رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 6 يونيو 2007
العدد 1777

مراجعة كتاب
"أنيس صايغ يكتب عن أنيس صايغ"
بعد عبدالناصر تنام القاهرة هادئة بلا أحلام ذهبية!

                                                          

 

يوسف أيوب حداد:

ندرة ممن امتشقوا القلم سلاحا في ميادين النضال القومي طيلة حياتهم بصلابة رغم مناهضة الأقربين والأبعدين لهم· وندرة من فرسان الكلمة الحرة والشجاعة ممن لم يترجلوا رغم محاولة إخراسهم بالتصفية· وندرة هم الذين تعالوا عن إغراءات في زمن تحولت فيه أقلام إلى أبواق لعروش السلاطين· وبمنتهى المصداقية يصح الجزم بأن أنيس صايغ يتصدر الندرة النادرة الملتزمة بالقضايا القومية العربية عامة والقضية الفلسطينية خاصة· ذلك ما يقر به عارفوه المطلعون على سيرة حياته، وحياة أسرته، وأنا واحد من هؤلاء من خلال كتابه الذي بلغ عدد صفحاته 543ü· يتألف الكتاب من مقدمة وتسعة فصول· وحسنا فعل في كتابته سيرته الذاتية لأنها سيرة نضالية ثقافية فكرية تخص شعبه قبل أن تخصه شخصيا، وهي ملك للتاريخ، والتاريخ ملك للجميع· وخلال خمسة عقود لم يخرج من صومعته عن دائرتين لم يغادرهما بالجسد وبالروح هما "عالم القلم وعالم الوطن"· وفي نطاق هذين العالمين نشر الكتب والأبحاث والمقالات· وتولى منصب المدير العام لمركز الأبحاث الفلسطيني، والإشراف على إعداد الموسوعة الفلسطينية، وإنشاء عدة مجلات أبحاث من بينها "شؤون فلسطينية"، "شؤون عربية" و"المستقبل العربي"· كما أشرف على العديد من أطروحات ماجستير ودكتوراه تتعلق بالقضايا القومية العربية·

 

في المنبت

 

يتمحور الفصل الأول حول تأثر أنيس، أصغر إخوته الثمانية، المولود عام 1931 في طبريا، بوالديه القس عبدالله صايغ والمربية عفيفة البطروني، وبأشقائه وتأثيرهم عليه في المجالات السياسية والثقافية والفكرية والاجتماعية والسلوكية والعلمية· وحول حكمة والديه في تدبر الأمور المعيشية والتعليمية لأبنائهما رغم محدودية دخل القسيس· وحول التغلب على مشقات ومصاعب ترحال العائلة القسري من خربا في حوران إلى البصة ومنها إلى طبريا في فلسطين، ومن طبريا إلى المستقر في بيروت· ومما ساعد والديه في التغلب على المصاعب، التفاهم التام والتعاون بينهما إلى أبعد الحدود· ولقد تعددت المؤثرات الأبوية في نفس وعقل الأبناء· فالقس الوالد جمع بين دوره كمؤمن وواعظ، ودوره كمرب شغوف بالمطالعة والكتابة· أما عظاته فقد شملت مواضيع اجتماعية ووطنية وإنسانية بعيدا عن الطائفية والتعصب المذهبي· ومن أبرز نتاجه كتابه النقدي لبدعة جماعات شهود يهوه ونقد لمذهب الجماعات السبتية· وبحسه الوطني، مارس مقاطعة البضائع اليهودية· وكما كان الوالد مربيا ووطنيا، كانت الوالدة كذلك· فهي التي استبدلت اسم ابنها الذي تمت تسميته بعد الولادة بنيامين باسمه الحالي أنيس بعد ثلاثة أيام قائلة: أريد للمولود اسما عربيا كبقية أسماء أولادي· ولعل أبرز ما أنجزه الوالدان إنشاء مكتبة عامرة بالبيت، ومن بعد مكتبة لكل فرد من الأبناء وفق مداركهم· ففي هذه الخطوة تأثير مباشر في توجيه هؤلاء الأبناء نحو التزود بالمعرفة والعلم والثقافة والوطنية·

لم يكن تأثر أنيس مقصورا على والديه، فلقد تأثر بأشقائه الذين سبقوه في الالتزام بالنضال الوطني والقومية· أربعة منهم سبقوه في الانخراط بالحزب السوري القومي الاجتماعي وفي الإبداع الفكري والثقافي· ومن هؤلاء يوسف الأستاذ الجامعي والخبير الاقتصادي البارز والمؤلف، العضو في المجلس الوطني الفلسطيني وفي اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، والمدير العام لمركز التخطيط التابع لهذه المنظمة، ورئاسة الصندوق الوطني الفلسطيني· وثانيهم المهندس فؤاد وثالثهم فايز الأستاذ الجامعي المؤلف والباحث، ومدير مكتب الجامعة العربية في نيويورك، ومؤسس مركز الأبحاث الفلسطيني، عضو المجلس الوطني الفلسطيني واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية· ورابعهم توفيق الأستاذ الجامعي والشاعر والناقد، وخامسهم الطبيب منير وسادسهم أنيس الغني عن التعريف· والحق يقال إنهم "نخبة النخب" في عطائهم ونتاجهم ونضالهم·

الفردوس الذي اجتاحه الأشرار وتنازل عنه السماسرة

يختتم الفصل السابق عن طبريا مسقط رأسه عام 1931 بقوله: "أما طبريا فتبقى سيدة المدائن وعميدة الأمصار··· هي الأساس والقاعدة· وهي الأحلام والتطلعات· هي الأعز في القلب والأقوى في الوجدان··· لم أتخل عنها طوعا ولم استبدل بها بيروت إلا مرغما· وبيروت هي المحطة النهائية لي قبل العودة إلى طبريا، سواء تحققت هذه العودة فعلا أو بقيت حلما في الخيال"· ورغم استقراره في بيروت على مدى خمسين سنة فيقول: "ومع هذا فأنا طبراني لا غش فيه"· فلا غرابة أن يدفعه عشقه المفرط لمسقط رأسه أن يتوسع في تسليط الأضواء على تاريخ المدينة التي بناها الحاكم الروماني هيردوس أنتيباس وسماها على اسم القيصر الروماني طيباريوس، وعن جغرافيتها ومناخها وسكانها والحياة الاجتماعية والاقتصادية فيها وفي محيطها، وعن أهميتها السياحية لوجود المياه المعدنية حولها· ومما رفع من شأنها معجزات المسيح على شواطىء بحيرتها، ومدفن سكينة ابنة الحسين فيها· وفي سرده التفصيلي يستوقفنا ذكر بعض الأحداث من بينها أن كامل الحسين، الثري اللبناني الجنوبي تزوج الممرضة اليهودية بيرتا الطبرانية، كان يعمل وسيطا وسمسارا لبيع الأراضي العربية لليهود· وفي عام 1950 لاحقه ضابط المخابرات السوري من أصل فلسطيني، إبراهيم الحسيني، وأرداه قتيلا في الأراضي اللبنانية· ونشبت مشكلة قانونية بين الحكومتين اللبنانية والسورية· فما كان من المحامي اللبناني القيادي في الحزب السوري القومي الاجتماعي عبدالله القبرصي إلا أن يدلي بدلوه بشأن هذا الإشكال بنشره دراسة تثبت شرعية عمل الضابط السوري· واحتفل الفلسطينيون بقتل العميل· ومن المفارقات أنه في الماضي جرى ذلك عقابا لمن يطمع بالمال في إسهامه بتهويد قطعة من أرض فلسطين، وفي الحاضر نجد أنظمة عربية تشرعن اغتصاب الصهاينة لفلسطين بذرائع نفاقية دون مساءلة أو محاسبة· ويستوقفنا أمر آخر هو المقاطعة الاقتصادية للمنتوجات اليهودية في فلسطين بالماضي· بينما في الحاضر فالتبادل الاقتصادي بين الكيان الصهوني وعدة أقطار عربية في ازدهار متنام· والأمر الآخر الشخصي الذي يستوقفنا إقبال أنيس على شراء الصحف والمجلات في حداثته· وهو أمر أدهشني شخصيا عندما لأحظت ذلك إبان وجوده في فصل الصيف ببلدتي البصة· وقد ظننت أنه يبتاع الصحف والمجلات لوالديه وأشقائه، ودفعني فضولي لسؤال والده الذي أخبرني بأنه يبتاعها لنفسه· وقرية البصة بالنسبة له هي من الدرجة الثانية "من حيث الانتماء والشعور بأنها جزء من المنبت الجغرافي· إذ هي مسقط رأس الوالدة والمكان الذي ترددت عليه في صغري أكثر من أي بلدة أخرى··· والبصة في الذاكرة هي بصة الأربعينيات"·

وفي سرده عنها يذكر تقدمها على سواها من القرى الفلسطينية بحكم موقها المحاذي للبنان، وسعة حقولها، ومرور طريق بيروت - حيفا بأراضيها إضافة إلى وجود متنزه المشيرفة في أراضيها· كما يشير إلى تقدمها علميا بوجود مدرسة ثانوية فيها· ومما يذكره زيارات أخيه فايز للبلدة وإدخاله عددا من أبنائها في الحزب السوري القومي الاجتماعي·

 

في الدرس والتدريس

 

تقود صراحة أنيس صايغ المعهودة القارىء لسيرته الذاتية إلى مفاجأة غير متوقعة بقوله في مستهل الفصل الثالث: "كرهت الدرس كطالب وكرهت التدريس كأستاذ طيلة حياتي··· واعترف أيضا أن أبشع ذكراتي هي التي تتعلق بالتلمذة والأستذة···" ويقرن هذا القول بأدلة· مع أنه كان تلميذا متفوقا حظي لتفوقه بإعفاءات من أقساط مدرسية· وربما كان التفوق عائدا إلى استعداده الفطري وقد يكون اندفاعه للاقتداء بوالديه وأشقائه· لكن عدم حبه للدراسة لا يعني عدم إجلاله لمهنة التدريس، وعدم حبه للأستذة لا يعني عدم تقديره لهذه المهنة· وفيما يتعلق بشأن التخصص يبدي تحسره للتخصص بالعلوم السياسية بدل التاريخ·

وفي ذكريات الدراسة يمر بطبريا والقدس وصيدا والجامعة الأمريكية في بيروت ثم زواجه من الفتاة الأردنية هيلدا شعبان وانتقاله إلى كمبردج للحصول على الدكتوراه، وتعيينه في الوقت نفسه أستاذا للدراسات الشرقية فيها· كما مارس التدريس في معهد البحوث والدراسات العربية في القاهرة، وفي الجامعة اللبنانية لمدد قصيرة· وفي ذكريات التلمذة والأستذة إسهاب في التحدث عن زملائه في الدراسة والتدريس والتعليق وسرد الوقائع والنوادر الممتعة، والتحدث عن هواياته في حضور الندوات والمحاضرات والمناظرات ومعارض الكتب· وفي سياق الذكريات نتوقف عند أربعة أمور: أولها قراره بترك منصب مدير مركز الأبحاث لخلافات متكررة مع ياسر عرفات ودوله عن قراره بعد الاعتداء الإسرائيلي عليه عام 1972· والأمر الثاني تعليقه على دور مدارس الإرساليات التبشيرية الأجنبية في خدمة مصالح دولها الاستعمارية منذ القرن التاسع عشر "وهي عوامل كانت السياسات الاستعمارية تلعب فيها دورا كبيرا ورئيسيا"· والأمر الثالث "إخلاء الجيش البريطاني السكان العرب - ومن ضمنهم والداه وشقيقته - من طبريا بحجة حمايتهم حتى لا يلاقوا المصير المرعب الذي لاقاه عرب دير ياسين قبل عشرة أيام"· والقصد من ذلك إبراز قذارة الدور البريطاني في تحقيق المشورع الصهيوني باقتلاع عرب فلسطين من وطنهم· والأمر الرابع "التكافل العائلي" الذي مارسه أشقاء أنيس في إعانة الأخ لأخيه ليتولى ماديا بعد ذلك الأمر بنفسه مع من هم أصغر منه للتمكن من التغلب على الإنفاق للتعليم بسبب محدودية دخل والد الأسرة القسيس· والهدف من إيراد هذا المثل الواضح يراد من ورائه الاقتداء بالتكافل في الأسرة·

 

في الكتابة والتأليف والتحرير

 

صدق من قال: "ولد والقلم بين أصابعه"· بدأ الكتابة في مراحل التلمذة المتعددة بمقالات ثم بأبحاث فتأليف كتب وترجمة أخرى، إلى إصدار دوريات فكرية متنوعة المواضيع، إلى الإشراف على إعداد موسوعات وقواميس، إلى توليه منصب المدير العام لمركز الأبحاث الفلسيني، عدا عن عمله مستشارا في مجالات لمؤسسات ثقافية ومعرفية، إلى إشرافه على العديد من الأطروحات الأكاديمية· ومن كتبه "لبنان الطائفي"، "الأسطول الأموي في البحر المتوسط"، "العلاقات السورية - المصرية" الذي لم ينشر بعد، "جدار العار"، "الفكرة العربية في مصر"، "تطور المفهوم القومي عند العرب"، "الهاشميون والثورة العربية الكبرى"، "الهاشميون وقضية فلسطين" وقد منع بسببها من دخول الأردن ما بين عامي 19666 - 1982"، "في مفهوم الزعامة السياسية من فيصل إلى جمال عبدالناصر"، "فلسطين والقومية العربية"، "ميزان القوى العسكرية بين الدول العربية وإسرائيل"، "بلدان فلسطين المحتلة العربية 1948 - 1967"، "المستعمرات الإسرائيلية الحديثة بعد عدوان 1967"، "من الفكر الصهيوني المعاصر والفكرة الصهيونية: النصوص الأساسية"، "رجال السياسة الإسرائيليون"، "التضليل في خسائر إسرائيل"، "الجهل بالقضية الفلسطينية"، "فلسطينيات"، "13 أيلول"· ومن أهدافه إعداد كتابين عن طبريا وعن الحاج أمين الحسيني·

 

في مركز الأبحاث والموسوعة الفلسطينية

 

لم تكن نضالات أنيس صايغ الثقافية الوطنية والقومية مقتصرة على الكتابة والتأليف والتحرير· فلقد توج هذه النضالات في توليه مديرا لمركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، ومشرفا على إعداد الموسوعة الفلسطينية· وصح قوله بموضوعي المركز والموسوعة: "ارتبط المركز والموسوعة بي وارتبطت بهما حتى كدنا نصبح واحدا"· و"إن كليهما انتهى ضحىة لسياسة ياسر عرفات ومقاومته لاستقلال الكلمة والرأى والفكر الفلسطيني الملتزم"· ففي عام 1966 كلفه أحمد الشقيري، الذي يكن له الاحترام والتقدير - تولي منصب المدير العام لمركز الأبحاث الذي غادره عام 1976 لصداماته مع عرفات خلفا لأخيه فايز في هذا المنصب· ويعترف بأن النجاحات التي حققها المركز تعود بالفضل للشقيري ولفايز وللمثقفين العرب· وخلال عمله في المركز على مدى عشر سنوات تحققت إنجازات متعددة بالغة الأهمية: فمن إنشاء مكتبة ضخمة  حوت كتبا نادرة، إلى ملفات متعددة متخصصة، إلى قسم للتوثيق، إلى إصدار مئات الكتب، إلى إصدار مجلة "شؤون فلسطينية"، إلى إصدار اليوميات الفلسطينية، إلى إصدار حقائق فلسطينية، إلى إصدار نشرة رصد إذاعة إسرائيل· بالإضافة إلى تدريس العبرية، وتدريب الباحثين الشباب· وتجدر الإشارة إلى أن العديد من تلك الكتب تمحورت حول التعريف بالصهيونية ومخاطرها· كما تجدر الإشارة إلى أن الرئيسين عبدالناصر وحافظ الأسد وحدهما بين الحكام العربي كانا على تواصل مع المركز والاطلاع على كل ما ينتجه· وليس أدل على نجاح هذا المركز الذي أخاف إسرائيل من قول الجنرال الصهيوني هركابي عنه: "إن إسرائيل تفتقر إلى مركز أبحاث مماثل من حيث المستويات لمركز الأبحاث الفلسطيني"· أضف إلى ذلك، الاعتداء الإسرائيلي على المركز عامي 1974 و1983 ونهب محتوياته عام 1982· لكن الأدهى من ذلك محاولة إسرائيل تصفية جسدية لمديره بتاريخ 19/7/1972· بمظروف مختوم حاول فتحه وأصيب في يده وكتفه ووجهه، وبعد طول علاج استرد بعض بصره ونسبة من السمع بأذن واحدة· لكن طنين الأذن لازمه كل حياته· "وبعد عشرين دقيقة فقط من وقوع الحادث كانت نشرة الأخبار الصباحية في الإذاعة الإسرائيلية باللغة العربية تعلن مقتل أنيس صايغ الذي يتولى تدريب الإرهابيين الفلسطينيين في أوروبا على القتال في فلسطين"· هذا الاعتداء الغاشم عليه دفعه لسحب استقالته من منصبه سبق له وقدمها لعرفات الذي خاطبه قائلا له: "لا أريد أن تظن إسرائيل أنني هربت من المعركة خوفا من إرهابها"· تراجع عن الاستقالة لإيمانه "بأن المعركة الثقافية مع العدو هي من صميم الحرب، وهي من أمضى الأسلحة لأنها هي التي ترشد الأسلحة الأخرى وتعزز قوتها"·

ومن ميدان النضال الثقافي في مركز الأبحاث إلى ميدان النضال الثقافي في إنجاز الموسوعة الفلسطينية بقسميها المكونين من عشرة مجلدات ومجلد للفهارس· هذا الإنجاز البالغ الأهمية كان حلما "صايغيا" فأصبح حقيقة واقعية· طرح هذا الحلم على أحمد الشقيري عام 1966، وعلى أمين عام الجامعة العربية عبدالخالق حسونة· وبعد شهر من استقالته من مركز الأبحاث عام 1977 تم إنشاء هيئة الموسوعة الفلسطينية التي عمل مستشارا لها وصدر القسم الأول منها، وتولى رئاسة مجلس الإدارة لتلك الهيئة وصدر القسم الثاني· ولقد شارك وتعاون في إعداد القسمين عشرات الباحثين المتخصصين· ويمكن الجزم بأن الموسوعة هي من أفضل ما صدر في شأن القضية الفلسطينية من حيث المضمون والدقة العلمية الموضوعية والاستناد إلى مصادر ثبوتية وإلى حقائق مجردة·

 

في العلاقات مع ياسر عرفات

 

تميزت العلاقات بين المؤلف المدير العام لمركز الأبحاث وبين أحمد الشقيري بالثقة وبالاحترام المتبادل والتعاون لمحافظة الشقيري على استقلالية المركز مهنيا بمراعاة الكفاءات والموضوعية والحقائق· وهي الأمور الجوهرية التي كان يحرص عليها مدير المركز الذي كان عرفات يصفه بأنه "بتاع الشقيري"· في حين "كان عرفات يريد أن يكون المركز ومنشوراته وباحثوه رجال إفتاء يجيزون الأفكار والآراء والأحكام التي يريدها هو حسب مزاجه وفهمه للأمور· وحتى يتحقق ذلك كان يريد أن تكون التعيينات والاستكتابات تصدر عنه أو على الأقل بعد التشاور معه وأخذ موافقته"· وهذا التعارض بين استقلالية المركز كمركز لفلسطين وبين عدم استقلاليته بإخضاعه لتوجهات عرفات الشخصية أولا والفتحاوية ثانيا أدى إلى توتر العلاقات بين عرفات ومدير المركز الذي ذكر عدة ممارسات قام بها أو عمار لشل نشاط المركز· فمن التحريض ضد هذا المدير، إلى رشوة العاملين بالمركز، إلى حجب الأموال عنه بغية التفتيت· تراكمت هذه المضايقات العرفاتية· وكانت القشة التي قصمت ظهر الجمل على حد تعبير المدير حين أصدر قرارا بنقل باحث رئيسي من مهمة فشل فيها إلى مهمة أخرى تناسبه أكثر من دون أي تغيير في الرتبة أو الراتب"· فما كان من عرفات إلا إصدار فرمانا بإلغاء قرار مدير المركز الذي بادر إلى تقديم استقالة دون تراجع عنها رغم كثرة الوسطاء الملحين على سحبها· ويلخص في نهاية الفصل أسباب استقالته بعشر نقاط تتميز بالجرأة والصراحة على أمل أن يحذو آخرون حذو أنيس صايغ ممن كانت لهم تجارب مع عرفات لأن ذلك يعد من تاريخ القضية الفلسطينية·

ولكي لا يصاب المركز بالشلل بعد استقالة مديره بادر إلى إصدار قرار إداري بإسناد منصب المدير العام للمركز إلى الشاعر محمود درويش الذي استقال فيما بعد، وبدأ بذلك العد العكسي للمركز الذي أنهته اتفاقية أوسلو·

سلبيات عرفات تجاه مركز الأبحاث تكررت في مساعي أنيس صايغ لإصدار الموسوعة الفلسطينية بسيل من الاتهامات، وبالعديد من محاولات العرقلة التي باءت بالفشل بفعل الصمود والتحدي اللذين تحلا بهما مثقفو المركز والموسوعة "وكان هذا هو الانتصار الكبير"·

 

في المدن وحكاياتها

 

يمكن القول إن الفصل الثامن من أمتع فصول الكتاب· فعدا عن إدخاله في أدب الرحلات، فهو حافل بالذكريات المحتوية على وصف الأماكن والمشاعر والانطباعات والنوادر والطرائف والمواقف والأفكار التي قد تسر البعض وتغضب البعض· وتشتمل هذه الذكريات على سني  التلمذة في طبريا والقدس وصيدا وبيروت وكامبردج الجامعية كما تشتمل على زيارته لعشرين قطرا أجنبيا ويبقى إعجابه الزائد بمدينة كامبردج، ويبدي إعجابا مماثلا بثلاثة عواصم عربية هي القاهرة وبيروت ودمشق مع أنه زار مجمل العواصم العربية، وكان محظورا عليه أحيانا زيارة بعض العواصم بسبب كتبه· أما ما شكا منه بمرارة وحسرة فهو سوء معاملات رجال الأمن والجمارك في العواصم العربية العرب وبخاصة للفلسطينيين· ففي هذه العواصم "البوابات تشرع أمام الأغراب وتوصد أمام الأعراب"· أما الذنب كل الذنب فيقع على عاتق الأنظمة العربية التي ينفذ رجال الأمن والجمارك في المطارات والمعابر البرية تعليمات تلك الأنظمة· وتتحمل تلك الأنظمة المسؤولية حتى ولو كانت تلك التصرفات تصرفات شخصية للحصول على  رشاوى·

وفي ذكرياته عن القادة العرب اعتزاز بمقابلته لعبدالناصر ثلاث مرات· اعتز فيها بكتابة الرئيس الراحل الخالد مقدمة لكتابه الذي لم ينشره لأنه لم يعد راضيا عن مستواه العلمي· وكم كان محقا في قوله عنه: "جمال عبدالناصر وجه مصر المعاصرة المشرف، أعظم ما في مصر بشخصه وبطولته وسيرته وإيمانه ونقائه· لقد أعطى بلده "والوطن العربي" أملا وعزة وكرامة وهيبة ورونقا فحول البلد إلى شيء آخر· وكما فقدت الناصرية بريقها بعد عبدالناصر، فاكتفت بجمال دون روح، كذلك فقدت القاهرة رونقها بعد عبدالناصر فأصبحت نوما هادئا بدون أحلام ذهبية"· وشتان شتان بين مصر الناصرية ومصر الساداتية وما بعدها·

 

الفصل التاسع في التقاعد

 

التقاعد عموما الانقطاع عن كافة النشاطات بدوافع الكهولة أو المرض أو الاحباط· لكن التقاعد الطوعي الإرادي عند المؤلف لم يكن كذلك على الإطلاق· كان تقاعده برفضه الالتحاق بعمل خاص رسمي للتفرغ بحرية في مقارعة "العدو الصهيوني" ومقارعة أعوانه دون مهادنة رغم الإرهاق الجسدي وتلاشي حاستي البصر والسمع· في الماضي لم يرهبه الصهاينة في محاولتهم تصفيته جسديا فلقد ازداد اندفاعا في التحدي رغم العراقيل العرفاتية· وفي الحاضر تقاعد دون أن يتقاعس ملتزما بخطه النضالي الفكري الذي بدأه يافعا متحديا المرض وتلاشي البصر رافضا قبول الهزيمة بانتصار القيادة السياسة الفلسطينية عليه، وعلى أماني شعبه وطموحاته· تلك القيادة الانتهازية الوصولية التي أبرمت اتفاقية العار، اتفاقية أوسلو في الثالث عشر من أيلول عام 1993، والتي شرعنت فيها بالباطل الاغتصاب الصهيوني للأرض العربية الفلسطينية·

رغم فداحة الشرعنة الباطلة، ورغم الإعياء الجسدي قرر بصلابة خوض المعركة على عدة جبهات ضد العدو الصهيوني وضد القيادة الفلسطينية المنحرفة وذلك بعقد الندوات، واللقاءات مع الإعلاميين، وتأليفه كتاب "13 أيلول" وسعيه لتأليف جبهة معارضة، وإصدار كتيبات، ونشره مقالات صحفية، إشرافه على أطروحات للماجستير والدكتوراه تختص بالصراع العربي - الصهيوني، وكتابته مقدمات لكتب تختص بالقضية الفلسطينية· وكما ثار على القيادة الفلسطينية الاستسلامية، ثار على أبواقها من المثقفين المرتزقة وخاصة الذين ارتدوا عن ماضيهم من أمثال لطفي الخولي "الناصري سابقا والساداتي لاحقا" وإميل حبيبي· لقد انتقداه لكتابة "إسرائيل" بين قوسين· وفي رده عليهما يقول":··· ولأني أرى "إسرائيل" هكذا أعتبر وجودها حالة غير طبيعية وغير أصيلة وغير صحيحة··· لأنا باختصار لا أنكر وجود "إسرائيل" بهذين القوسين بل أنكر حقها في الوجود· ولأني أنكر حقها في الوجود أدعو إلى إزالتها"· ويختتم سيرته بقوله عن مسقط رأسه: "في طبريا وعلى الطريق إلى طبريا، يطيب الموت، لأن المرء يموت واقفا، وكأنه لا يموت، ولعله لا يموت· هناك يتساوى الموت مع الحياة حلاوة· ودون ذلك تتساوى الحياة مع الموت مرارة"·

*أنيس صايغ عن أنيس صايغ، دار رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2006

عن:  kanaanonline.org

طباعة  

إدوارد سعيد في تقديمه للثقافة والنزعة الامبراطورية(3)
العمل الثقافي ينتمي إلينا بقدر ما ينتمي إلى أصحابه الأصليين... مادام أصبح تراثا للإنسانية!