رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 11 أبريل 2007
العدد 1769

مغامرة بين السلالات:
كتب وسموات وشموس وأربعة أحداث مغيرة!

                                            

 

محمد الأسعد:

في العقد الأخير من القرن العشرين صادفت بضعة كتب خلال رحلتي بين العواصم العربية والأجنبية· لا أدري إن كانت كلمة مصادفة دقيقة في هذا السياق، لقد ترافقتْ معرفتي بهذه الكتب مع حدث آخر: اقتلاعي من مكان إقامتي في الكويت بسبب حماقة غزو تهيأت أسبابه منذ السبعينات· يبدو الأمر سببيا، ولكن العجيب أن هذه الكتب جعلتني أعيد النظر في مفاهيم عديدة ليس أبرزها مفهوم السبب والنتيجة أو تعاقب الأزمان والأحداث، بل مفهوم المعنى الأكثر عمقا : معنى أن أكون·

هل هي مراجعة أم إضاءة؟ ما قرأته في هذه الظروف وتحت سموات متنوعة ومناخات متفاوتة بين أمطار وثلوج وشموس، كان يضيء في الحقيقة تاريخي مع القراءة، ويجعل الجهد المتواصل منذ الطفولة شيئا يستحق الاحترام· كان ثمرة لا تـتـنكر للأنساغ، ولا للتافه والضئيل الأهمية، ولا حتى للترجمات الرديئة التي اقتحمت صبايننا وشبابنا، ولا للجهود الفكرية المسروقة التي لم أعرف إلا متأخراً أنها غنائم كتّاب عرب نجوا بها قبل أن نكتشف الموائد الغربية التي تطفلوا عليها· كانت ثمرة ً تحتضن كل هذا وتتجاوزه إلى ما هو أبقى وأكثر نقاء·

سأبدأ بكتاب الطاو في نسخته الإنجليزية· كان هذا الكتاب في متـناولي منذ الستينيات بترجمته العربية الرديئة عن الألمانية لعبد الغفار مكاوي (1967)، ولكنه لم يترك في نفسي آنذاك إلا إحساسا غامضا بأنه كتاب عظيم تعرض لسوء فهم· الترجمة الإنجليزية وحدها للأستاذ ر· ب· بلاكني حملت لي بشائر تجربة الصيني لاوتسو صاحب الطاو في المشهور من القول· ووحدها أثارت في مخيلتي علاقات وأصداء لم تكن ملموسة بين الديانات الشرقية بسبب جناية المنطق اليوناني وثنائية أفلاطون العزيزة على قلوب المبتدئين· ووجدتني أترجم العنوان كتاب الطريق والفضيلة أو طريق الحياة إلى سواء السبيل والهدى مدفوعا بإحساس أن الهدى هي اللفظة المناسبة، وأن سواء السبيل هو الترجمة الدقيقة لصورة الكلمة الصينية (صورة القدم الدالة على المسير ورأس الإنسان الدال على الفكر والنظر)· الطاو ليس طريقا ً أو أي طريق كما جاء في أول سطوره ،بل هو الطريق القويم · وأي صفة أجدر به من صفة سواء السبيل؟

هكذا وجدتني في قلب علاقة ٍ بدأت أتبين ملامحها شيئا فشيئا بين الهدى الإسلامي والهدى الشرقي، سواء كان مصدره الفيدا الهندوسية أو الماهايانا البوذية أو الطاوية، متجاوزا ً الأشكال الاجتماعية ـ التاريخية التي اتخذها هذا الكشف في هذا المجتمع أو ذاك· وتساءلت : ألا يمكن أن تكون التجربة الدينية الأصلية استثارة نور داخلي كامن في الإنسان ذاته؟وأن ما تكشف عنه هذه التجربة لا تعلّـق له بالغزو والمطامع والحروب البشرية ولا بالتسلط على رقاب العباد؟ثم أليس هذا هو جوهر التعليم الشرقي الذي يتخذ فيه المعلّم دور الهادي حامل الضوء لا الآمر الناهي صاحب السطوة ومنظّم الجيوش؟ وهل الدين صقرٌ يصطاد به من صاده أم هو النور الذي يضيء أمام الإنسان ظلمات الوجود ؟

وتبينت معنى آخر مع كتاب الاغتراب للألماني رتشارد شاخت ، ,أيضا عبر الإنجليزية لا العربية· الترجمة العربية لم تسقط سطوراً وفقرات فقط بل ولوتْ أعناق المعاني ليّا ً، وجعلتْ قراءته بالعربية تعذيبا ً لا يطاق· وللحقّ أقول أن كتاب شاخت هذا أضاء في ذهني غوامض فلسفة هيجل وروحه الكوني الشهير، وماركسية ماركس الإنسانية، ووجودية سارتر المتجهمة، وصوفية إرخ فروم العذبة، ومنهجية كارين هورني النفسية ـ الاجتماعية ،بعد أن كانت قد وصلتني في مطلع شبابي مشوّهة على يد مترجمين أدرك الآن حجم الخطايا التي ارتكبوها بحق القارئ العربي· لقد أدركت معنى الاغتراب الملتبس بين شتى التيارات، من أكثرها جدّية (هيجل) الى أكثرها سطحية (سارتر)· وانكشف لي لأول مرة أن للإغتراب معنى أول؛ حين يغترب الإنسان عن ماهيته الحقة (كينونته الشاملة) ويغرق في فرديته منسلخا عن الكل الذي يهبه المعنى، ومعنى ثان ؛ حين يندمج في كلّية شاملة تفقده فرديته (الدولة والنظام البيروقراطي )، ولن أعرف معنى الكلّية الجميل الذي حام هيجل حوله، إلاّ مع كتاب المجتمع الكوانتمي للباحثة دانا زوهار · إنه الكتاب الثالث الذي أضاء ما سبق وأضاف إليه ؛ أضاف معنى للتجربة الروحية وعلاقة الجزء بالكل والفرد بالمجموع وهو يستنبط معنى الشخصية الانبثاقية من عوالم الفيزياء ومتضمناتها الفلسفية والاجتماعية· عالم الشخصية هنا هو عالم الممكن والمتعدد وغير المحتم، حيث السيادة للسياق على المعنى الجاهز، وحيث تتمثل الموجودات خارجة من بحر ممكنات· وفتحت لي هذه المفاهيم مغاليق كانت قبل ذلك مبهمة في الثقافة والتاريخ والخلق الفني والعلاقات الإنسانية· الأكثر أهمية أنها كشفت عن أصول عبودية البشرية للحقيقة الواحدة، وعن القيد الحديدي الذي أورثتنا إياه الثنائية الميكانيكية بخيارها بين إما/أو، فحولت حياتنا إلى متاهة مغلقة نتصادم فيها أفرادا وجماعات وعقائد وأفكاراً من دون أن نجد خيطا يقود إلى خارج المتاهة·

كان كتاب المجتمع الكوانتمي خيطي أو خيط إريادني الأسطورية، مع فارق أن الوحش الذي يجب أن نصرعه قابعاً في داخلنا· واستيقظت على معنى عبارة نحن حوار للشاعر الألماني هولدرن، ليس كما فهمها هيدغر السجين في نقطة ماء، بل كما أدركها أنا هكذا: أنا وأنت وما نملك ليس سوى حقائق غير محدّدة، وحوارنا، أي علاقتنا وتطورنا خلال العلاقة، هو الذي يدفع بها إلى أن تتمثل، فتجيئ من قلب لاتحدّدنا منبثقة غير مسبوقة· لسنا مواقف جاهزة بأي معنى من المعاني، لا بفرحنا ولا برعبنا، لا بحبنا ولا بحقدنا، بل نحن حوار، أي ممكنات بكل ما يتضمنه هذا من احترام لكينونة الكائنات وحقها في الوجود بالتساوي، بدءا من النجم ومروراً بالإنسان ووصولا إلى الحجر·

هنا وعند هذه التقاطعات جاءني الكتاب الرابع، كتاب قصيدة الهايكو اليابانية للأستاذ كينيث ياسودا من اليابان كأنما كنا على موعد· فجاءت وحدة الكون كما تتمثلها عقيدة الزن البوذية في أصفى صورها الشعرية، أو جاء الشعر في ضوئها بأكثر صوره نقاءً : وحدة الإنسان والطبيعة، والطبيعة والإنسان، والأرض والسماء· وبالصورة وحدها حيث لا يمكن التعبير عن هذه الوحدة العليا فوق مستوى الواقع الظاهر إلاّ بالصورة· وأضاءت الهايكو ببساطة خلابة ما انتحلته السريالية (نقلا عن الحدس الشرقي) وحاولت الوصول إليه عبثا· وتلاشت الثنائية من أفق تفكيري، ولم تعد الأشياء إما هذا أو ذاك ، بل أصبحت هذا وذاك وأشياء أخرى· ما عدت أرى الأشياء إلاّ في شبكة من واقع أعمق (ينسبه البشر إلى حكمة إلهيّة لا تدركها الأفهام والأبصار) حيث لا داخل ولا خارج ولا فوق ولا تحت· وهكذا، بدل أن يجد المطارد والطريدة نسقهما المشترك بين النجوم، كما يقول ت·س·إليوت في رباعياته، بعد رحلة أرضية يتبع فيها كل واحد منهما نسقه الخاص، أصبحت أرى إمكانية أن يجدا الوفاق والنسق المشترك على الأرض، وأن خصوصية الأنساق على الأرض ليست مبدأ اونطولوجيا (مبدأ وجود) بل هي اختراع ذهني لا تعرفه الأرض، الأرض التي أبكت نيتشة لفرط براءتها·

في تجربة القراءة هذه تجدون أربعة أحداث كيميائية مغيّرة؛ ديني وفلسفي وفيزيائي وفني· وكلها ذو فرادة إلاّ أنها تتكامل في أفق أوسع· دعوني أقل مع برديائيف إنه أفق يستشرف سرّ الوجود· هل أقول إن هذا الأفق هو الذي جعلني أعيد استصفاء الماضي، فأحتضنه وأتجاوزه على حد سواء؟ يقال أن الكشوفات المغيّرة لا تجيئ إلاّ في سنوات النضج، أي حين يصبح الإنسان راغبا بل وقادراً على الإطلال من النوافذ كلها على مشهد العالم من دون أن يشعر بالتناقض، ولكن ألا تعلمني هذه القراءات، أو التجارب بالأحرى، شيئا جوهريا: إن التناقض والالتباس سرّ الخصب؟أليس هذا اعتناقا لمبدأ اللا تحدّد واللا يقين والسياقية ونبذ مبدأ الجاهز والواحد و العصبية؟

لم يولد كل شئ بعد· إنه يولد بنا ومعنا في ديمومة متواصلة· الوجود متجدّد لا يتوقف عن التجدّد، سواء تمثّلنا فيه بشرا ً أو رجعنا إلى بحره المتموّج الحي· لقد غيّرتني هذه الكتب الأربعة، وقدمتْ تبريرا وجوديا لانعدام خوفي من الموت منذ الطفولة، فكأنها أخرجتني من كهف الظلال الأفلاطوني، فأصبحت قادرا على إدراك عالم لا يدركه سجناء الكهف المشدودون إلى الظلال المتحركة على الجدار، وقادرا على الاستخفاف أيضا بالزهو الباطل والجوائز الطريفة التي يحظى بها المتسابقون في عالم الظلال، وقادرا، وهذا هو الأهم، على الضحك·

طباعة  

الاستخدام السياسي للأدب... أين الصواب وأين الخطأ؟