رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 23 مايو 2007
العدد 1775

آليات نظام العولمة
البلدان النامية في ظل العولمة قوارب ملقاة في بحر هائج!

                             

 

عبد المجيد راشد:

لا شك أن العالم يعيش حالياً لحظة العولمة، ومازال يتعرف على مقدماتها، لكن العالم لا يعرف على الإطلاق إلى أين تتجه العولمة؟ وما نهاياتها؟ وتبدو العولمة حالياً وفى ظل المعطيات والحقائق القائمة والملحوظة، كمجرد فصل جديد في التاريخ الإنسانى، بيد أن هذا الفصل ما زال غير مدون تدويناً كاملاً، كل ما يعرف عن هذا الفصل التاريخي·· الجديد هو عنوانه البارز كل البروز وهو "العولمة" فيما عدا ذلك، فإن كل الكلمات والفقرات الأولى لا تكفي بمفردها لتحديد ماهية هذا الفصل، أو الجزم بتفاصيله والتنبوء بمضمونه، أو تحديد من يقوم بتدوينه كل ذلك غير مدرك للعالم خلال المرحلة الراهنة من بروز وتطور العولمة بما في ذلك القوى الكبرى التي تعتقد أنها تقود هذه اللحظة التاريخية والحضارية الجديدة·

ورغم ذلك فإن أكثر ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العولمة هو العولمة الاقتصادية فالعولمة هي أساساً مفهوم اقتصادى قبل أن تكون مفهوماً علمياً أو سياسياً أو ثقافياً أو اجتماعياً، ويعود هذا الارتباط العميق والعضوي بين العولمة من ناحية والعولمة الاقتصادية من ناحية أخرى إلى أن المظاهر والتجليات الاقتصادية للعولمة هي الأكثر وضوحاً في هذه المرحلة من مراحل بروز وتطور العولمة كمرحلة تاريخية جديدة، فكل المؤشرات الموضوعية تشير إلى أن العولمة الاقتصادية هي الأكثر اكتمالاً وهى الأكثر تحققاً على أرض الواقع من العولمة الثقافية أو السياسية، ويبدو العالم اليوم معولماً اقتصادياً أكثر مما هو معولم ثقافياً أو سياسياً، من هنا جاء التلازم بين العولمة والعولمة الاقتصادية، ومن هنا أيضاً هيمن الفهم الاقتصادي على ظاهرة العولمة التي هي حتماً ليست بالظاهرة الاقتصادية وليست مقتصرة على الاقتصاد، فالعولمة مرحلة تاريخية تتضمن كل الأبعاد الحياتية المختلفة بما في ذلك الاقتصاد والسياسة والثقافة والتي تتداخل مع بعضها البعض لتشكل عالماً بلا حدود اقتصادية أو ثقافية·

 

سيطرة المركز

 

لقد كان النظام القديم للاقتصاد الدولي يقوم على الأسس الآتية:-

أ ـ درجة عليا من استقلال ذاتى لمختلف المراكز وبالتالى اتخاذ المنافسة بينها شكل النزاع المستمر·

ب ـ قيام التضاد بين المراكز والأطراف على الطابع المصّنع للأولى وغيابه في الثانية·

أما النظام الجديد نظام العولمة والذي ترتسم سماته بالتدريج، فهو قائم على مبادئ نقيضة هي :

أ ـ تداخل اقتصادات المراكز التي فقدت استقلالها الذاتى فأصبحت جزءاً في بنية اقتصادية عالمية مندمجة (فلابد إذن من التمييز بين صفة العالمية الجديدة نظام العولمة وصفة الدولية القديمة)·

ب ـ دخول الأطراف في مرحلة التصنيع، وبالتالى حدوث تطور مهم على مستوى وسائل سيطرة المركز على الأطراف، وقد أصبحت وسائل غير مباشرة تعتمد على التحكم في الأسواق والثقافة وجمع الأموال·

وفى هذا السياق فإن المؤسسات الدولية تشكل العنصر الرئيسي والحاسم في نظام العولمة عبر آليات عملها والقواعد الملزمة التي تنشئها، ويمكن القول نتيجة لذلك أن النظام الاقتصادى العالمي قد بدأ بالتشكل في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حيث لم يوجد قبل هذا التاريخ مؤسسات دولية فعلية، وتتضح أهمية هذه المؤسسات من خلال الوظائف والدور الموكول لكل منها والمفاهيم الأساسية التي تستند إليها في عملها، وفى حالة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية يتضح:

1)إنها سلطة دولية للتشاور والتنسيق·

2)إنها سلطة تمتلك حق إنشاء القواعد وإتخاذ الإجراءات ضد الذي يخل أو لا يلتزم بها وإعتبار مبدأ المشروطية ركناً أساسياً من أركان سياستها·

3)إنها من خلال آلية عملها لا تتوقف عند الدور المعنوى أو الرقابى، بل يمكنها أن تفرض القواعد التي ينبغى على الدول الأعضاء احترامها في سياستها المالية والاقتصادية·

 

ضد النمو

 

لقد تنامى دور صندوق النقد الدولي وصلاحياته منذ إنشائه، وطور مبدأ المشروطية في مجال حقوق السحب ليفرض رقابة على اقتصاديات الدول الأعضاء في حال العجز الكبير في ميزان المدفوعات، كما طور هذا الاتجاه في مجال القروض والمساعدات، وحدث التطور الأهم في عمل هاتيين المؤسستين على أثر صدور قرارات مجلس الإدارة لعام 1979 والتي أكدت على مبدأ المشروطية وتطبيق مفهوم التصحيح الهيكلي وتوسيع التعاون فيما بين الصندوق والبنك في مجال الرقابة على السياسات الاقتصادية والتزام الدول المدينة بها والتدخل في إعدادها ضمن إطار برامج وسياسات التثبيت والتكيف الهيكلى، ومنحت أزمة المديونية في الثمانينات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الفرصة المواتية لتطبيق برامج التكيف الهيكلى، وجرى الربط بين إعادة جدولة الديون ومنح قروض جديدة ومساعدات وبين تطبيق برامج التكيف الهيكلى وبالتالى توسيع صلاحياتها، وانتقل البنك والصندوق من مرحلة التنسيق إلى مرحلة رسم السياسات والتوجهات وفرض قواعد وإجراءات محددة سواء بالنسبة للسياسة الاقتصادية الداخلية أو الخارجية·

لقد كانت المهمة الرئيسة لصندوق النقد الدولي هي - بحسب ميثاق بريتون وودز 1945 - العمل على ضمان ثبات أسعار الصرف، ومساعدة الدول الأعضاء على مواجهة النقص المؤقت في العملات الأجنبية لعلاج العجز الطارئ في ميزان المدفوعات إلا أن مهمات الصندوق قد تطورت على نحو لم يكن وارداً في الخيال، فقد أصبح يحل - تقريباً - محل الحكومات في صياغة الأهداف الاقتصادية والاجتماعية لأنظمة الحكم، وإحداث تغيرات أساسية، والتأثير في مستويات الأسعار والتكاليف، وتوزيع الدخل القومى كشرط لتلقي مساعداته رغم أن كل تلك الأمور تدخل في صميم السيادة الوطنية للبلد، والغريب في الأمر أن الصندوق يفرض سياساته ذات الطابع الانكماشى والمضادة للنمو Antigrowth على البلاد النامية دون أن يكون محل مساءلة لو فشلت تلك السياسات في تحقيق الأهداف التي يعلنها الصندوق·

إلا أن واقع الأمر أن صندوق النقد الدولى قد فقد الكثير من فعاليته خلال التسعينيات وتآكلت العديد من أدواته في ظل عمليات العولمة المالية الكاسحة وتنامي دور الشركات المالية العملاقة التي تقوم بالسيطرة على حركة رؤوس الأموال قصيرة الأجل الأموال الساخنة وتقوم بأعمال الوساطة المالية لمصالح الدول والشركات الكبرى في العالم، سواء في مجال إصدار الأسهم والسندات العامة والخاصة أو تعويم القروض في السوق العالمية وغيرها من أنشطة الخدمات المالية، خاصة وأن بيانات رأس المال المالي تعود إلى أكثر من مئة عام، ففى بداية القرن العشرين، نشر الاقتصادي الألمانى رادولف هليفرد نج كتابه رأس المال المالي وتحديداً في عام 1910 متنبئاً فيه بصعود ما أسماه رأس المال المالي وسيطرته على كافة أجنحة رأس المال الزراعي والصناعي، التجاري والخدمي وأشار إلى أن سيطرة رأس المال المالي على كافة مجالات ومناشط الحياة الاقتصادية سوف تخلق نوعاً من الإمبريالية الاقتصادية الجديدة التي تقوم على التوسع والسيطرة على اقتصاديات العالم وأن عمليات التمركز المالي سوف تؤدى إلى تقويض مثاليات الليبرالية الاقتصادية التي تقوم على الأوهام المستندة إلى قوى السوق الحرة والتنافسية·

 

العشرة الكبار

 

والآن، وبعد مرور نحو ما يقرب من المئة عام، نشهد تحقق نبوءة هيلفرونج إذ أصبح رأس المال المالي هو القوة الرئيسة المسيطرة على مقاليد الأمور في العالم، ويشهد بذلك موجة الاندماجات الكبرى فيما بين المؤسسات المالية العملاقة (مصارف وشركات خدمات مالية) خلال السنوات الثلاث الأخيرة، بهدف السيطرة على آليات العولمة، ويكفي لنا إلقاء نظرة على حجم الأصول الخاصة بأكبر ستة مصارف مندمجة على الصعيد العالمي على النحو التالى :

1 ـ بنك اليابان الصناعي و فوجى بنك و بنك واي إيشى كانجيو

 1259 مليار دولار

2 ـ دوتيشيه بنك/ ألمانيا

865 مليار دولار

3 - بى· إن· بى و باريبا / فرنس

688 مليار دولار

4 - يو· بى· إس / سويسرا

686 مليار دولار

5 - سيتى جروب / الولايات المتحدة

668 مليار دولار

6 ـ بنك أوف طوكيو ميتسوبيشى ليمتد / اليابان

623 مليار دولار

ومعنى ذلك أن الثلاثة الكبار يتولون إدارة الإصدارات للأسهم في أسواق المال العالمية قد يصل حجمها إلى 50 مليار دولار سنوياً، أما إذا تحدثنا عن العشرة الكبار، فقد تصل حجم إصداراتهم للأسهم في أسواق المال العالمية إلى نحو 87 مليار دولار سنوياً·

وبهذا الصدد أشار جاويش بهجاواتى أستاذ الاقتصاد المرموق بجامعة كولومبيا بالولايات المتحدة الأمريكية، وأحد أهم منظري التجارة الحرة في العالم، والمستشار لمنظمة (الجات) لسنوات طويلة إلى أن هناك مصالح اقتصادية ومالية عاتية لما أسماه التحالف الثلاثي بين الخزانة الأمريكية، وول ستريت - شارع أباطرة المال في نيويورك - وصندوق النقد الدولي وراء الدعوة إلى التحرير المالي المبكر، وفتح أسواق المال في الأسواق الناشئة أمام تحركات الاسثمارات المالية والأموال الساخنة وأن هذا الثلاثى هو على غرار ما أسماه الاقتصادي الأمريكى البارز جون جالبريث  بالمركب الصناعي - العسكري، ولعل هذا التحليل يكتسب قدراً كبيراً من المصداقية، بمناسبة استقالة جوزيف ستيجلتز نائب رئيس البنك الدولي والاقتصادي الرئيسي للبنك، فقد تواترت الشائعات أنه استقال بضغوط من الخزانة الأمريكية، التي اشترطت خروج ستيجلتز مقابل التجديد لرئيس البنك الدولي لمدة خمس سنوات جديدة - ومن المعروف أن ستيجلتز كان شوكة في ظهر الخزانة الأمريكية وصندوق النقد الدولي على حد تعبير جريدة "الفاينانشيال تايمز" - عدد 26 نوفمبر 1999 - ولقد أصاب جوزيف ستيجلتز كبير اقتصادي البنك الدولي، عندما شبه حالة البلدان النامية التي قامت بتحرير وتدويل أسواقها المالية وبورصاتها بالقارب الذي يلقى به في عرض البحار عالية الموج، وأن هذا القارب مهما كان تصميمه سليماً هندسياً ويتمتع بطاقم قيادة على درجة عالية من المهارة والكفاءة، فهو معرض للغرق نتيجة ارتفاع الأمواج العاتية في بحار المال العالمية، واستخدام تعبير القارب هنا وليس السفينة إنما هو إشارة إلى الحجم الصغير لاقتصاديات الأسواق المالية البازغة للبلدان النامية نسبة إلى مجمل المعاملات المالية الدولية·

من يقود اقتصاد العالم؟

وتمثل تحليلات وتصريحات ستيجلتز خروجاً صارخاً وصريحاً على ما يسمى بتوافق واشنطن وهو التوافق الذي شارك في صياغته الثالوث المتمثل في :

وول ستريت (شارع سوق المال في نيويورك)·

- الخزانة الأمريكية·

- صندوق النقد الدولى·

وعناصر هذا التوافق وكما سبق شرحها تتمثل في:

(1) تحرير المبادلات التجارية بلا قيود·

(2) الخصخصة لكل شيء وبلا استثناء·

(3) العولمة (الاندماج في الاقتصاد العالمي)·

وما يتبع ذلك من فتح أسواق السلع والخدمات والبورصات في كافة أرجاء العالم أمام الشركات دولية النشاط والشركات المالية الكبرى وأمام تحركات رؤوس الأموال الساخنة، الأمر الذي يؤدى إلى تقليص سيادة الدولة في مجال إدارة شؤونها الاقتصادية والمالية إلى أضيق الحدود، وقد تم الحديث بتفصيل أكبر عن توافق واشنطن في المبحث الثاني من الفصل الأول في الباب الأول من هذه الدراسة·

ومن زاوية أخرى فإن تجسيد هذه الأهداف على أرض الواقع الاقتصادي العالمي وجد طريقة بعد تطبيق إتفاقية الجات لعام 1994 وإنشاء منظمة التجارة العالمية 1995، فقد دخل النظام الاقتصادي العالمي مرحلة جديدة في تطوره، حيث أكد الإعلان أن الوزراء يؤكدون على العمل من أجل تحقيق انسجام شامل وأكبر للسياسات في مجال التبادل والنقد والتمويل بما في ذلك التعاون بين منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي من أجل هذا الهدف - الفقرة 3 من الإعلان - وفى مجال تحديد وظائف المنظمة تشير الفقرة الخامسة من البند الثالث إلى أنه بالنظر إلى تحقيق انسجام أكبر في صنع السياسات الاقتصادية الشاملة فإن منظمة التجارة العالمية سوف تتعاون، كما ينبغى، مع صندوق النقد الدولي والبنك لإعادة الإعمار والتنمية و الوكالات المتفرغة عنه، وتشير المادة الرابعة من البند 16 إلى أن كل عضو سوف يحقق المطابقة لقوانينه وقواعده وإجراءاته الإدارية مع التزاماته كما تم التصديق عليها في الاتفاقيات الملحقة، وهكذا تشكل المؤسسات الثلاث  صندوق النقد والبنك الدوليان ومنظمة التجارة العالمية، على وجه الخصوص، القيادة المركزية للنظام الاقتصادي العالمي، وهى تنتمي لمدرسة فكرية واحدة هى الليبرالية الجديدة وتقع تحت سيطرة القوى الأكبر الفاعلة على الصعيد الدولي، وإلى جانب هذه المنظمات الثلاث الأكثر فاعلية، أصبح هنالك العديد من المنظمات دولية النشاط وذات التأثير والفاعلية، مثل منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، ومنظمات غير حكومية مثل نادي روما ومنتدى دافوس والعشرات من المؤسسات والمعاهد البحثية والتي سميت بـعلب للأفكــار Thinking Tanks -  والتي قامت وتقوم بنشر مفاهيم وأيديولوجيا موحدة تشكل تياراً فكرياً وسياسياً ضاغطاً على الباحثين وصانعي القرار·

فعلى سبيل المثال يعتبر منتدى دافوس الاقتصادى العالمي بمثابة الدولية الجديدة للعولمة وسكرتير عام هذه الدولية هو مستر كلاوس شواب ويجمع اللقاء السنوى لتلك الدولية وزراء وأعضاء برلمانات ورؤوساء شركات دولية عابرة للقارات وشخصيات علمية وفكرية، بهدف تنسيق خطط واستراتيجيات لدفع مسيرة العولمة في ضوء ما يستجد من متغيرات ومستجدات، وطوال الأعوام من 1991 - 2000 كانت مواضيع اللقاء السنوي تدور أساساً حول الترويج لمسيرة العولمة وآلياتها وكيف يمكن ضمان استمرارها·

 

انتصار رأس المال

 

وهكذا توحي العولمة الاقتصادية بأن العالم الذي تشكل في التسعينيات قد أصبح عالماً بلا حدود اقتصادية، فالنظم الاقتصادية المختلفة أصبحت متقاربة ومتداخلة ومؤثرة في بعضها البعض، ولم تعد هناك حدود وفواصل فيما بينها، وأن النظام الاقتصادي العالمي هو اليوم نظام واحد تحكمه أسس عالمية مشتركة، وتديره مؤسسات وشركات عالمية ذات تأثير على كل الاقتصادات المحلية، أما الأسواق التجارية والمالية العالمية فإنها، وكما يقول ماكلولم واترز: لم تعد موحدة أكثر من أي وقت آخر فحسب، بل هي خارجة عن تحكم كل دول العالم بما في ذلك أكبرها وأكثرها غنى·

فالعولمة الاقتصادية تعنى بروز تقسيم جديد للعمل للاقتصاد العالمي الذي لم يعد يخضع اليوم للرقابة التقليدية، ولم يعد يؤمن بتدخل الدول في نشاطاته، وخاصة فيما يتعلق بانتقال السلع والخدمات ورأس المال على الصعيد العالمي، ولقد بلغ النشاط الاقتصادي العالمي مرحلة الاستقلال التام عن الدولة القومية وعن الاقتصادات الوطنية التي كانت - وإلى وقت قريب - قاعدة الاقتصاد العالمي ووحدته الأساسية، والتي تتحكم في مجمل العمليات الانتاجية والاستثمارية على الصعيدين الداخلي والخارجي، كل ذلك كان يتم برعاية الدول وعبر تحكمها الكامل لكن هذا التحكم التقليدى للدول في النشاط الاقتصادي بدأ يتراجع في ظل عولمة الاقتصاد وبروز الشركات المعولمة (الشركات الكوكبية)·

إن انتقال مركز الثقل الاقتصادي العالمي من الوطني إلى العالمي ومن الدولة إلى الشركات والمؤسسات والتكتلات الاقتصادية هو جوهر العولمة الاقتصادية، فالاقتصاد العالمي ونموه وسلامته - و ليست الاقتصادات المحلية - هو محور الاهتمام العالمي، كما أن الأولوية الاقتصادية في ظل العولمة هي لحركة رأس المال والاستثمارات والموارد والسياسات والقرارات على الصعيد العالمي، وليس على الصعيد المحلي، والعولمة الاقتصادية تستجيب لقرارات المؤسسات العالمية ولاحتياجات التكتلات التجارية ومتطلبات الشركات العابرة للقارات أكثر من استجابتها لمتطلبات الاقتصادات الوطنية التي أخذت تذوب في الاقتصاد العالمي، وكذلك تصبح كيفية إدارة الاقتصاد العالمي أكثر أهمية من كيفية إدارة الاقتصادات المحلية، لذلك تشكل العولمة الاقتصادية نقلة نوعية في التاريخ الاقتصادي العالمي، ليس على صعيد ربط الاقتصادات المختلفة، والتي هي الآن أكثر ارتباطاً، أو على صعيد حجم التجارة العالمية، الذي تجاوز كل الأرقام الاقتصادية، أو على نطاق الاستثمارات الخارجية التي بلغت مستويات غير معهودة، بل على صعيد إعادة تأسيس قواعد ومؤسسات وبنية هذا النظام·

 

كارثة للملايين

 

إن إحدى سمات العولمة هي إنتصار اقتصاد الليبرالية الجديدة داخل دائرة صنع القرار في الدولة، وعلى الرغم من أنها صيغت من منظور حملات حكومتي "تاتشر، وريجان" على دولة الرعاية الاجتماعية في المركز، إلا أن تأثير هذه النقلة الأيديولوجية كان أكثر فداحة بالنسبة لدول الأطراف حيث انطوت عمليات الخفض في اعتمادات الدعم المحدودة الموجودة على نتائج كارثية بالنسبة لملايين الناس وفى ظل الديون الضخمة، وجهاز الدولة الذي يستشري فيه الفساد وانتهاء مسيرة النمو الاقتصادى ذات المعدلات العالية في السبعينيات والثمانينيات، وجدت أغلب دول الأطراف نفسها في مأزق صعب، وكان العقاب على هذا الإخفاق هو الإصلاح الهيكلي بوصفه شرطاً ضرورياً للحصول على مساعدات صندوق النقد الدولي، فيأتي فريق من خبراء الصندوق ليزور البلد الطالب للقرض ويقوم بتقدير المطلوب عمله، ثم يجعل البلد ينفذ سياسته النيوليبرالية من حيث إن الاقتصاد المحلي يصبح مفتوحاً أمام السوق العالمية، وتباع الأصول المملوكة للدولة من أجل جذب رأس المال الخصخصة وتخفيض ميزانية الدولة بتخفيض الإعتمادات المخصصة للدعم والرعاية الإجتماعية وتفرض هذه الأخيرة سياسة للتقشف على القطاعات الأكثر تضرراً بخفض الدعم، وقد أدت إلى خروج العديد من التظاهرات الجماهيرية ولكن دون طائل، ذلك أن مراكز القوة تقبع خارج البلاد داخل دائرة صنع القرار بالصندوق، ومتروك للحكومة المحلية أن تجد الوسائل المناسبة لإضفاء المشروعية على السياسة المطلوب تنفيذها أمام شعبها، وهذه التبعية الجديدة الأبعد مدى تضع دول الأطراف تحت سيطرة المركز في ظل نوع من الإمبريالية الرسمية الجديدة، المفرغة من صيغة الاحتلال العسكري، والتجربة هي خير إثبات لما تقدم، فخلال الفترة ما بين 1983 و1991 على سبيل المثال، تدفقت أموال قيمتها حوالى 200 بليون دولار من أمريكا اللاتينية إلى الخزانات المالية في دول المركز أي 534 دولار من كل فرد من شمال المكسيك إلى جنوب تشيلى، وتكشف مثل هذه الأرقام عن الفكرة القائلة أن الإمبريالية في ظل العولمة، لم يعد وجودها يستند في الأساس إلى بعدها الأيديولوجى·

وبعبارة أخرى فإن النظام الرأسمالي حينما تعرض في بداية السبعينات لهزات شديدة على صعيده المحلى وصعيده العالمي، اندلع آنذاك صراع فكرى كبير بين الاقتصاديين حول طبيعة السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي يتعين على الدول الرأسمالية أن تسير على هداها لمواجهة هذه الهزات·

ونظراً لعمق الأزمة الاقتصادية آنذاك (أزمة الكساد التضخمى وانهيار قاعدة بريتون وودز للذهب) وفشل الجهاز النظرى للكينزية في تفسير ما حدث أو طرح حلول عاجلة بديلة، فقد انتصر التيار النيوليبرالى ممثلاً في نجاح مارجريت تاتشر في بريطانيا عام 79، ونجاح رونالد ريجان في أمريكا أوائل الثمانينيات، وجاء الليبراليون الجدد بمنهاج جديد لإدارة الرأسمالية في صعيدها المحلى وصعيدها العالمي، فعلى الصعيد المحلى قال الليبراليون الجدد، إن الرأسمالية كنظام اقتصادى اجتماعى لا تنطوى على عيوب أساسية أو أنها معرضة لأزمات خطيرة، فهى قادرة على أن تصحح نفسها بنفسها وقادرة على التكيف مع أزماتها وتجاوزها إذا ما روعيت حرية السوق واستطاع المجتمع حماية هذه الحرية وتحجيم دور الدولة وتدخلها في النشاط الاقتصادى، بل ذهب بهم التطرف إلى الاعتقاد من جديد بفكرة اليد الخفية التي تحدث عنها آدم سميث وتحقق الإنسجام والتوافق بين مصلحة الفرد والمصلحة العامة، واعتقد الليبراليون الجدد أن أزمة النظام الرأسمالي تكمن في قصور العرض وليس في قصور الطلب، ومن هنا يجب العمل على إنعاش قوى العرض، وأنه لكى يتحقق ذلك يجب أن يتوافر للمستثمرين الأمان والحرية المطلقة لهم، وأن تتوافر لهم الأموال اللازمة لنشاطهم والعمل على زيادة بواعثهم للإنتاج والاستثمار من خلال تقليل ضرائب الدخل المفروضة على أرباحهم العالية وتخفيض الضرائب على الثروة ورأس المال، وأن يباع القطاع العام لهم، وأن تنتقل كثير من الأنشطة التي كانت تقوم بها الحكومة إلى القطاع الخاص (التعليم، الصحة،)، وأن ترفع الدولة يدها عن جهاز الأسعار، وأن تتخلى الحكومات عن أهداف التوظف الكامل ودولة الرفاه (الضمانات الاجتماعية وإعانات البطالة ودعم المواد الغذائية للفقراء) وكل ما هو مطلوب من الدولة أن تلعب دور الحارس لقواعد هذه اللعبة وأن تضع سياسة نقدية منضبطة·

 

فخ الديون

 

وعلى الصعيد العالمي رحب الليبراليون الجدد بتقويم أسعار الصرف، وبإلغاء القيود على موازين المدفوعات والتحويلات الخارجية، وبضرورة تشجيع حركات رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية مع خلق مناخ موات لها في البلاد التي تذهب إليها، ومنذ بداية السبعينات تسربت الليبرالية الجديدة إلى المنظمات الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولى) وراحت تتعامل مع البلاد النامية الفقيرة من منطق التكيف وضرورته مع السوق الرأسمالي العالمي وإبعاد الدولة و إضعافها، وترك آليات السوق لكى تعمل بشكل طليق، ووضعت هذه المنظمات مشروعاً أممياً لإعادة الانضباط الاقتصادى داخل هذه الدول، وتجديد علاقاتها مع السوق الرأسمالي العالمي، وهو المشروع الذي يصاغ بشكل عام ودون أن يفرق بين دولة وأخرى تحت عناوين برامج التثبيت والتكيف الهيكلى خاصة بعد وقوع البلدان النامية في فخ المديونية الخارجية، والتي نتجت عن محاولة الرأسمالية العالمية مواجهة أزمتها عن طريق تطبيق نوع من "الكينزية" العالمية خلال الفترة من 1973 - 1982 حينما راحت تضخ كميات هائلة من القروض إلى بلاد العالم الثالث عن طريق تدوير فوائض النفط الدولارية والسيولة المتراكمة في السوق الأوروبية للدولار لتمويل عجز موازين مدفوعات هذه البلاد و تمكينها من تمويل وارداتها من الدول الرأسمالية الصناعية·

خلاصة القول إن نظام العولمة في بعده الاقتصادى والذي ترتسم سماته بالتدريج قائم على مبادئ نقيضة للنظام القديم للاقتصاد الدولي متمثلة في تداخل اقتصادات المركز الرأسمالية التي فقدت استقلالها الذاتى وأصبحت جزءاً في بنية اقتصادية عالمية مندمجة تشكل المؤسسات الدولية بقيادة منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد والبنك الدوليين العنصر الحاسم والرئيسى فيها عبر آليات عملها والقواعد الملزمة التي تنشئها، والتي قامت بوضعها مجموعة البلاد الصناعية المتقدمة والتي تعنى بشكل واضح تصاعد البعد الدولي للرأسمالية على النحو الذي تتآكل عنده الحدود الجغرافية والسيادية للدول مع تزايد درجة الارتباط والتشابك بين اقتصادات العالم المختلفة·

 

عن www.kanaanonline.org

طباعة  

إدوارد سعيد في تقديمه للثقافة والنزعة الإمبراطورية (1)
كيف ساهمت "الثقافة" في تشكيل العقلية الاستعمارية.. واختراع مفاهيم الأعراق الوضيعة؟!