كتب محرر الشؤون العربية:
كان من المنطقي بعد أن شددت لجنة "فينوغراد" الصهيونية التي اتخذت اسمها من اسم رئيسها "الياهو فينوغراد" رئيس المحكمة العليا، من نقدها لأداء حكومة إيهود أولمرت، السياسي والعسكري في عدوانها على لبنان صيف العام الماضي ونتائجه الكارثية البعيدة المدى على الكيان الإسرائيلي، جيشا ومستوطنين، أن توصي بشيء ما لا يقل عن المطالبة برحيله مع حكومته، ولكن هذه اللجنة التي حجبت تعمداً ما يمس أمن إسرائيل وحلفائها من العرب في الشهادات التي استمعت إليها، اكتفت بالخلوص الى أن "أبطال" العدوان الثلاثة، أولمرت ووزير حربه "بيرتس" ورئيس أركان جيشه "حالوتس" كان أولهم، "صاحب خطة غير محكمة"، والثاني "قليل الخبرة وقصير النظر"، والثالث "ثبت على خطئه تكتيكيا واستراتيجيا"، وفق ما تسرب الى أجهزة الإعلام الإسرائيلية·
بالطبع هذه نتيجة محيرة وغير معتادة، وقد أكدت غرابتها مصادر لجنة "فينوغراد" في أكثر من وسيلة إعلام قبل صدور التقرير العام حين أشارت الى أنها "لن تطلب من أولمرت الاستقالة"، وكذلك وزير حربه بالطبع، بينما أشار مساعدو أولمرت الى أنه لن يتقدم باستقالته·
كل التقارير والدراسات والتحليلات التي صدرت عن عدوان تموز على لبنان، بما فيها الإسرائيلية، خلصت الى أن المقاومة اللبنانية انزلت في تصديها للجيش الإسرائيلي ومخابراته وإعلامه ضربة استراتيجية بالكيان الإسرائيلي، وهزت ثقة المستوطنين بجيشهم، ودفعت أعدادا بدأت تتزايد الى العودة الى بلدانها الأصلية في دول أوروبا الشرقية وبريطانيا وفرنسا وجنوب أفريقيا·· إلخ·
ووضعت على جدول أعمال التحالف الغربي الذي أنشأ هذا الكيان التفكير بقيمته الاستراتيجية بعد أن بدأ يبرهن على فشله العسكري والسياسي في منطقة قام فيها لخدمة المصالح الغربية، وقمع كل بوادر نهوض فيها· يضاف الى ذلك، كما لاحظ بعض المحللين الصهاينة، أن بعض الدول العربية بدأت ترى أن بالإمكان هزيمة الجيش الإسرائيلي، وفقدت دول أخرى قدرتها على إقناع شعوبها بأن "إسرائيل" قدر ساحق ما حق لا مناص من الخضوع له· ولاحظ بعضهم أنه رغم مسارعة دول الثالوث العربي التي رأت في عدوان إسرائيل "حربا دفاعية"، كما كشف السفير الأمريكي السابق جون بولتون في الأمم المتحدة في الأسبوع الماضي، الى ترميم "جدار الخوف" العربي من الكيان الصهيوني، إلا أن شروخ هذه الجدار التي أحدثتها المقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية بدأت تستعصي على الترميم·
في ضوء هذا يطرح السؤال: لماذا خلصت لجنة "فينوغراد" الى نتيجة متخلفة مسافة بعيدة عن النتيجة التي وصلت إليها لجنة مشابهة تدعى لجنة "غرانات" حققت في ما سمي "تقصير" القيادة الإسرائيلية في حرب العام 1973 اسقطت فيها القيادة العسكرية على الأقل آنذاك؟ ولماذا مع كل هذه النتائج الاستراتيجية الكارثية على الكيان الإسرائيلي (جيشاً ومستوطنين) التي لم تحدثها أي حرب سابقة مع العرب، لم تفي لجنة "فينوغراد" بما وعدت به في البداية من أنها لن تقصر تحقيقاتها على الأداء العسكري كما فعلت لجنة "غرانات"، بل ستمدها الى الأداء السياسي؟
من الصعب الإجابة في ضوء عدم توافر معلومات موثقة عن حيثيات قرار اللجنة بما يشبه الامتناع عن النطق بالعقاب، ولكن الأدلة الظرفية كثيرة، وعلى رأسها كما يبدو اكتشاف أنه رغم الإعداد الإسرائيلي الطويل الأمد لهذا العدوان، كما كشفت تصريحات أولمرت وضباطه، والمصادر الأمريكية، ورغم حشد التحالف الغربي لإمكانياته وراء العدوان سياسياً وإمداداً بالذخائر والأسلحة، ورغم تواطؤ الثالوث العربي الشهير الذي كان في تحمسه للعدوان إسرائيليا أكثر من الإسرائيليين أنفسهم، فإن مواجهة المقاومة الناجحة (مخابراتيا وعسكريا وإعلاميا) لهذا العدوان، كما ذهب مدير منتدى النزاعات البريطاني "الستير كروك"، كانت هي العنصر الفعال في هزيمة العدوان، وتدمير أسطورة جيشه·
وحسب المعلومات التي توفرت عن حجم الإعداد الإسرائيلي والتخطيط العسكري للضربات الجوية، ثم دفع قوات المدرعات الى ساحة المعركة، مع أفضل قوى النخبة في الجيش الإسرائيلي، مع ما رافق ذلك من إعداد أرضية سياسية جيدة للعدوان على صعيد حكومات الثالوث العربي، وصعيد مجلس الأمن، وبقية مؤسسات التحالف الغربي، فإن حكومة أولمرت كانت "خطتها غير حكيمة" فقط، وكان "بيرتس" قليل الخبرة·
وكان "حالوتس" صاحب نظرية "خاطئة" على صعيد التكتيك والاستراتيجية العسكرية، لأنه كما يبدو "استنسخ" تجربة القصف الأطلسي لصربيا، والقصف الأمريكي لأفغانستان والعراق، ولم يحسن تكييف كل هذا في مواجهة مختلفة مع عدو مختلف·
ويمكن أن نتصور أن ما سمي "إخفاقا" و"فشلا" في الإعلام الإسرائيلي، والعربي أيضاً، كان تغطية على أسباب الهزيمة الحقيقية، وهي قدرات المقاومة اللبنانية في المقام الأول·
من هنا يمكن أن نفهم لماذا لم تضع القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية الهزيمة الاستراتيجية علناً في إطارها الصحيح، ولماذا تحدثت إعلاميا عن "إخفاق" و"فشل" و"سوء إدارة"، ثم انتهت لجنة "فينوغراد" الى أن كل هذا لا يستدعي الخلاص من الحكومة الإسرائيلية ورئيسها، لأن هذه التعابير لم تكن إلا بضاعة استهلاك إعلامي لخداع بقية من لم ينخدع من جمهور المستوطنين، لقد أدى أولمرت وبيرتس وحالوتس المهمة واستعدوا لها، واندفعوا إليها بكل طاقتهم، ولكن الهزيمة أوقعها بهم العدو الذي لا يريدون أن يذكروه، فهل يمكن للجنة "فينوغراد" أن تطلب من حزب الله الاستقالة من انتصاره مثلاً؟