رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 30 مايو 2007
العدد 1776

تداعيات

في التباس النص والقارئ

 

محمد الأسعد

أن تتحدّث عن الضوء يعني أن تبدأ بصورة تمثيلية  تشرح معنى أن يكون الشيء ذاته وغيره في وقت واحد معا، أو معنى أن يكون الشيء حاضرا وغائبا في وقت واحد معا، وكيف أن الذات وغيرها، الأنا والآخر، الحضور والغياب، وجهان لواقعة واحدة، وأن علينا أخذهما معا حين نفكر ونكتب ونتصرف·

أعني بكل هذا، الضوء حين يكون موجة مرة، وحين يكون جسيما مرة أخرى· وكلا الحالين مجربٌ في مختبرات الفيزياء الحديثة· هنا نجد أن الوجه الذي يكشف عنه الضوء (موجة أو جسيم) يتوقف على أداة الاستكشاف، أي على ماذا يريد المستكشف أن يرى، ولا أقول على ماذا يريد أن يخلق كما توهم هذه التجارب للوهلة الأولى· يرى المستكشف ولكنه لا يخلق، وأدواته هي التي تحكم الرؤية· ويظل السؤال ماهو الضوء بالتحديد؟، أي بالمعنى التقليدي الذي يحدده جواب قاطع لايحمل تناقضا، معلقا· إنه في وضعية محيرة، أو هكذا يبدو لمن يقاربه طالبا منه أن يكشف عن نفسه: كن هذا أو ذاك ولاتكن ذا وجهين لايلتقيان· وسيختار الرائي مرغما القول في نهاية المطاف أن الضوء جسيم/موجة، أي أنه يستخدم تعبيرا متناقضا ليصف ظاهرة تجاوزت مواصفات قوانين الحس الظاهر·

ومثلما هو حال الضوء كذلك هو حال الظواهر الأخرى حين نتجاوز السطح إلى العمق· قوانين العمق تناقض قوانينَ الظاهر، ولن يعود بمقدورنا تكرار الحديث القديم عن وجه واحد للظواهر· صحيح أننا نتحدث أحيانا عن وجوه متعددة، ولكن بالتعاقب لا بالتزامن· نحن نبسط التضاريس الآرضية دائما حين نرسم الخريطة، ولكنها تظل شيئا آخر غير الأرض·

سنبدأ بالحديث إذاً مكتشفين فينا وفي ماحولنا، نفسيا واجتماعيا وثقافيا، هوية لا تمنح نفسها بالتعابير المبسطة: إما أن تكون هذا أو ذاك· التعبير المبسط يخفي الهوية، يقطع امتداد الزمن، يجعل ماكان شيئا آخر مختلفا عما هو كائن وعما سيكون، مع أن هذه الآنات في العمق شيء واحد يتشابك مستقبله بماضيه وحاضره، في العمق لاماضي ولا حاضر ولا مستقبل بل كلٌّ واحد، وهذا الكل لايقبل التعبير عنه إلا بعبارة متناقضة، كأن نقول أنا/ آخر أو ظل /ضوء أو بعيد / قريب·

يرى معماري غربي أن الشمس لاتعرف كم هي جميلة إلا حين تسقط على جدار بناية، ويضيف آخر أن رؤية الأشكال تحت الضوء هو ما خلقت له أعيننا· ولكن هناك شرقيٌ يرى في كل هذا تقسيما فكريا للأشياء إلى متضادات وتباينات وجسيمات بينما هي كلية، جملةٌ بلا حدود فاصلة، كلا الشيئين هذا والآخر، ضوء وعتمة· وفكرت مبهورا بداية بتلك الشمس التي تكتشف كم هي جميلة حين تسقط على جدار، وماثلت هذه العلاقة بعلاقة بين رجل وامرأة، وقلت لاتكتشف المرأة كم هي جميلة إلا حين يحتضنها رجل، ولكنني كنت مخطئا، فالجمال حالة منبثقة عن لقاء جسدين·

 

النص

 

في هذا السياق لن يكون النص هو ما يقال فقط بل ومايودّ النص قوله أو ما يسعى إليه أيضا· يبدأ الكثير من الكتّاب من المعاني بالطبع، ولكن هذا ليس إلا خضوعا للعرف التقليدي: قل شيئا أو لا تقل شيئا، ومتى ما قيلت الأشياء توقف النص عن تجاوز هويته التي استقرت كأنه جسد ٌ ألقى ظلا ولم يعد قادرا على تخطي ظله· النص ليس جسدا مصمتا من هذا النوع· إنه لايلقي ظلا بل هو الجسد والظل معا، إن أردناه جسدا مصمتا كان كذلك، وإن أردناه ظلا متموجا كان كذلك· هو القول وما يسعى اليه· وسيكون المعنى في هذه الحالة مؤجلا يمكننا معه تخطي الظل إلى جسده أو العكس، أو الدخول في مرآة النص والخروج منها بحرية بالغة· ومثلما تتواقت الأزمان والأمكنة يتواقت الداخل والخارج بلا حدود·

ما يقابل هذه الصورة المجازية هو الواقع والممكن، أو لأقل واقع / ممكن· فكيف يكون الواقع ممكنا في وقت واحد معا؟ هنا يواجهنا الالتباس نفسه الذي واجه علماء الفيزياء الحديثة أمام ظاهرة الضوء، فكيف يكون الضوء (أو هو كائن) موجة وجسيما في وقت واحد معا؟ هل هناك لحظة زمنية يمكن قياسها يحدث فيها هذا التحول، أم أن الحالين كانا وسيظلان معا ؟

لا يتحول الواقع إلى ممكن لأن الممكن موجود في قلبه والعكس صحيح· والانتقالات الممكنة التي تتجه اليها وضعية ما ليست افتراضا بل انتقالات على وجه الحقيقة إلى ما سيكون وكأنه كان بالفعل· هذا تعبير متناقض آخر، ولكنه ناطق عن ظاهرة أصيلة هي ظاهرة الالتباس الكامن في كل وضعية· ما يجعلنا نصف هذه الوضعية بالتناقض هو الاعتياد الفكري· إننا نميل إلى التبسيط· ولكن تجاربنا كفنانين تواجهنا بما يتجاوز التبسيط· إنها تلقينا في قلب التباس لاحل له· يؤمن كثيرون بوجود التناقض بوصفه طاقة خلاقة وسر الحركة والتغير، ويخترعون فكرةَ أن لابد أن ينتهي كل هذا إلى موقف تنحلّ فيه المتناقضات، ويشبه هذا القولَ بأن الضوء في نهاية المطاف سيكشف عن ماهيته الحقيقية، ويتوقف عن الظهور بمظهرين لاحل للتناقض لأنه صميم الوجود، ولا حل للالتباس لأنه محركه الخلاق· ولهذا يظل فننا قادرا على قول الملتبس والانطلاق منه ليظل أمينا لما يرى·

أعتقد أن ما كان يؤلم فنان مثل  سيزان  الفرنسي هو أنه رأى المشهد في كلا الحالين، أمواجا تعلو على حيز المكان وجسيمات تنحاز في المكان، وعليه أن يلتقط هذه الازدواجية، هذا اللاتحدّد، في وقت واحد معا ويصورها· وهكذا جاءت لوحاته ملتبسة الحضور، مشهد الجبل هو وغيره على قماش الرسم، أو هو/ غيره·

نحن لانخلق الالتباس مثلما لايخلق المستكشف في مختبره ظاهرة الموجات والجسيمات· إنه موجود في قلب وجودنا الفيزيائي رغم أننا قضينا آلاف السنين ونحن لانعيه، وهو موجود في طرائق تفكيرنا رغم أننا نسيجه عادة بسياج المعقول والمسموح به، ونسميه خيالا أحيانا أو جنونا·

النص بهذا المعنى ظاهرة انبثاقية غير مسبوقة، لاتجيء من لعبة المصادفات (تجميع الكلمات عشوائيا) بل من تلمسنا لوضعية ملتبسة بين المعنى واللامعنى، بين واقع يباطن التخيل وتخيل يباطن الواقع· نحن خيال وواقع معا· وأكثر من ذلك ؛ نحن حزمة ضوء أحيانا وكتلةٌ من جسيمات في أحيانأخرى، ولكننا بحاجة لسياق يبلور ليس مانحن عليه فقط (فالمعنى مؤجل) بل ماليس نحن أيضا· نفهم الكلمات في سياقها· نفهم كيف تتبدل· نفهم لماذا تتبدل· ونأبى أحيانا أن نفهم الإنسان كظاهرة حوار مع سياقه وكل سياق ممكن· ومع ذلك، الحوار مع السياق هو ما ستعنيه الكلمات والإنسان· كل شيء مفتوح على الاحتمال، أو كل شيء نص مفتوح يعاد تكوينه مع كل قاريء· حتى المشهد الصامت هو ليس صامتا إلا لأننا لانقرأه· ويظل النص مفتوحا وكذلك الكلمات والإنسان والمشهد حتى وإن أجفلنا الوقوف عند هذه الحافة القلقة من سفح وجودنا، ولجأنا إلى تخيل حافة صلبة لاقلق بعدها· في هذه الحالة نمر بغياب الوعي العميق، ونتسلق آمنين إلى سطح وجودزائف، ونبحث على هذا السطح من وجودنا عن كل ما يطفو متشبثين به، وننسى أن معنى حياتنا الإنسانية هو في الوقوف على الحافة القلقة، على شيء أبعد من الراهن والقار والقائم، على مغامرة استكشاف واثارة كل الممكنات فينا وفي ما حولنا·

طباعة  

في إصدار جديد عن مركز البحوث والدراسات الكويتية
ديوان محمد أحمد المشاري وقصائده المتفرقة بين دفتي كتاب

 
اشراقة
 
وجهة نظر
 
آداب عالمية