رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 2 مايو 2007
العدد 1772

ما هو الإدراك النثري.. ما هو الإدراك الشعري؟
فكرة لغة تنتشل الأشياء من العادي والمألوف

   

 

·       الحياة إدراك نثري .. تختفي فيه الأشياء أمام المعاني التي تبثها

·       هدف الفن جعل  الحجر حجرياً.. واستعادة الأحساس بالحياة

·         تشومسكي: المعنى ليس نتاج ضرورة نحوية دائماً!

 

جيرالد· ل· برنز*:

ما أود تناوله كطريقة للكشف عن موضوع هذه المحاضرة، هو واقعة أن محاولة تعريف التعبير الأدبي بمصطلحات اختلافه أو حتى تعارضه مع التعبير المعتاد، وانطلاقاً من هذا، محاولة تعريف طبيعة الأدب بمصطلحات هذا الاختلاف، هي في نهاية المطاف ظاهرة معاصرة يمكن التعرف على هويتها، بمعنى أن تعريفاً من هذا النوع على الأقل، بدلاً من أن يكون مجرد صياغات معزولة، يساعد بذاته على تحديد موقف جماعة من الكتاب شكلت ما يمكن أن ندعوه التراث الشكلاني أو جماعة الشكلانيين البنيويين·

واقع الأمر، هو أن ثلاث جماعات تقريباً شاركت في تكوين هذا التراث: النقاد الشكلانيون الروس الذين ازدهروا خلال العقد الثاني والثالث من القرن العشرين، وأعضاء حلقة براغ الألسنية، أو بنيويو براغ، الذين هيمنوا على الألسنيات الأوروبية طيلة ما يقارب ربع قرن قبل الحرب العالمية الثانية، وعدد من نقاد الأدب الفرنسيين الذين لم تستند كتاباتهم الى المدرستين الروسية والسلافية فقط، بل والى التراث الشكلاني المحلي الذي يعتبر الشاعر "مالارميه" روحه الحارسة ويعتبر أستاذه اللغوي "فرديناند دو سوسير":

إن أهمية هذا الذي يدعى التراث الشكلاني لفهم اللغة الأدبية لا يمكن أن يكون التشديد عليه مبالغاً فيه الى حد كبير، وبالتأكيد، ما دامت البلاغة الكلاسيكية لغة أدبية حظيت بنوع من العناية المنظمة التي منحها لها هؤلاء الكتاب· الأكثر أهمية هو أن هؤلاء الكتاب مضوا الى ما هو أبعد من التراث الكلاسيكي، ومالوا الى أن يجعلوا من اللغة واقعاً يتجاوز حتى واقع الأدب ذاته·

 

الجمالي والاتوماتيكي

 

إذا تحدثنا بشكل عام، نجد أن إنجاز النقد الروسي الشكلاني يقع في تطوير مفهومين متصلين ببعضهما: ما يدعى بمبدأ الشكل المدرك حسياً، وفكرة الدلالة الوظيفية والبنيوية للمضمون الأدبي· أقدم تشكيل وربما الأكثر أهمية، لهذين المفهومين، جاء في دراستين لفيكتور شكلوفسكي، الأولى هي "انبعاث الكلمة" 1914 وهي دراسة تم تأليفها لتقديم أرضية نظرية لتجارب معينة في الشعر حاولها عدد من الشعراء المستقبليين الروس، والثانية هي "الفن بوصفه تقنية" (1917) التي هي ربما الوثيقة المركزية بين الأطروحات التي ألفها بين عامي 1916 و1919 أعضاء "الأبوياز" (جمعية دراسة اللغة الشعرية) التي ساهم شكلوفسكي في تنظيمها في العام 1914·

مناقشة شكلوفسكي في هاتين الدراستين تنصب على التمييز بين شكلي الإدراك، الجمالي والاوتوماتيكي· يقول في دراسة "الفن بوصفه تقنية": "إذا بدأنا التدقيق في قوانين الإدراك العامة، نجد أن الإدراك ما أن يصبح معتاداً حتى يصبح أوتوماتيكيا"·

ويمكننا القول إن حياتنا اليومية مؤلفة من مواجهات مكرورة ولا تحصى مع العالم، بحيث يميل إدراكنا للعالم في هذه المواجهات الى أن يصبح أقل من وعي كامل بها·

وبالفعل، فكلما أصبحنا أكثر اعتياداً على حضور العالم، كلما أصبحنا على معرفة أليفة ببيئتنا وبكل ما تحتويه الى درجة سقوطنا في ما يدعوه شكلوفسكي نهج تفكير جبري (نسبة الى رياضيات الجبر)، وهو نهج يصبح العالم مدركاً بالنسبة له، ليس كعالم أشياء، بل كعالم شيفرات وخطوط عامة: "بوساطة هذا النهج الجبري في التفكير، لا ندرك الأشياء إلا كأشكال ذات امتدادات غامضة، نحن لا نراها بكليتها، بل نتعرف عليها بوساطة سماتها الرئيسية· إننا نرى الأشياء كما لو أن كيساً يحتويها· نحن نعرف ما هي بمجموعها، ولكننا لا نرى إلا شكلها الظلي، ويضمحل الشيء المدرك هكذا بأسلوب إدراك نثري، ولا يترك حتى انطباعاً أولياً·· إن عملية تحويل الأشياء الى أرقام في معادلة جبرية، وطغيان تحويل الشيء الى شيء أوتوماتيكي، تسمح بأكبر اقتصاد في الجهد الإدراكي· فأما أن تمنح الأشياء سمة ملائمة واحدة فقط، رقما على سبيل المثال، أو تقوم بوظيفتها كما لو بوساطة صيغة ولا تظهر حتى في الإدراك"·

أو بكلمات أخرى، الحياة كلها هي حياة "إدراك نثري"· الأشياء معروفة، كما لو أن معاني الكلمات مستخلصة من تعبير يقال نثراً، ولكن الأشياء غير مدركة: إنها مثل كلمات تختفي أمام المعاني التي تبثها، لوصف الأمر بطريقة أخرى، عالمنا هو عالم ماهيات مجردة مأخوذة من مشهد محسوس· وتبلغ أوتوماتيكية عملية التجريد حد أن عالم الأشياء لا يعود يسجل على أحاسيسنا· ويمضي شكلوفسكي الى القول "وهكذا تعد الحياة كما لو أنها لا شيء"، ويضيف بلمحة خاطفة مدهشة "يلتهم الاعتياد الأعمال والملابس والأثاث وزوجة المرء والخوف من الحرب"·

 

نزع الألفة

 

ولكن فوق وعلى أرضية حياة الإدراك النثري يقع عالم الفن "الذي يبرز الى الوجود· عالم ربما يستعيد أحساساً بالحياة، إنه يبرز الى الوجود ليجعل المرء يشعر بالأشياء، ليجعل الحجر حجرياً· إن غرض الفن هو إضفاء أحساس بالأشياء كما هي مدركة وليس كما هي معروفة"· إلا أن شكلوفسكي معني بغاية أو غرض الفن أقل من اهتمامه بالطريقة التي ينجز فيها الفن هذا الغرض، أي أنه معني بشكل رئيسي بتقنية الفن الذي وظيفته إظهار غرابة الأشياء، وجعل الأشكال صعبة وزيادة صعوبة ومدى الإدراك، لأن عملية الإدراك هي غاية جمالية بحد ذاتها ويجب إطالتها"·

وهنا يتخذ نقاش شكلوفسكي انعطافه مرهفة ولكنها مهمة· إن إعادة اكتشاف الأشياء بشكلها المحسوس تصبح ممكنة بوساطة عملية نزع الألفة عنها، ولكن هذه العملية بالنسبة لشكلوفسكي تحول الإدراك الى نوع من نشاط متعال· إلا أن الفن ذاته، مهما كان حجم ما يقدمه لمساعدتنا "لاستعادة الإحساس بالحياة"، يظل روحياً بكل ما تعنيه الكلمة، أو مرة أخرى، إذا كان الفن وسيطاً لإدراك وطيد للعالم، فهو يجعل الإدراك فعلاً لازماً غير متعد، وتحديدا الى مدى تكون فيه عملية الإدراك غاية جمالية بحد ذاتها· وبالفعل فإن شكلوفسكي يشدد على هذه النقطة بتكثيفها في صيغة: "الفن هو طريقة في تجربة الماهية الفنية لشيء، الشيء ليس مهماً"·

ويستحق الأمر هنا تمحيص معنى كلمة "الماهية الفنية"· في الطبعة الفرنسية لمقالات الشكلانيين الروس النقدية التي ضمها كتاب "نظرية الأدب"، يترجم تزيفتان تودوروف صيغة شكلوفسكي على النحو التالي: "الفن طريقة لتجربة ما يأتي "من شيء من الأشياء، أي خلال تشكله"· وسنرى بعد قليل الأهمية الفائقة التي يمتلكها هذا المفهوم لتجربة التشكل في شعرية "بول فاليري"·

في حالة شكلوفسكي، النقطة التي يجب ملاحظتها هي أن عملية نزع الألفة هي عملية يُنتشل بوساطتها الشيء من حقل الإدراك العادي أو النثري، ويوضع في نطاق شبكة من العلاقات التي تكون العمل الفني· ولكن المهم الذي يجب فهمه هو أن هذه العملية ليست تغيير موضع بسيطا، ولكنها تحويل للشيء، وإنها بالفعل إعادة إنشاء الشيء بوصفه عنصرا شكليا يمتلك وظيفته الخاصة به ضمن بنية العمل الكلية·

بالطبع من وجهة نظرما، يقوم الشيء في العمل بوصفه صورة لما هو موجود في عالم التجربة، ولكن شكلوفسكي يعارض بثبات وجهة النظر هذه· إن مقاله في جزء منه سجال ضد نظرية المحاكاة في الفن، أو ضد أي نظرية تعتبر الصورة مكونا أساسياً من مكونات العمل·

معنى أي صورة بالنسبة لشكلوفسكي،في كونه ليس مستمداً من علاقتها بعالم الأشياء، إذ معناها يقع بدلاً من ذلك في علاقتها بالعمل ككل، حيث تقوم بوظيفتها كأداة بنيوية، تقنية تشكيل، وليست شاهداً من شواهد التمثيل، وبناءً على هذا، يلاحظ أن "الشعراء معنيون بتنظيم الصور أكثر مما هم معنيون بخلقها"·

لأن محتويات الصور ليست هي التي تمتلك الأهمية الرئيسية، بل المهم هو نظام العلاقات التي تنتظم فيه هذه المحتويات·

 

تمزيق التجريد

 

ومن هنا، بقدر ما يتخذ المجاز في أي عمل من أعمال الفن ملموسية شكلية لا ملموسية مرجعية محددة بصرامة، بقدر ما يدخل في فعل الإدراك غير المألوف، وفي مواجهته العالم الملموس بالكاد·

لأن معنى العمل يجب أن يتخذ، على هذا الأساس، سمة إشكالية· إن معنى أي عمل فني، كما يعبر شكلوفسكي، يتسع الى المدى الذين تتضاءل فيه الماهية الفنية والذائقة الفنية، وهنا وعلى هذه البديهية، فكرة التعارض بين الشكل والمعنى، يزن مفهومه للغة الشعرية· المعنى بالنسبة لشكلوفسكي هو وظيفة للنطق النثري: إنها عملية تجريد للمعروف من ما هو مدرك، وتمييز "لجوهريات" الكلمات بوصفها متميزة عن شكلها الملموس· بالتباين مع هذا وظيفة النطق الشعري هي أن تمزق عملية التجريد هذه·

يقول شكلوفسكي إن لغة الشعر لغة صعبة معترضة ومخشنة· أو مرة أخرى، يمكننا تعريف الشعر بوصفه كلاماً معذباً ومسنناً، الكلام الشعري هو كلام متشكل، النثر كلام عادي، سهل واقتصادي ومناسب، وآلهة النثر هي آلهة النمط السطحي الصحيح،، آلهة تعبير الطفل "المباشر"· القضية هي أن تجربتنا للغة، التي تشبه تماما تجربتنا للعالم، هي تجربة ناشئة عن العادة الى حد أنها تميل الى أن تكون أوتوماتيكية· ولكن الشعر هو استخدام غير ميكانيكي للغة، لإنه انحراف عن القاعدة، أو انحراف عن نظام التوقعات، ذلك الذي يراقب استخدام اللغة في الحديث اليومي· الشعر لغة نزعت منها مألوفيتها، لغة تشكيلاتها، بدلاً من أن تكون مجرد تشكيلات للمعنى، هي بُنى جمالية أي إنها نظام علاقات لازمة غير متعدية·

بالطبع ما يتضمنه هذا هو أن التجربة الجمالية في الشعر هي في النهاية تجربة للغة ذاتها، وفكرة الشعر هذه هي التي أخذها وطورها على أساس منظم بنيويو براغ، الذين وسعوا نظرية الوظائف الألسنية أو الأغراض الألسنية التقليدية (الوظيفة المرجعية والرغبوية والانفعالية) بحيث تتضمن تلك التعابير التي تستخدم فيها اللغة استخداماً لازماً غير متعد·· وفي مكان تمييز شكلوفسكي المبهم بين التعابير النثرية والكلام الشعري (أي بين الخطاب السهل والخطاب المعذب) صاغ بنيويو براغ، وبخاصة "بوسلاف هافرينيك" و"يان موكاروفسكي" تمييزاً بين تلك التعابير التي تتحول فيها اللغة الى أوتوماتيكية، وفقاً لاقتصادية الكلام اليومي وتلك التي تتصدر فيها اللغة "مقدمة الصورة"، جعل اللغة في المقدمة، بناء على كلام هافرينيك، هو استخدام أدوات اللغة بطريقة يجتذب فيها الاستخدام ذاته الانتباه، ويدرك بوصفه غير مألوف، وبلا أتمته، ومنزوعة منه الأوتوماتيكية، مثلما هو المجاز الشعري الحي، على الضد من الاستخدام المعجمي الذي هو استخدام أوتوماتيكي، ومن هنا على سبيل المثال، يكون سطر "نعوم تشومسكي" الموفق، "أفكار خضراء بلا لون تنام نوما صاخبا" تعبيراً من تعابير مقدمة الصورة، فعلى رغم أن الجملة، تنحو منحنى نحويا تاما "وضعها تشومسكي ليظهر أن المعنى ليس بالضرورة نتيجة ضرورة نحوية"، فهي مبتلاة أو مثل الكثير من السطور الشعرية، تنعم بتنافر بين المعجم وبناء الجملة يضفي عليها انغلاقاً أمام أي جهد كان يمكن أن نبذله في سبيل فرض تفسير عليها· أي أن بنية الكلمات التي يتكون منها تعبير تشومسكي التي تحتل مقدمة التعبير هي اعتياديا المجال الخاص بالمعنى·

 

الكلام ذاته

 

إن فكرة المقدمة ليست مهمة فقط كمفهوم ألسني، إنها تدفع بالألسنيات الى حافة الشعرية· وفقاً لموكاروفسكي: "تتضمن وظيفة اللغة الشعرية في الحد الأقصى وضع التعبير في "مقدمة الصورة"· أكثر من هذا، "يحقق التقديم في اللغة الشعرية أقصى تكثيف الى حد أنه يدفع عملية التواصل الى الخلفية، بوصفه هدف التعبير وبكونه يستخدم لحسابه الخاص، إنه لا يستخدم في خدمة التواصل بل من أجل وضع فعل التعبير في المقدمة، فعل الكلام ذاته·

يقوم على هذا النحو بالضبط، المبدأ الأول لشعرية بول فاليري (وهو بالفعل التيمة التي يتابعها بعناد في كل كتاباته حول الشعر تقريبا)· وهو أن "اللغة العادية أداة عملية· انها تحل دائما مشاكل مباشرة· ويتم الوفاء بمهمتها حين تنمحي كل جملة تماما، تلغى ويحل محلها المعنى، الفهم هو غايتها، ولكن من جانب آخر، تهيمن على الاستخدام الشعري شروط شخصية، وشعور موسيقي واع ومستمر وطويل الأمد"·

هذا "الشعور الموسيقي" يحول بنية اللغة كلها، ووظيفتها كلها بالفعل، لأن اللغة في الشعر "لا تعود فعلا متعديا نفعيا، بل على العكس، تمتلك قيمتها الخاصة بها التي يجب أن تظل سليمة رغم عمليات الفكر في قضايا معينة· يجب أن تصون اللغة الشعرية ذاتها، وبوساطة ذاتها، وتظل هي ذاتها، وأن لا يستبدل بها فعل الفكر الذي يمنحها أو يجد لها معنى·

أي أن الفعل الشعري، ومن أجل هدفه، يمتلك خلق ما يسميه فاليري بتنويعات مختلفة "كون اللغة"، أو الكون الموسيقي، أو "الحالة الشعرية"، وهو عالم كلمات ملموسيتها ليست دلالية، بل شكلية، بمعنى أن الكلمات لا تعود تقوم بوظيفتها بوصفها تمايزات معنى، بل "كوحدات صوتية، تميل الى تشكيل تركيبات جلية، متضمنات متعاقبة أو متزامنة، متسلسلة ومتفاعلة· وباختصار نظاما من علاقات صافية بوصفه ضدا لنظام علاقات تركيب للجمل من ذلك الذي يجده المرء في الإنشاءات الألسنية العادية"·

 

بندول بين نقطتين

 

وهكذا يتصور فاليري، شأنه في ذلك شأن شكلوفسكي، بنية اللغة الشعرية بتعابير تعارض بين المعنى والشكل، ولكن هذا التعارض في تحليل فاليري يوفر طريقة لوصف دينامية الكلام الشعري المتميزة· بالنسبة لفاليري الشعر نظام ارتحالات ورجعات، تقوم فيه اللغة الشعرية بوظيفتها من حيث الجوهر، كنقطة توازن هادئ: "فكروا ببندول يتذبذب بين نقطتين متماءلتين· وافترضوا أن واحدا من هذين الطرفين يمثل شكلا: الخصائص الملموسة للغة، الصوت، الإيقاع، النبرة، النغمة، الحركة، وبكلمة واحدة الصوت في حالة فعل· ثم انسبوا للنقطة الأخرى  كل القيم المهمة - الصور والأفكار، حافز الشعور والذاكرة، الحوافز الفعلية وبنى الفهم، وباختصار كل شيء يكون المضمون، معنى الخطاب، والآن لاحظوا تأثير الشعر في أنفسكم، ستجدون أنه مع كل سطر بدلاً من أن يدمر المعنى الذي ينتج فيكم الشكل الموسيقي الذي تتلقونه يذكر به·

البندول الحي الذي يتردد بين الصوت والمعنى، يعود الى نقطة رحيله المشعور بها كما لو أن المعنى ذاته الحاضر في ذهنك لا يستطيع أن يجد منفذ تعبير آخر، لا جوابا آخر، غير الموسيقى ذاتها التي ولدته"· حين يفهم الأمر بهذه الطريقة، فإن التعارض بين المعنى والشكل في الشعر يتحول الى تناغم، رغم أنه لا ينمحي، مثلما أن المرء سيأخذ ببديهية أن الشكل والمضمون لا ينفصمان، لأن الشعر المتصور هكذا يصبح استخداما للغة تأخذ فيه مجموعة من مكونات دلالية قيمة بنيوية، أو تأخذ فيه مجموعة مكونات دلالية معنى، وتحديداً وهي توصل الشكل الذي نطقت بوساطته· هذا التشكّل في الواقع أقل تناقضية مما يبدو· صحيح أن كل التعابير، كل استخدامات اللغة، تتضمن بمعنى من المعاني تركيبا من عناصر صوتية ودلالية، ولكن طرح فاليري هو أن هذا التركيب في الشعر له في المطاف الأخير نظام مختلف عن النظام الذي يتحقق اعتيادياً في أفعال الكلام· إنه تركيب يتحقق نيابة عن اللغة ذاتها· اللغة بالطبع ليست مجرد نظام من الأصوات ولكنها نظام علامات أيضاً، إلا أن هذه العلامات في الشعر لا تعود وظيفتها مجرد وظيفة في عملية دلالية، بل في عملية تشكيل تمتلك فيها المكونات الصوتية· والدلالية، الصوت والمعنى، قيمة متساوية، وتصبح إذا جاز التعبير رمزية بالتبادل· إنها تصبح رمزية بالتبادل، أي أن الكلمات في الشعر بمعنى ما ليست معنى فقط، بل إن المعاني في الشعر ترجع وتحيل الى الكلمات ذاتها، بحيث كما وصف فاليري:

"عند كل سطر، المعنى المنتج فيك، بدلاً من أن يدمر الشكل الموسيقى الواصل إليك، يستعيده" يستعيده، وبهذا يقيمه بوصفه موضوع القصيدة نفسه، سبب وجود القصيدة ذاته، الذي هو دافعها إذا جاز لنا القول·

عن:

 www.CenterforbookCulture.org

طباعة  

إيفو موراليس مع ورقة الكوكا الخضراء
آباؤنا وأمهاتنا لا يعرفون متى ولدوا!