رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 11 أبريل 2007
العدد 1769

الاستخدام السياسي للأدب... أين الصواب وأين الخطأ؟

                                                                   

 

إيتالو كالفينو*

حين تسلمت الدعوة للحديث هنا في ندوتكم، تبادرت إلى ذهني فكرة تراودني دائما في مثل هذه المناسبات حاولت أن أتذكر إن كانت لدي ورقة جاهزة في موضوع الأدب والسياسة، مساهمة ما في واحدة من المناقشات العديدة حول هذا الموضوع· وأدركت أنني لا أمتلك شيئا جاهزا، فلم يحدث طيلة سنوات أنني كتبت أو قلت شيئا في هذا الموضوع·

وها أنا الآن أفكر فيه ويا للغرابة· في سنوات شبابي من العام 1945 فصاعدا، وخلال الخمسينات وما بعدها، كانت المشاكل المهيمنة آنذاك معنية بالعلاقات بين الكاتب والسياسة· بل ويمكنني القول إن كل نقاش دار حول هذه النقطة· ويمكن أن يعرف جيلي بوصفه جيلا بدأ بالاهتمام بالأدب والسياسة في وقت واحد معا·

من جانب آخر، غالبا ما اعتراني اهتمام في السنوات الأخيرة بكيفية سير الأمور في السياسة، وكيفية سيرها في الأدب، ولكن حين كنت أفكر بالسياسة كنت أفكر بالسياسة، وحيث أفكر بالأدب كنت أفكر بالأدب· وحين أواجه هذين المجالين المشكلين اليوم، أشعر بإحساسين منفصلين تماما، وكلاهما إحساس بالخواء: فقدان برنامج سياسي أستطيع الإيمان به، وفقدان برنامج أدبي أستطيع الإيمان به·

ولكنني أعي على مستوى أعمق أن العقدة الرابطة للعلاقات بين السياسة والأدب، تلك التي واجهناها في شبابنا، لم تحل بعد، وأن أطرافها المهترئة أو المتغضنة لا تزال تتشابك حول كواحلنا·

لقد غير ما حدث في الستينات تغييرا عميقا الكثير من المفاهيم التي كنا نتعامل معها، حتى وإن كنا مازلنا نطلق عليها الأسماء ذاتها· ولا نعرف حتى الآن ما الذي سيعنيه كل هذا بتعابير النتائج النهائية على مستقبل مجتمعنا، إلا أننا نعرف سلفا أن هناك ثورة عقل ونقط انعطاف فكرية·

وإذا كان علينا أن نقدم تعريفا موجزا لهذه العملية، يمكننا القول إن فكرة الإنسان بوصفه موضوع التاريخ قد انتهت· صحيح أن الخصم الذي أسقطه عن عرشه مازال يدعى إنسانا، ولكنه إنسان مختلف اختلافا تاما عما كان عليه من قبل· وهو ما يمكن أن نقول إنه العرق الإنساني "للأعداد الكبيرة" في حالة تنام رياضي في مختلف أنحاء الكوكب، إنه انفجار المدن الكبرى، وعدم قابلية حكم المجتمع والاقتصاد، بغض النظر إلى أي نظام تنتمي، ونهاية النزعة المركزية الأوروبية الأيديولوجية والاقتصادية، وامتلاك المنبوذين والمضطهدين والمنسيين والمهمشين الحقوق كاملة·

لقد أصبحت كل التصنيفات والمقاييس والنقائض التي اعتدنا ذات يوم على استخدامها في تخطيط وتصنيف العالم موضع تساؤل·

وليس فقط تلك الوثيقة الصلة بالقيم التاريخية، بل حتى تلك التي بدت تصنيفات انثروبولوجية تارة (العقل والأسطورة، العمل والوجود، الذكر والأنثى) بل حتى قطبية أكثر تراكيب الكلمات أولية: التأكيد والنفي، الأعلى والأسفل، الذات والموضوع·

 

هجوم الطليعة

 

إن ما يقلقني بشأن السياسة والأدب في هذه السنوات الأخيرة لذي علاقة بعدم وفائها بالمهمات التي تفرضها هذه التغيرات على أذهاننا· ربما علي أن أبدأ بتقديم تعريف أفضل للوضعية في عالم مصغر محلي، أعني الأدب الإيطالي، لأفسر أية أمواج مدّ مستجدة جاءت إلينا من الستينات·

خلال الخمسينات طمح الأدب الإيطالي، والرواية بشكل خاص، نحو تمثيل ضمير إيطاليا المعاصرة الأخلاقي والاجتماعي· وهوجم هذا الزعم خلال الستينات على جبهتين· فعلى جبهة الشكل الأدبي، أو بالأحرى على جبهة لم تكن مجرد شكلية بل متعلقة بأسس المعرفة، حركة الطليعة الجديدة هي التي هاجمت ووضعت الرواية الإيطالية موضع تساؤل، واتهمتها بالميوعة العاطفية والموات ونزعة التسلية· ولا يمكن أن يمثل الحياة المعاصرة ويبدد الأوهام سوى اقتحام عنيف في لغة وفضاء وزمان الرواية·

في هذا الوقت ذاته، وفي أوساط النقد الملتزم سياسيا، هاجم أكثر النقاد تطرفا ودمروا الادعاء بالنمذجة التي يقدمها الأدب الملتزم واتهموه بالنزعة الشعبوية·

ومن هنا، وعلى هذه الجبهة أيضا، كانت الأرض مهيأة لانتقام حركة الطليعة، أو على الأقل لأدب النقض، أي لطريقة التفكير في الأدب التي لا تزعم تقديم أي مواعظ إيجابية، ولكن أن تكون مجرد تعيين للنقطة التي نقف عندها·

إلى جانب هاتين القوتين المهاجمتين، لابد أن أشير الآن إلى قوة ثالثة، لا تقل عنهما أهمية· فقد كانت أرضية الأدب الإيطالي الثقافية تمر بتحول كامل، حيث أصبحت الألسنية ونظرية المعلومات وعلم اجتماع الوسائط الجماهيرية وعلم الأعراق البشرية وعلم الأناسة (الأنثروبولوجيا) والدراسة البنيوية للأساطير وعلم الدلالات، والاستخدام الجديد للتحليل النفسي وللماركسية، أدوات تستخدم اعتياديا لتفكيك موضوع أدبي وتجزئته إلى عناصره المكونة له·

وأعتقد أنه في هذه اللحظة وجد الأدب نفسه في وضعية أغنى بالوعود من أي وضعية سبق وأن حظي بها· لقد تم تنظيف الأرض من كل أنواع سوء الفهم التي أثقلت مناقشات سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية· ربما كان هذا التفكيك للعمل الأدبي يفتح الطريق نحو تقييم جديد وبناء جديد· فماذا نتج عنه؟ لا شيء - أو بالتحديد نقيض الآمال المعلقة عليه - وكانت الأسباب تقع خارج وداخل الحركة الأدبية ذاتها على حد سواء·

كان من علائم التطرف السياسي الجديد للطلبة في العام 1968 في إيطاليا رفضه للأدب· لم يكن الأمر تطلب أدب رافض، بل كان رفضا للأدب· اتهم الأدب في المقام الأول بكونه مضيعة للوقت بالمقارنة مع الأمر الوحيد ذي الأهمية: الفعل· ولم يفهم إلا ببطء شديد أن مذهب الفعل كان مبدئيا وحتى النهاية أسطورة أدبية قديمة·

وأود القول بأن هذ النهج لم يكن خطأ بكليته· فهو على رغم الرفض لما هو هزيل، لما يدعى الأدب الاجتماعي، رفض للتشبث بفكرة عنيدة عن الكاتب الملتزم· وهكذا جعلنا هذا الرفض بهذه الطريقة، أو تلك أكثر قربا من تقييم ملائم لوظيفة الأدب الاجتماعية أكثر قربا بكثير من أي مذهب أدب تقليدي متصلب·

ولكنه كان أيضا، وأنا أتحدث بصيغة الفعل الماضي لأنني أعتقد أن شيئا ما تغير الآن، علامة على محدودية الذات، وعلى آفاق ضيقة، وعلى انعدام القدرة على إدراك تعقيد الأشياء·

 

علامات سيئة

 

حين يمنح السياسيون والناس المسيسون انتباها مبالغا فيه للأدب، فهذه علامة سيئة، علامة سيئة بالنسبة للأدب، على الأغلب، لأن الأدب عندها يكون في خطر بالغ· إلا أنها علامة سيئة أيضا حين لا يريدون سماع إشارة إلى كلمة الأدب، وهو ما يحدث مع غالبية السياسيين البرجوازيين البلداء تقليديا، كما يحدث مع غالبية الثوريين الأيديولوجيين· هذا أسوأ علامة بالنسبة لهؤلاء، لأنهم يظهرون أنفسهم خائفين من أي استخدام للغة يضع يقينيات لغتهم موضع تساؤل·

في كل الحالات لم يحدث لقاء بين الطليعتين الجديدتين، الأدبية والسياسية· وعانت الطليعة الأدبية من خسارة احتياطياتها الممكنة من القراء التي تطلعت إليها، وسرعان ما تسلل كتاب الخمسينات المهزومون واحتلوا مقاعدهم· ففي الأدب لا يمكن أن تظل الأماكن شاغرة زمنا طويلا من دون أن يحتلها وفق أسوأ الافتراضات، كتاب رديئون وفي أفضل الأحوال، كتاب تقليديون·

في السنوات الأخيرة أخفقت كل وجهات النظر المبسطة سياسيا، وتنامى وعينا بتعقيدات المجتمع الذي نعيش فيه، حتى وإن لم يستطع أحد الادعاء بوجود حل في حينه· واليوم الوضع في إيطاليا في حالة تدهور وفساد في إطارنا المؤسساتي من جانب، وهو نضج جماعي يتنامى وبحث عن طرق نحكم بها أنفسنا من جانب آخر·

فما هو مكان الأدب في وضعية مثل هذه؟

على الاعتراف بأن الوضع هنا لا يقل تشوشا عنه في مجال السياسة، هناك جمهور مكثف على صعيد الأمة للرواية الإيطالية، وبخاصة حين تتعامل مع السياسة الراهنة أو التاريخ، ليس بأسلوب الثلاثين عاما الماضية التعليمي، بل بوصفهما مجموعة من المشكلات·

من جانب آخر، هناك فقط وسائط الإعلام الجماهيرية التي تحث الكاتب على الكتابة للصحف، وعلى المشاركة في برامج الحوار التلفازية، وعلى طرح رأيه في أي شيء يمكن أن يعرفه أو لا يعرفه· لقد منح الكاتب فرصة ليملأ الفراغ المتروك فارغا من قبل أي نقاش سياسي مفهوم· ولكن اتضح أن هذه المهمة أصبحت بالغة السهولة (من السهولة بمكان إصدار تعميمات من دون أن يكون لديك أي مسؤولية عملية)، بينما من الواجب أن تكون هذه المهمة من أصعب المهمات التي يمكن أن يباشرها كاتب· إذ كلما أصبحت لغة السياسة مترهلة وتجريدية، كلما تزايد وعينا بمطلب ضمني للغة مختلفة، مباشرة وشخصية أكثر· ومحرضة أكثر أيضا· والتحريض هو الوظيفة المطلوبة أكثر في إيطاليا الراهنة· إن حياة وموت، وما بعد حياة المخرج السينمائي "بازوليني" كرست الدور التحريضي للكاتب·

في كل هذا هنالك خطأ أساس· ما نطلبه من الكتاب هو أن يضمنوا نجاة ما ندعوه "الإنساني" في عالم يبدو فيه كل شيء غير إنساني، ضمان نجاة الخطاب الإنساني ليكون عزاء لنا بفقدان الإنسانية في كل خطاب آخر وعلاقة· فما الذي نعنيه بالإنساني؟ عادة، أي شيء عاطفي وفريد وحساس وليس صارما على الإطلاق· من الصعب جدا العثور على من يؤمن بتزمت الأدب، متفوق ومعارض لصرامة اللغة الزائفة التي تدير شؤون العالم اليوم·

في هذا العام منحت جائزة نوبل للآداب للشاعر "بوجينو مونتالي"، ولكن القلة الآن تتذكر أن قوة شعره اعتمدت دائما على حفاظه على صوته خفيضا من دون تشديد من أي نوع، وعلى استخدامه نغمات متواضعة وشكاكة· لهذا السبب بالتحديد جعل من نفسه مسموعا لدى الكثيرين، وامتلك حضوره تأثيرا عظيما على ثلاثة أجيال من القراء· هذه هي الطريقة التي يشق فيها الأدب أنفاقه قدما، وعلى هذا النحو يمارس "فعاليته" و"سلطته"، إن كان لهما أن يوجدا·

ولكن المجتمع اليوم يطلب من الكاتب أن يرفع صوته إذا أراد أن يُسمع، أن يطرح أفكارا ستؤثر على الجمهور، أن يدفع كل ردود أفعاله الغرائزية إلى أقصاها· ولكن حتى أكثر الأقوال تفجرا وحسية تمر فوق رؤوس القراء، وكلها وكأنها لا شيء، مثل صوت الرياح· أي تعليق لا يبدو أنه أكثر من هزة رأس، كما لو أنه صادر رعن صبي متمرد· كل إنسان يعرف أن الكلمات ليست سوى كلمات، وأنها لا تنتج احتكاكا بالعالم من حولنا: إنها لا تتضمن خطرا لا على القارىء ولا على الكاتب· وفي محيط الكلمات، سواء كانت مطبوعة أو مذاعة، تبتلع كلمات الشاعر أو الكاتب·

 

طريقتان على خطأ

 

وهذه هي مفارقة قوة الأدب أو سلطته: يبدو أنها فقط حين تضطهد تظهر قواها الحقيقية، متحدية السلطات، بينما الشعور السائد في مجتمعنا المتساهل أنها مستخدمة لمجرد خلق مسرات عابرة في تباين مع الحشو اللفظي الشائع· (ومع ذلك - هل علينا أن نكون بالغي الجنون إلى حد التذمر منها؟ وهل سيكون حتى للدكتاتوريين أن يدركوا أن أفضل طريقة لتحرير أنفسهم من مخاطر الكلمة المكتوبة هو معاملتها على أنها لا في العير ولا النفير!)·

علينا في المقام الأول أن نتذكر أنه أينما اضطهد الكتاب، فإن هذا لا يعني فقط أن الأدب مضطهد، بل هناك أيضا حظر على العديد من أنواع الفكر والنقاش الأخرى (والفكر السياسي في المقدمة)· في مثل هذه البلدان تكتسب الرواية والشعر والنقد الأدبي جاذبية سياسية معينة غير عادية، بالقدر الذي تمنح فيه صوتا لكل أولئك المحرومين من أحد هذه الأنواع· ونحن الذين نعيش في حالة حرية أدبية واعون بأن هذه الحرية تعني حتما أن مجتمعا في حالة حركة، تتغير فيه أشياء كثيرة (سواء نحو الأفضل أو الأسوأ، هذه مشكلة أخرى) في هذه الحالة أيضا، المطروح هو العلاقة بين رسالة الأدب والمجتمع، أو بتحديد أكثر، بين الرسالة وخلق ممكن لمجتمع يتسلمها· وهذه الصلة هي المأخوذة في الحسبان، وليس الصلة بالسلطة السياسية، فالآن لا يستطيع الذين في الحكم الزعم بأنهم يمسكون بزمام المجتمع، سواء في النظم الديمقراطية أو النظم السلطوية يمينية أو يسارية· الأدب هو أحد أدوات وعي المجتمع لذاته، وبالتأكيد هو ليس الأداة الوحيدة، إلا أنه مع ذلك أداة أساسية، لأن منابعه مرتبطة بأصول مختلف أنواع المعارف ومختلف أنواع الشيفرات، ومختلف أشكال التفكير النقدي·

وبكلمة واحدة، ما أعتقده هو أن هناك طريقتين خاطئتين في التفكير بالاستخدام السياسي للأدب· الأولى هي الزعم بأن الأدب يجب أن يقول حقيقة تمتلكها السياسة سلفا، أي الاعتقاد بأن جماع القيم السياسية هي الأمر الأولى الذي يجب أن يكيف الأدب نفسها معها· ويتضمن هذا الرأي فكرة عن الأدب بوصفه حيلة أو أمرا نافلا غير ضروري، إلا أنه يتضمن أيضا فكرة عن السياسة بوصفها ثابتا مكتفيا بذاته، وهي فكرة يمكن أن تكون كارثية· وأعتقد أن وظيفة تعليمية مثل هذه لا يمكن تخيلها إلا على مستوى الأدب الرديء والسياسة الرديئة·

الطريقة الخطأ الأخرى هي تلك التي تنظر إلى الأدب على أنه إعادة تنسيق للعواطف الإنسانية الخالدة، على أنه الحقيقة للغة إنسانية تميل السياسة إلى القفز فوقها، ومن هنا يجب تذكرها من وقت لآخر· من الواضح أن هذا المفهوم يفسح مجالا أوسع للأدب، إلا أنه عمليا يحدد له مهمة تأكيد ما هو معروف سلفا، خلف طريقة التفكير هذه تكمن فكرة وجود مجموعة قيم قائمة الأدب مسؤول عن الحفاظ عليها، فكرة الأدب الكلاسيكي الثابتة بوصفه مستودع حقيقة معينة· فإذا وافق الأدب على أخذ هذا الدور، فسيقيد نفسه بوظيفة التعزية والحفاظ والنكوص، وهي وظيفة أعتقد أنها تسبب من الأذى أكثر مما تجلب من الخير·

هل معنى هذا أن كل استخدام سياسي للأدب خطأ؟، لا أعتقد كما أن هناك طريقين خاطئين في الاستخدام، هنالك طريقان صحيحان أيضا·

في المقام الأول، الأدب ضروري للسياسة حين يمنح صوتا لأي شيء بلا صوت! وحين يعطي اسما لما لا يزال بلا اسم، وبخاصة لما تقصيه لغة السياسة أو تحاول إقصاؤه· وأعني بهذا جوانب وأوضاع ولغات العالم الداخلي والخارجي على حد سواء، الميول التي تقمع في الأفراد والمجتمع على حد سواء· الأدب يشبه أذنا تستطيع سماع أشياء أبعد من فهم لغة السياسة، إنه مثل عين يمكن أن تشاهد ما هو أبعد من ألوان الطيف الذي تدركه السياسة· الكاتب، لمجرد فردية عمله المنعزلة وبسببها، ربما يحدث أن يستكشف مناطق لم يستكشفها أحد من قبل، في نفسه وخارجها، ويحدث أن يحقق اكتشافات تتحول عاجلا أو آجلا إلى مناطق حيوية بالنسبة للوعي الجماعي·

 

تربية الأدب

 

ويظل هذا استخداما للأدب غير مباشر وغير متعمد وتصادفي· الكاتب يتبع طريقه هو، ويقوده الحظ أو العوامل الاجتماعية والنفسية إلى اكتشاف شيء ما قد يصبح مهما للعمل الاجتماعي والسياسي كذلك· ومن مسؤوليات المراقب الاجتماعي - السياسي أن لا يترك أي شيء للمصادفة، وأن يطبق منهجه على الشأن الأدبي بطريقة لا تسمح لأي شيء بالإفلات من متابعته·

ولكن هناك أيضا، كما أعتقد، نوع آخر من النفوذ يمكن أن يمارسه الأدب، ربما هو ليس أكثر مباشرة إلا أنه أمر مقصود من جانب الكاتب·

ذلك هو القدرة على فرض أنماط من اللغة والرؤى أو المخيلة والجهد العقلي والعلاقة بين الوقائع، وباختصار، أنماط من الخلق (وأعني بالخلق الانتقاء والتنظيم) لنموذج من القيم هي جمالية وأخلاقية، في وقت واحد معا، جوهرية بالنسبة لأي خطة عمل، وبخاصة في الحياة السياسية·

وهكذا، أجدني بعد إقصاء التربية السياسية عن وظائف الأدب، مدفوعا إلى القول بأنني أؤمن بنمط من التربية بوسائل الأدب، نمط تربية، لا يمكن أن يجيء بنتائج إلا إذا كان صعبا وغير مباشر، وإلا إذا تضمن مكسبا صعبا للإقناع الأدبي، أي نتيجة يحققها الأدب، ما دامت مقنعة وصارمة، ربما اعتبرت أرضا صلبة لكل الأنشطة العملية لأي شخص يطمح إلى بناء نظام فكري صلب ومعقد بحيث يكفي لاحتواء اختلال العالم في نطاقه، ولكل شخص يستهدف إنشاء منهج مرهف ومرن بما فيه الكفاية ليكون الأمر ذاته كغياب لأي منهج مهما كان·

لقد تحدثت حتى الآن عن استخدامين صحيحين، ولكنني سأنظر الآن في استخدام ثالث يتصل بالنهج النقدي الذي يتعلق بالأدب نفسه· ولئن عُد الأدب يوما كمرآة مرفوعة في مواجهة العالم، أو كتعبير مباشر عن المشاعر، فنحن الآن لم نعد نستطيع تجاهل حقيقة أن الكتب مصنوعة من كلمات وعلامات ومناهج بناء· إننا لا نستطيع أبدا نسيان أن ما توصله الكتب يظل غالبا مجهولا حتى بالنسبة للمؤلف ذاته، وأن الكتب تقول في غالب الأحوال شيئا مختلفا عما وضعت لقوله، وأنه في أي كتاب يوجد جزء هو جزء للمؤلف وجزء هو عمل جماعي مجهول الكاتب·

هذا النوع من الوعي لا يؤثر على الأدب وحده، إنه يمكن أن يكون مفيدا أيضا للسياسة، ويمكن هذا العلم من اكتشاف إن الكثير منه ليس سوى إنشاء لفظي وأسطورة و"مواقع" أدبية· السياسة مثل الأدب، يجب أن تعرف نفسها قبل كل شيء وأن لا تثق بنفسها·

وملحوظة أخيرة··· على أن أضيف أنه إذا كان من المحال اليوم لأي شخص الشعور بالبراءة، وأننا في أي شيء نفعله أو نقوله نستطيع اكتشاف حافز خفي، (حافز رجل أبيض، أو ذكر، أو صاحب دخل معين، أو عضو نظام اقتصادي معين، أو إنسانا يعاني من نوبة عصبية معينة) فإن كل هذا لا يجب أن يثير فينا لا إحساسا شاملا بالذنب أو نهج اتهام شامل· حين نصبح واعين بمرضنا أو بحوافزنا الخفية، نكون قد بدأنا سلفا بالحصول على أفضل ما فيها، ما يهم الطريقة التي نقبل بها حوافزنا والعيش عبر الأزمة الناشبة· هذه هي الفرصة الوحيدة التي لدينا لنصبح مختلفين عن الطريقة التي نحن فيها، أي الطريقة الوحيدة لنبدأ بابتكار طريقة وجود جديدة·

* من محاضرات كتاب "الاستخدام السياسي

الخطأ والصائب للأدب"·

طباعة  

مغامرة بين السلالات:
كتب وسموات وشموس وأربعة أحداث مغيرة!