رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 6 يونيو 2007
العدد 1777

إدوارد سعيد في تقديمه للثقافة والنزعة الامبراطورية(3)
العمل الثقافي ينتمي إلينا بقدر ما ينتمي إلى أصحابه الأصليين... مادام أصبح تراثا للإنسانية!

                                                          

 

نهجي هو التركيز بقدر الإمكان على أعمال الكتاب الفردية، من أجل قراءتها أولا بوصفها منتجات عظيمة للمخيلة الخلاقة أو التفسيرية، ثم إظهارها كجزء من العلاقة بين الثقافة والإمبراطورية·

لا أعتقد أن الإيديولوجية تحدد المؤلفين تحديدا آليا، ولا تحددهم الطبقة أو التاريخ الاقتصادي، بل هم كما أعتقد أيضا نتاج تاريخ مجتمعاتهم الى حد كبير، يشكلهم ذلك التاريخ وتجربتهم الاجتماعية على اختلاف في الدرجة، ويشكلونه، الثقافة والإشكال الجمالية التي تحتوي عليها مستمدة من التجربة التاريخية والتي هي بالنتيجة إحدى موضوعات هذا الكتاب الرئيسية· وكما أكتشفت في كتاب "الاستشراق"، أنت لا تستطيع أن تفهم تجربة تاريخية بإعداد قوائم أو ثبت بالمواد، وستخرج من القوائم بعض الكتب والمقالات والمؤلفين والأفكار بغض النظر عن الكمية التي وفرتها خلال تغطيتك· لقد حاولت بدلا من ذلك النظر في ما اعتبره أشياء مهمة وجوهرية مسلما منذ البداية أن الانتقائية والخيال الواعي يحكمان ما فعلت، وأملي هو أن يستخدم القراء والنقاد هذا الكتاب لتوسيع خطوط البحث والمناقشات حول تجربة النزعة الإمبراطورية التاريخية التي وضعتها فيه، وكان علي، في مناقشة وتحليل ما هو في الحقيقية، سيرورة عالمية، أن أكون في هذه المناسبة أو تلك معمما وموجزا في وقت واحد معا، ولدي ثقة، بأن لا أحد سيرغب أن يكون هذا الكتاب على غير ماهو عليه·

علاوة على هذا، هنالك بضع إمبراطوريات لم أتناولها بالنقاش، إمبراطورية النمسا والمجر، والإمبراطورية الروسية، والإمبراطورية العثمانية والبرتغالية والأسبانية، ولكن هذا الإغفال لا يعني بأي حال من الأحوال الإيحاء بأن هيمنة روسيا على آسيا الوسطى وشرقي أوروبا، حكم استانبول للعالم العربي، وسيطرة البرتغال على ما هي اليوم أنغولا وموزامبيق، والهيمنة الأسبانية على المحيط الهادي وأميركا اللاتينية، هي هيمنات خيرة (ومن هنا موافق عليها) أو أنها أقل نزوعا نحو الحكم الإمبراطوري·

 

القفز الى ماوراء البحار

 

ما أقوله عن تجربة البريطانيين والفرنسيين والامريكيين الامبراطورية، هو أنها ذات تماسك فريد، ولها مركزية ثقافية خاصة·

إنجلترا بالطبع مصنفة بذاتها كصنف امبراطوري، وأكبر وأعظم، وأكثر مهابة من غيره، وكانت فرنسا طيلة ما يقارب القرنين في تنافس مباشر معها· وبما أن السرد القصصي يلعب مثل هذا الدور الملحوظ في السعي الامبراطوري، فليس مفاجئا امتلاك فرنسا وإنجلترا بخاصة تراثا لا ينقطع من الكتابة الروائية لا يماثله تراث في أي مكان آخر·

أمريكا بدأت كامبراطورية خلال القرن التاسع عشر، ولكنها لم تتبع طريق سلفيها الكبيرين بعد إزالة استعمار الأمبراطورية، البريطانية والفرنسية، إلا في النصف الثاني من القرن العشرين·

هنالك سببان إضافيان للتركيز على هذه الامبراطوريات الثلاث كما افعل، الأول، هو أن فكرة الحكم في ماوراء البحار (القفز الى أبعد من المناطق المجاورة الى أراض بعيدة جدا)، تمتلك مكانة متميزة في هذه الثقافات الثلاث، ولهذه الفكرة شأن أكبر في الإسقاطات، سواء في الرواية أو الجغرافية أو الفن، وتكتسب حضورا متواصلا بوساطة التوسع الفعلي والادارة والاستثمار والالتزام· ومن هنا فإن هناك شيئا يتميز بالانتظام في ما يخص الثقافة الامبراطورية، أي إنها لا تظهر في أي إمبراطورية أخرى كما تظهر في الامبراطورية البريطانية أو الفرنسية، وبطريقة مختلفة في إمبراطورية الولايات المتحدة· وهذا هو ما يدور في تفكيري حين استخدم تعبير "بنية نهج ومرجع"·

"أما السبب الثاني، فهو أن هذه الثلاثة" هي التي ولدت في مداراتها ونشأت وأعيش الآن، رغم أنني أشعر فيهما أنني في بيتي، ظللت، كمواطن من العالم العربي والإسلامي، شخصا ينتمي أيضا الى الجانب الآخر· وقد مكنني هذا بمعنى من المعاني من الحياة في كلا الجانبين، ومحاولة التوسط بينهما·

 

نحن وهم

 

وفي النهاية، هذا كتاب عن الماضي والحاضر، عنا "نحن" وعن "هم"، كما ينظر الى كل واحد من هذه الأشياء من قبل الأطراف المختلفة، والمتعارضة والمنفصلة عادة· لحظة الكتاب، إذا صح القول، هي تلك الفترة التي أعقبت الحرب الباردة، حين برزت الولايات المتحدة بوصفها آخر القوى العظمى· وأن يعيش المرء فيها في زمن مثل هذا يعني بالنسبة لمثقف ومعلم ذي خلفية في العالم العربي، عددا من الاهتمامات الخاصة تماما، وكلها انعكس في هذا الكتاب، مثلما أنها أثرت في كل شيء كتبته منذ كتاب "الاستشراق" الاهتمام الأول، إحساس كئيب بأن المرء قرأ وشاهد عن تشكلات السياسة الأمريكية الراهنة من قبل· كل مركز دولي كبير طمح الى الهيمنة العالمية، وقال وفعل مع الأسف، الكثير من الأشياء ذاتها، هناك دائما جاذبية للسلطة والمصلحة القومية في إدارة شؤون الشعوب الأقل مستوى، هناك دائما الحماس المخرب ذاته حين تصبح المجريات على حظ قليل من الاعتباطية، أو حين ينهض سكان البلاد الأصليون ويرفضون الخضوع للحاكم غير الشعبي الذي يقع في الشرك وتبقيه في منصبه السلطة الإمبراطورية، هنالك أيضا الادعاء بالقول "نحن" استثناء ولسنا إمبراطوريين، ولن نكرر خطأ القوى الأقدم، وهو ادعاء يتبعه دائما ارتكاب الخطأ نفسه، كما في شاهد فيتنام وحروب الخليج· والاسوأ من هذا، التعاون المحير والسلبي أحيانا، مع هذه الممارسات من جانب المثقفين والفنانين والصحافيين الذين تكون مواقفهم في بلدانهم تقدمية وعاطفية، ولكنها تكون على العكس حين نأتي إلى ما يتم فعله في الخارج باسمهم·

من هنا، أملي، وقد يكون أملا وهميا، هو أن تاريخا للمغامرة الإمبراطورية، مقدما بتعابير ثقافية، قد يفيد بعض الأغراض التعريفية بل وحتى الردعية· فمع أن النزعة الإمبراطورية تقدمت بثبات خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، إلا أن مقاومتها تقدمت أيضا· أنا أحاول إذاً منهجيا عرض هاتين القوتين معا·

وهذا لا يعفي بأي حال من الأحوال الشعوب المستعمرة من النقد، مثلما سيظهر أي مسح للدول ما بعد المرحلة الاستعمارية، ولا تؤلف  حظوظ النزعة القومية الجيدة والسيئة، وما يمكن أن تدعي النزعة الانفصالية والنزعة الضيقة، قصة مديح دائما· إنها يجب أن تقال ايضا، حتى وإن كان الغرض فقط القول إنه كانت هناك بدائل دائما لامثال "عيدي أمين" و"صدام حسين"· إن النزعة الإمبراطورية الغربية والنزعة القومية في العالم الثالث تغذي إحداهما الأخرى، ولكن حتى في أسوأ أحوالهما فهما ليستا حتميتين، أو متناغمتين، الى جانب ان الثقافة ذاتها ليست متناغمة أيضا، وهي ليست ملكية حصرية بالغرب أو الشرق، ولا هي خاصة بجماعات صغيرة من النساء والرجال·

 

ماذا نقرأ وكيف؟

 

ومع ذلك فان القصة كئيبة وغير مشجعة في أغلب الأحيان· وما يخفف من هذا اليوم، هنا وهناك، هو ظهور ضمير سياسي وثقافي جديد، وهذا هو الاهتمام الثاني الذي يقف وراء كتابة هذا الكتاب·

نحن مازلنا ورثة ذلك الأسلوب الذي يتم فيه تعريف المرء بالأمة، والذي يستمد من جانبه نفوذه من تراث يفترض إنه غير منقطع، وفي الولايات المتحدة هذا الاهتمام بالهوية الثقافية ولد بالطبع التنافس على أي كتب أو سلطات قام "تراثنا"· وبشكل رئيسي، فإن محاولة القول بأن هذا الكتاب أو ذلك هو جزء من تراثنا أو هو ليس كذلك هي إحدى الممارسات الأكثر وهنا وضعفا يمكن تخيلها· الى جانب هذا، فان مبالغاتها أكثر حدوثا من مساهماتها في الدقة التاريخية· من أجل سجل هذه الممارسات إذاً، لن أكون صبوراً تجاه الموقف القائل بأننا "نحن" يجب أن نهتم أساساً أو لا نهتم بغير ما "لدينا"، ولن أتغاضى عن ردود الأفعال على نظرة مثل تلك التي تتطلب من العرب أن يقرأوا الكتب العربية، وأن يستخدموا المناهج العربية، وما إلى ذلك· أن "بيتهوفن"، كما اعتاد سي· ل· ر جيمس القول، ينتمي الى الهند الغربية بالقدر نفسه الذي ينتمي فيه إلى ألمانيا، طالما أن موسيقاه هي الأن جزء من التراث الإنساني·

ومع ذلك، فإن الهم الأيديولوجي بالهوية متشابك تشابكا يمكن فهمه بمصالح وجداول أعمال جماعات مختلفة، وليست كلها أقليات مقموعة، تود أن تضع أولويات تعكس هذه المصالح·

وبما أن جزء كبيرا من هذا الكتاب يدور حول ماذا نقرأ من التاريخ المعاصر وكيف نقرأ، سألخص أفكاري هنا بسرعة· قبل أن نستطيع الاتفاق على ما الذي تتألف منه الهوية الأمريكية، علينا أن نسلم بأن الهوية الأمريكية بوصفها هوية مجتمع استيطان مهاجر تراكب فوق خرائب قدر لا يستهان به من حضور السكان الأصليين، فإنها هوية بالغة التنوع الى درجة أنها لا يمكن ان تكون شيئا أحاديا أو متجانسا· وبالفعل فان المعركة في نطاقها هي بين المدافعين عن هوية أحادية، يبين أولئك الذين يرون المجموع كلا معقدا إلا أنه ليس موحدا يمكن اختصاره الى عامل واحد·

هذا التضاد يتضمن منظورين مختلفين، وتاريخين مكتوبين مختلفين، أحدهما خطي جامع، والآخر طباقي ويحمل سمات بدوية في غالب الأحيان· وأطروحتي هي أن المنظور الثاني هو الوحيد الذي يبدي حساسية تجاه واقع التجربة التاريخية·

لأنه في حالة الإمبراطورية، فان كل الثقافات تنخرط أحداها في الأخرى، ولا واحدة منها صافية، أو منفردة، الكل متنافر، ومتفاضل، وغير منسجم، ويصدق هذا الأمر كما أعتقد على العالم العربي اليوم مثلما يصدق على الولايات المتحدة المعاصرة، حيث في كل واحد منهما على التوالي الكثير من الحديث عن مخاطر "النزعة غير الأمريكية"، والتهديدات التي تواجه "النزعة العروبية"· ومن المؤسف أن النزعة القومية الدفاعية، وردات الفعل بل وحتى الذهان، تنتسج عادة بنسيج التربية ذاتها، حيث الأطفال كما الطلبة الكبار يعلمون تبجيل تفرد تراثهم والاحتفاء به (على الأغلب علي حساب تراث الأخرين)· وهذا الكتاب يتناول أمثال هذه الاشكال غير النقدية وغير المفكرة للتربية والفكر·

(انتهى)

طباعة  

مراجعة كتاب
"أنيس صايغ يكتب عن أنيس صايغ"
بعد عبدالناصر تنام القاهرة هادئة بلا أحلام ذهبية!