل الستارة على حلم شتوي لن يتكرر، ليس بسبب الوحشة أو الاحتقار الذي استحوذ عليهم أو حتى عنصر المفاجأة بل لأنها لم تتخيل نفسها يوما مهملة معاقبة في القبو مع بقايا المنزل القديمة غير المحدد مصيرها· مستلقية على لحاف صوفي ترقب بابا قد لا يفتح وجرحا قد لا يبرأ!

 

الأخرى

 

صدقني يا ربي إن أي عقاب ستحظى به لن يكون عادلا إن قيس بمقدار خوفي وألمي· أتمنى أن تنسحب وتترك لي سحبي وسمائي بلا صراع ولا صراخ ولا دموع، الثور الذي أعجبته الحلبة سينتظر فارسته هذا المساء ولن تأتي سوى بوجه مشوه وقلب ممزق وخطوة نازفة· هل أبدو سيئة السريرة إن أحرقت جناحي الفراشة المذهبة التي تحوم حول طبقي ولا رغبة لي بالتهامها حية، فقط أحاول تصحيح مسار رحلتها الفاشلة وإنقاذ ما تبقى لي من الأغصان الغارقة في الظل·

طباعة  

مصطلحات
 
اشراقة
 
وجهة نظر
 
اصدارات
 
أشياء صغيرة