رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 30 مايو 2007
العدد 1776

إدوارد سعيد في تقديمه للثقافة والنزعة الإمبراطورية (2)
روايات وقصص رحلات ترسم مدارك الغرب حول الآخر البعيد!

                                                         

 

دعوني أقل شيئا هنا عن ما يدور في ذهني، مستخدما روايتين شهيرتين وعظيمتين· رواية ديكنز "الآمال الكبيرة (1861) هي في المقام الأول رواية عن تضليل الإنسان لنفسه، عن جهود "بب" العقيمة ليصبح سيدا راقيا من دون جهد دؤوب ولا مورد الدخل الارستقراطي المطلوب لأداء دور مثل هذا· إنه يساعد في مطلع حياته محكوما عليه بجريمة هو "ابيل ماجوتش"، الذي بعد إبعاده إلى استراليا يرد إليه جميله بمبلغ كبير من المال· ولأن المحامي الوسيط في القضية لا يقول شيئا وهو يصرف المال، يقنع "بب" نفسه أن سيدة هرمة من الطبقة الراقية، الآنسة هافيشام، هي التي كانت راعيته· ثم يظهر "ماجوتش" بطريقة غير شرعية في لندن، ولايرحب "بب" بوجوده لأن الشبهات تحيط به· في النهاية، ورغم أن صلحا يحدث بين الاثنين، وبين "بب" وواقعه، فإنه يعترف بماجوتش، المطارد والذي يعتقل وقد اعتلت صحته، بوصفه وليا لأمره، ليس كمنبوذ أو كإنسان ينكر عليه فضله، رغم أن ماجوتش غير مقبول في الحقيقة لكونه قادما من استراليا، مستعمرة العقاب التي أعدت لإصلاح المجرمين الإنجليز المبعدين وليس لإرسالهم إلى الوطن·

 

تلك المستعمرة البيضاء

 

معظم القراءات لهذه الرواية البارزة، إن لم يكن كلها، تضعها في نطاق تاريخ الرواية البريطانية المنتمية للمركز البريطاني، بينما أعتقد أنها تنتمي إلى تاريخ أكثر شمولا وأكثر دينامية مما تسمح به أمثال هذه التفسيرات·

لقد ترك لكتابين أكثر حداثة وليس لكتاب ديكنز، كتاب "شاطىء الهلاك" لروبرت هيوز، وكتاب "الرحيل إلى ساحل بوتاني" لبول كارتر، أمر الكشف عن تاريخ واسع من تأمل استراليا وتجربتها· تلك المستعمرة "البيضاء" مثل إيرلندا، حيث يمكننا أن نجد موقع ماجوتش وديكنز، ليس كمجرد مرجعين مرا بالمصادفة في ذلك التاريخ، بل كمشاركين فيه بوساطة الرواية، وبوساطة تجربة أقدم وأوسع بين انجلترا ومناطقها في ما وراء البحار·

لقد أنشئت استراليا كمستعمرة للعقاب في أواخر القرن الثامن عشر في المقام الأول، بحيث تستطيع انجلترا إبعاد المجرمين الذين لا يرجى شفاؤهم وغير المرغوب فيهم إلى مكان حدد مكانه على الخريطة الكابتن كوك، والذي يمكن أن تكون له وظيفة مستعمرة تحل محل تلك المستعمرات التي فقدت في أمريكا·

إن السعي وراء الربح وبناء إمبراطورية وما دعاه "هيوز، "العزل العنصري الاجتماعي"، كل هذا مجتمعا هو ما أنتج استراليا المعاصرة، والتي تحولت في الزمن الذي اهتم فيه ديكنز بها لأول مرة خلال أربعينات القرن التاسع عشر (حيث يرحل إليها سعيدا "ولكنز ماكاوبر" في رواية "ديفيد كوبرفيلد) إلى إمكانية مربحة ونوعا من "نظام حر" يمكن أن ينجح فيه العمال مستقلين إذا سمح لهم بالاستقلال· وهذا هو ما حدث مع "ماكوتش" حيث "نسج ديكنز عدة خيوط في الإدراك الإنجليزي لمحكوم عليهم في استراليا كنتيجة للإبعاد ونقلهم إليها· فهم يمكن أن ينجحوا، إلا أنهم لا يمكنهم العودة بالمعنى الحقيقي· قد يكفّرون عن جرائمهم بالمعنى القانوني والتقني، إلا أن ما يقاسونه هناك سيحولهم إلى غرباء دائمين· ومع ذلك فإن لديهم قابلية للخلاص، ماداموا سيظلون في استراليا"·

ويقدم لنا استكشاف "كارتر" لما يدعوه تاريخ استراليا المكاني نسخة أخرى من هذه التجربة نفسها· فهنا يرسم كل واحد من المستكشفين والمحكوم عليهم وعلماء وصف الشعوب والباحثين عن الأرباح والجنود خريطة القارة الشاسعة والخالية نسبيا، في خطاب ينافس أو يزيح أو يدمج الآخرين· ومن هنا فإن "ساحل بوتاني" في المقام الأول هو خطاب رحلة واكتشاف تنويري، وهو ما كان آنذاك مجموعة من قصص الرحلات (بما فيها رحلة كوك) التي راكمت كلماتها وخرائطها ونياتها المناطق الغريبة، وحولتها من ثم تدريجيا إلى "وطن"·

ويظهر "كارتر" التجاور بين مؤسسة "بينثامايت" للفضاء (التي أنتجت مدينة ملبورن) والاختلال الواضح للأجمة الاسترالية، وهو يصبح تحويلا متفائلا للفضاء الاجتماعي الذي أنتج نوعا من "إليسيوم" للسادة، جنة للعمالة في أربعينات القرن التاسع عشر·

وما تخيله "ديكنز" لشخصية "بب"، أي كونه "السيد اللندني الراقي" الذي أحسن إليه ماكوتش، يعادل تقريبا ما تخيله الإنجليزي المحسن لاستراليا، مكان اجتماعي يمنح سلطة للمكان الآخر·

ولكن رواية "الآمال الكبيرة" لم تكتب بأي نوع من الاهتمام مثل الاهتمام بروايات سكان استراليا الأصليين الذين هم موضع عناية "كارتر" و"هيوز"، ولا افترضت أو تنبأت، بتراث من الكتابة الاسترالية التي جاءت في الحقيقة لاحقا لتحتوي أعمال ديفيد معلوف وبيتر كيري وباترك وايت· إن الحظر الذي فرض على عودة "ماكوتش" لم يكن عقابيا فقط، بل كان إمبراطوريا: فيه يمكن للرعايا أن يؤخذوا إلى أماكن مثل أستراليا، ولكن لن يسمح لهم بـ"عودة" إلى فضاء المركز، ذلك الذي، كما تشهد كل روايات "ديكنز" تخططه بدقة متناهية وتتحدث عنه وتسكنه تراتبية من شخصيات المركز··· وهكذا·

 

مهنة جديدة

 

فمن جانب يعبر مفسرون من أمثال "هيوز" و"كارتر" يتناولون حضور استراليا الواهن نسبيا في كتابات القرن التاسع عشر البريطانية، عن تاريخ أسترالي تام وذي تكامل أصبح مستقلا عن تاريخ بريطانيا في القرن العشرين، ولكن من جانب آخر، فإن قراءة فاحصة لرواية "الآمال الكبيرة" يجب أن تلحظ أنه بعد التكفير عن آثام "ماكوتش" إذا صح القول، بعد أن اعترف "بب" اعترافا مخلصا بدينه للمحكوم عليه العجوز المفعم بالمرارة والرغبة في الانتقام، فإن "بب" نفسه ينهار، ويعود إلى الحياة بطريقتين إيجابيتين واضحتين·

يظهر "بب" جديد، أقل إحساسا من "بب" العجوز بقيود الماضي: هذه المرة يتخذ شكل طفل ويرعى أيضا "بب"، ويباشر "بب" العجوز مهنة جديدة مع صديق طفولته "هربرت بوكت"، وهذه المرة ليس كسيد راق خامل، بل كتاجر مجد في الشرق حيث توفر مستعمرات بريطانية أخرى نوعا من حالة سوية لم توفرها استراليا أبدا·

وهكذا، فحتى حين يسوي ديكنز الصعوبة مع استراليا، فإن بنية سلوك ومرجعية أخرى تظهر لتقترح زواج بريطانيا الإمبراطوري بالشرق عبر التجارة والسفر·

إن "بب"، في مهنته الجديدة كرجل أعمال استعماري ليس شخصا استثنائيا، ما دام كل رجال أعمال ديكنز أقرباء صعبوا المراس وغرباء مخيفون يمتلكون علاقة آمنة وطبيعية بالإمبراطورية· ولكن في السنوات القريبة العهد فقط اتخذت هذه العلاقات أهمية تفسيرية· فقد رأى جيل جديد من الباحثين والنقاد (أبناء إزالة الاستعمار في بعض الحالات والمستفيدون من تقدم الحريات الإنسانية في الوطن مثل الأقليات الدينية والعرقية) في أمثال هذه النصوص الكبرى للأدب الغربي، مصلحة قائمة في ما كان يعتبر عالما أدنى مسكونا بأناس ملونين ذوي مستويات دنيا، يصور بوصفه عالما مفتوحا لتدخل الكثرة الكاثرة من الشخصيات المماثلة لشخصية روبنسون كروزو·

مع نهاية القرن التاسع عشر لم تعد الإمبراطورية مجرد حضور شبحي أو مجسدة بحضور غير مرحب به لهارب محكوم عليه، ولكن أصبحت مجال اهتمام مركزي في أعمال كتاب مثل "كونراد" و"كبلنج" و"جيد" و"لوتي"·

 

حراثة في بحر

 

رواية "كونراد" المسماة "نوسترومو" (1904) وهي المثل الثاني الذي أضربه، تقع أحداثها في جمهورية من جمهوريات أمريكا الوسطى، مستقلها (وليس مثل رواياته المبكرة التي تقع أحداثها في مواقع استعمارية في إفريقيا وشرقي آسيا) وتهيمن عليها في الوقت نفسه المصالح الأجنبية بسبب منجم فضتها الهائل· وبالنسبة للأمريكيين المعاصرين فإن أكثر جوانب هذا الكتاب جاذبية هو بصيرة "كونراد": فهو يتنبا بالاضطراب الذي لايمكن إيقافه و"الحكم السيىء" لجمهوريات أمريكا اللاتينية (حكم هذه الجمهوريات كما يقول مستشهدا ببوليفار، يشبه الحراثة في البحر)، وهو يشخص طريقة أمريكا الشمالية الخاصة في التأثير على الأوضاع بطريقة حاسمة وتكاد لا تكون منظورة في الوقت نفسه· يحذر "هولرويد"، الممول من سان فرانسيسكو الذي يدعم تشارلس جولد·· مالك منجم سان تومي، من يرعاه قائلا "لن ننجر إلى أية متاعب" كمستثمرين، ومع ذلك "نستطيع أن نجلس ونراقب· بالطبع سنتدخل ذات يوم· نحن محكوم علينا بأن نفعل هذا، ولكن لا داعي للعجلة، على الوقت نفسه أن ينتظر في الأعظم بين البلدان في كون الله الكبير· سيكون علينا أن نعطي الكلمة في كل شيء، في الصناعة، في التجارة، في القانون، في الصحافة، في الفن، في السياسةة وفي الدين، من رأس القرن إلى سوريث ساوند، وما وراء ذلك أيضا، إذا استحق شيء الإمساك به وصولا إلى القطب الشمالي· وعندئذ سيكون لدينا الوقت الكافي لنأخذ في يدنا قارات الأرض وجزرها·

سندير أعمال العالم شاء العالم أم أبي· وأظن أن العالم لا يقاوم هذا، ونحن كذلك"·

ربما يكون الكثير من البلاغة الفارغة عن "النظام العالمي الجديد" التي تنشرها الحكومة الأمريكية منذ نهاية الحرب الباردة (مع ما يذكر بامتداح الذات، ونزعتها المنتصرة التي لا تخفى، وادعائها القاتم بالمسؤولية) قد وضع نصها بطل رواية "كونراد" هذا، أي "هولرويد": نحن رقم واحد، ومحكوم علينا أن نتولى القيادة، إننا ندافع عن الحرية والنظام·· إلخ· وليس هناك أمريكي يملك مناعة ضد بنية الشعور هذه، ومع هذا فإن النذير الضمني الذي يحتويه رسم "كونراد" لهو لرويد وجولد، نادرا ما تم تأمله، ما دامت بلاغة القوة الفارغة تنتج بسهولة بالغة وهم الإحسان حين تستخدم في موقع إمبراطوري· ولكنها بلاغة طنانة أكثر خصائصها رداءة هو أنه سبق استخدامها من (قبل، ليس مرة واحدة فقد استخدمها الإسبان والبرتغاليون) ولكن بتكرار متواتر أصم في المرحلة المعاصرة من قبل البريطانيين والفرنسيين والبلجيكيين واليابانيين والروس، والآن من قبل الأمريكيين·

 

الآخر

 

رغم هذا ستكون قراءة عمل "كونراد" الكبير ناقصة إذا قرأت كمجرد نبوءة مبكرة بما نراه يحدث في أمريكا اللاتينية في القرن العشرين برسنها المربوط بشركات الفواكه المتحدة، وكولونيلاتها، وقواها التحررية والمرتزقة الممولين أمريكيا· إن "كونراد" هو سلف الرؤية الغربية للعالم الثالث التي يجدها المرء في أعمال روائيين من أمثال "جراهام جرين" و"ف·س· نايبول" و"روبرت ستون" على اختلاف بين هذا وذاك، ومنظرين للنزعة الامبراطورية مثل "حنة أرندت"، وكتاب رحلات، وصناع أفلام، ومساجلين تخصصهم هو تقديم العالم غير الأوروبي إما من أجل تحليله والحكم عليه أو لإرضاء أذواق الجمهور الأوروبي والأمريكي الشمالي· فإذا كان من الصحيح أن "كونراد" ينظر بسخرية إلى النزعة الإمبراطورية لمالكي منجم فضة سان تومي، البريطاني والأمريكي، كنزعة محكومة بالفناء بسبب ادعاءاتها وطموحاتها المحالة، إلا أنه من الصحيح أيضا أنه يكتب كإنسان ترسخت فيه نظرته الغربية إلى العالم غير الغربي ترسخا بالغا إلى درجة أعمته عن تواريخ الآخر، وثقافات الآخر، وطموحات الآخر· كل ما يمكن أن يراه "كونراد" هو عالم يهيمن عليه هيمنة تامة الغرب الأطلسي· عالم لا تؤكد فيه كل مواجهة للغرب إلا على سلطة الغرب الشريرة· إن ما لا يستطيع "كونراد" رؤيته هو بديل هذا المكرور القاسي الذي لا معنى له·

إنه لا يستطيع، لا فهم أن الهند وإفريقيا وأمريكا الجنوبية لديها أيضا حياة وثقافات وذات تكامل لا يسيطر عليها سيطرة تامة جنود الإمبراطوريات وإصلاحيو هذا العالم، ولا السماح لنفسه بالاعتقاد أنه ليس كل حركات الاستقلال المناوئة للإمبراطورية كانت فاسدة وطوع أمر سادة الدمى في لندن أو واشنطن·

هذه المحدوديات الحاسمة في الرؤيا تلم بالجزء الأكبر من رواية "نوسترومو" وشخصياتها وحبكتها· إن رواية "كونراد" تنطوي على عجرفة النزعة الإمبراطورية الأبوية ذاتها التي تجد محاكاة لها في شخصيات مثل "جولد" و"هولرويد" وكأن "كونراد" يقول "نحن الغربيين سنقرر من هي الأمة الطيبة ومن هي السيئة، لأن كل الأمم تمتلك وجودا بفضل اعترافنا بها·

لقد خلقناهم، لقد علمناهم الكلام والتفكير، وحين يتمردون لا يؤكدون سوى نظرتنا إليهم كأطفال بلهاء خدعهم بعض سادتهم الغربيين"· وبالنتيجة، هذا هو ما شعر به الأمريكيون تجاه جيرانهم الجنوبيين: "إن الاستقلال مرغوب لهم طالما أنه نوع من الاستقلال نوافق عليه نحن· وما عدا ذلك غير مقبول، والأسوأ، إنه أمر غير قابل للتفكير فيه·

طباعة  

ملحوظات بين يدي رواية فضائية
معجم المعاجم بدايات متعددة لرواية... ونهايات بلا عدد!