رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 23 مايو 2007
العدد 1775

إدوارد سعيد في تقديمه للثقافة والنزعة الإمبراطورية (1)
كيف ساهمت "الثقافة" في تشكيل العقلية الاستعمارية.. واختراع مفاهيم الأعراق الوضيعة؟!

                                                         

 

بعد مرور خمس سنوات على نشر كتاب "الاستشراق" في العام 1978، بدأت أجمع بعض الأفكار عن العلاقة العامة بين الثقافة والإمبراطورية، تلك العلاقة التي اتضحت بالنسبة لي خلال كتابة ذلك الكتاب· وكانت النتيجة الأولى سلسلة من المحاضرات التي ألقيتها في الجامعات، في الولايات المتحدة وكندا وإنجلترا في العامين 1985 و1986· وتشكل هذه المحاضرات أطروحة هذا الكتاب المركزية التي شغلتني باستمرار منذ ذلك الزمن·

لقد طور مقدار جوهري من البحث في علم الأناسة والتاريخ والدراسات ذو العلاقة بمجال البحث المناقشات التي قدمتها في كتاب "الاستشراق" الذي تحدد بالشرق الأوسط· وعلى المنوال نفسه، حاولت هنا أيضا توسيع أطروحات الكتاب السابق لوصف نمط من العلاقات بين مركز الغرب المعاصر مناطقة ما وراء البحار أكثر عمومية·

وما هي بعض المواد غير الشرق أوسطية الملتفت إليها هنا؟ إنها الكتابة الأوروبية عن إفريقيا والهند وأجزاء من الشرق الأقصى وأستراليا ومنطقة البحر الكاريبي، فأنا أنظر إلى هذه الخطابات العالمة بثقافات ولغات إفريقيا والهند، كما يطلق على بعضها، كجزء من الجهد الأوروبي العام لحكم أراض "وشعوب بعيدة، ولهذا فهي ذات صلة بأوصاف المستشرق للعالم الإسلامي، مثلما هي ذات صلة بطرق أوروبا الخاصة في تمثيلها لجزر البحر الكاريبي وإيرلندا والشرق الأقصى· ما هو صارخ الوضوح في هذه الخطابات هو المجازات البلاغية التي يواجهها المرء دائما في أوصافها "للشرق الغامض"، مثلما يواجه أيضا القوالب الذهنية الثابتة عن: "العقل الإفريقي "أو الهندي أو الإيرلندي أو الجامايكي أو الصيني"، والنظريات عن جلب الحضارة إلى الشعوب البربية أو البدائية، والأفكار الشائعة شيوعا يدعو إلى القلق عن كون عقوبات الجلد أو الموت أو العقوبات الموسعة مطلوبة حين "يسيئون" السلوك أو يصبحون متمردين، وهم فهموا في المقام الأول أن القوة أو العنف هما الأفضل· "هم" لم يكونوا، مثلنا، ولهذا السبب استحقوا أن يكونوا محكومين·

ومع ذلك كانت المسألة في كل مكان تقريبا في العالم غير الأوروبي هي أن الرجل الأبيض تسبب منذ مجيئه بنوع من أنواع المقاومة· وما لم أتناوله في كتاب "الاستشراق" كان ذلك الرد على الهيمنة الغربية الذي توجته حركة إزالة الاستعمار العظيمة في مختلف أرجاء العالم الثالث· فإلى جانب المقاومة المسلحة في أماكن متنوعة بقدر تنوع الجزائر وإيرلندا وأندونيسيا القرن التاسع عشر، قامت أيضا جهود لا يستهان بها في المقاومة الثقافية في كل مكان تقريبا، وإصرار على الهويات القومية، وفي المجال السياسي، إنشاء روابط وأحزاب كان هدفها المشترك تقرير المصير والاستقلال الوطني·

ولم تكن الحالة أبدا هي أن مواجهة العداء الإمبراطوري أثارت اقتحاما غربيا فعالا ضد أمة كسولة وخاملة غير غربية، لقد كان هناك دائما شكل من أشكال المقاومة الفعالة، وفي الغالبية العظمى من الحالات، ربحت المقاومة في نهاية المطاف·

 

ما هي الثقافة؟

 

هذان العاملان، عامل نمط عالمي واسع للثقافة الإمبراطورية وعامل تجربة مقاومة تاريخية ضد الإمبراطورية، يكونان هذا الكتاب بطرق لا تجعله مجرد تتمة لكتاب "الاستشراق" بل محاولة لعمل شيء آخر·

في كلا الكتابين، شددت على ما دعوته، بطريقة عامة بالأحرى· "ثقافة" وتعني "الثقافة"، حيث استخدمت هذه الكلمة، شيئين على وجه الخصوص، فهي تعني في المقام الأول كل تلك الممارسات، مثل فنون الوصف، والاتصال، والتمثيل، تلك التي تمتلك استقلالا ذاتيا نسبيا عن المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتلك التي تظهر في أشكال جمالية في أغلب الأحيان، والتي أحد أهدافها الرئيسة المتعة· ويتضمن هذا بالطبع مخزون المعرفة الشعبية عن أجزاء متميزة من العالم والمعرفة المتخصصة المتوافرة في فروع معرفية مثل علم وصف الشعوب والتأريخ وفقه اللغة وعلم الاجتماع والتاريخ الأدبي على حد سواء·

وبما أن بؤرة تركيزي الحصرية هنا هي على الإمبراطوريات الغربية المعاصرة في القرنين التاسع عشر والعشرين، فقد نظرت إلى الأشكال الثقافية مثل الرواية بخاصة التي أعتقد أنها كانت ذات أهمية طاغية في تشكيل السلوك الإمبراطوري والمرجعيات والتجارب· ولا أعني بهذا أن الرواية وحدها كانت مهمة، بل أعني أنني أعتبرها الموضوع الجمالي الذي تستحق علاقته بمجتمعات بريطانيا وفرنسا المتوسعة أن يكون موضع دراسة على وجه الخصوص·

 

القصص كمنهج

 

إن رواية "روبنسون كروزو" هي الرواية النموذجية المبدئية المعاصرة الواقعية، ويقينا ليس مصادفة أنها تدور حول أوروبي يخلق إقطاعة لنفسه فوق جزيرة بعيدة غير أوروبية· وقد ركز قدر كبير من النقد في السنوات الأخيرة على الرواية الخيالية السردية، ومع ذلك انصرف انتباه قليل جدا إلى موقعها في عالم الإمبراطورية، وتاريخها· وسرعان ما سيكتشف قراء هذا الكتاب أن السرد أمر حاسم بالنسبة لأطروحتي هنا، وكون قضيتي الأساسية هي أن القصص موجودة في قلب ما يقوله المستكشفون والروائيون عن مناطق العالم الغربية، وأنها تصبح أيضا المنهج الذي يستخدمه المستعمرون لتأكيد هويتهم هم ووجود تاريخهم هم· المعركة الرئيسية في النزعة الإمبراطورية تدور حول الأرض بالطبع، ولكن حين يصبح الأمر من يملك الأرض، ومن له الحق في الاستيطان والعمل فوقها، ومن يسير أمورها، ومن يسترجعها ويفوز بها، ومن الذي يخطط مستقبلها الآن، كل هذه القضايا كانت تنعكس وتناقش بل وتقرر أحيانا في الرواية·

إن الأمم ذاتها، كما قال بعض النقاد، روايات· والقدرة على السرد الروائي، أو على منع السرديات الروائية الأخرى من التشكل والظهور، أمر بالغ الأهمية بالنسبة للثقافة والنزعة الإمبراطورية· وتكوّن إحدى الصلات الرئيسية بينهما· الأكثر أهمية، إن السرديات الروائية الكبرى للتحرير والتنوير دفعت الناس في العالم الاستعماري للنهوض وخلع النير الإمبراطوري، وخلال هذه العملية، أثارت وحركت هذه القصص وأبطالها الكثير من الأوروبيين والأمريكيين أيضا، وحاربوا أيضا من أجل سرديات روائية جديدة عن المساواة والجماعة الإنسانية·

ثانيا، وهو أمر غير مدرك تقريبا، الثقافة مفهوم يحتوي على عنصر منقى ورفيع، وهو خزان كل مجتمع عن أفضل ما يفكر فيه ويعرف، كما عبر ماثيو أرنولد في ستينات القرن التاسع عشر· لقد آمن أرنولد أن الثقافة تلطف، إن لم تحيد أيضا، تخريب وجود مدني معاصر تجاري وعدواني ووحشي· أنت تقرأ الشاعر الإيطالي "دانتي" أو الشاعر الإنجليزي "شكسبير"، كي تتساوق مع أفضل الأفكار والمعارف· وأيضا لترى نفسك وشعبك ومجتمعك وتراثك في أفضل ضوء·

وستصبح الثقافة، عاجلا أم آجلا، مرتبطة ارتباطا عدوانيا على الأغلب، بالأمة أو الدولة، هذا يميز"نا" عن "هم"· ودائما على وجه التقريب مع درجة من درجات الخوف من الأجنبي· الثقافة بهذا المعنى مصدر الهوية، بل هي مصدر للقتال من أجل هذا كما نرى في "رجعة" هذه الأيام إلى الثقافة والتراث· وترافق هذه "الرجعة" مدونات فكرية وسلوكية أخلاقية متصلبة معارضة للمسموح به المرتبط بتلك الفلسفات الليبرالية نسبيا مثل نزعة التعدد الثقافي والهجنة· وفي العالم المستعمر سابقا أنتجت هذه "الرجعات" تشكيلة من النزعات الأصولية الدينية والقومية·

 

حقيقة قاسية

 

بهذا المعنى الثاني، الثقافة هي نوع من مسرح تتقاتل عليه أنواع من القضايا السياسية والأيديولوجية، وتستطيع الثقافة، بعيدا عن كونها عالما رائقا من الكياسة الأبولونية، أن تكون حتى ميدان معركة تعرّض فيه القضايا نفسها لضوء النهار، وتنافس إحداها الأخرى، وتجعل من الواضح على سبيل المثال أن يتوقع من الطلبة الفرنسيين أو الأمريكيين أو الهنود الذين عُلّموا قراءة كلاسيكياتهم الوطنية قبل أن يقرأوا كلاسيكيات الآخرين، أن يثمنوا، ومن دون موقف نقدي غالبا، أممهم وموروثاتهم ويوالونها، وفي الوقت نفسه يحطون من قدر الآخرين أو يقفون ضدهم·

المشكلة مع هذه الفكرة عن الثقافة هو أنها لا تستتبع تبجيل المرء لثقافته الخاصة به فقط، بل أن يفكر بها أيضا بوصفها منفصلة بطريقة من الطرق، بسبب تعاليها، عن عالم الحياة اليومية· وفي النتيجة نجد أن غالبية علماء الإنسانيات المحترفين غير قادرين على إيجاد صلة بين القسوة الخسيسة المتطاولة لممارسات مثل العبودية والاستعمار والقمع العنصري والإخضاع الإمبراطوري من جانب، وبين شعر ورواية وفلسفة المجتمع المنخرط في هذه الممارسات من جانب آخر·

إحدى الحقائق القاسية التي اكتشفتها خلال عملي في هذا الكتاب هي كيف أن قلة ضئيلة من الفنانين الفرنسيين والإنجليز الذين أقدرهم أدركوا معنى فكرة الأعراق "الخاضعة" أو "الوضيعة" الشائعة شيوعا كبيرا بين المسؤولين الذين مارسوا هذه الأفكار بوصفها مسألة أسلوب في حكم الجزائر أو الهند· لقد كانت أفكارا مقبولة على نطاق واسع وساعدت على إشعال الاكتساب الإمبراطوري للأراضي في إفريقيا خلال القرن التاسع عشر· وفي تناولهم لكتاب مثل "كارليل" أو "روسكن" أو حتى "ديكنز" و"ثاكري"، أبعد النقاد في غالب الأحيان، كما أعتقد، أفكار هؤلاء الكتاب عن التوسع الاستعماري والأعراق الوضيعة أو "الزنوج" إلى دائرة مختلفة تماما عن دائرة تلك الثقافة، الثقافة بكونها منطقة نشاط "سام" ينتمي إليها هؤلاء الكتاب "حقا"، وفيها أنجزوا ما هو عملهم المهم الحقيقي·

إن ثقافة متصورة بهذه الطريقة يمكن أن تصبح حظيرة حامية: اخلع سياستك عند الباب قبل الدخول إليها·

وبوصفي أحد الذين أمضوا كامل حياتهم المهنية في تدريس الأدب، وأيضا واحدا من الذين نشأوا في العالم الاستعماري قبل الحرب العالمية الثانية، وجدت تحديا في ألا أرى الثقافة بهذه الطريقة (أي محجورا عليها مقطوعة النسب بالعالم الأرضي)  بل حقلا للسعي متنوعا تنوعا استثنائيا·

الروايات والكتب الأخرى التي أتناولها هنا، إنما أحللها لأنني وجدتها في المقام الأول أعمالا فنية ومعرفية تدعو إلى الإعجاب والتقدير، تمتعت بها أنا والكثير من القراء واستفدت منها· وثانيا، لأن التحدي يكمن في ربطها، ليس بالمتعة والفائدة فقط، بل بالسيرورة الإمبراطورية أيضا، تلك التي كانت جزء منها بشكل جلي لا خفاء فيه، وبدلا من إدانة أو تجاهل مساهمتها في ما هو واقع لا ينكر في مجتمعاتها، أقترح أن ما نتعلمه حول ما هو حتى الآن جانب يتم تجاهله يعزز عمليا وبصدق فهمنا لها، وإقبالنا عليها·

عن كتاب:

Culture and Imperialism, Edward w. said, Vintage, 1994

طباعة  

آليات نظام العولمة
البلدان النامية في ظل العولمة قوارب ملقاة في بحر هائج!