كتب مظفر عبدالله:
لماذا أصبح موضوع الحجاب مشكلة في العديد من المجتمعات الشرقية والغربية التي تقطنها جموع مهاجرة من الاضطهاد والعنف والفقر؟ ولماذا أصبح مادة سياسية ومثيرة في قاموس وزراء خارجية ورؤساء حكومات دول الغرب؟ لماذا يتم فرض الحجاب على النساء في دول كإيران والسعودية وأفغانستان، فيما تطالب حكومات دول أخرى ومنها عربية وإسلامية خلعه في دور التعليم وأماكن العمل، كما هو الحال في تونس وتركيا لأنه يخالف "الأصول العلمانية ومتطلبات التنمية"؟ هذا عدا الدول الأوروبية التي تصاعد الحديث عن الحجاب فيها في السنوات الأخيرة كفرنسا وهولندا وبريطانيا ودول أخرى؟
لماذا كل هذه الجلبة المصاحبة للحجاب؟!
الظاهرة... وتعدد الأسباب
قد لا يقودنا الكشف عن مواقف الحكومات المختلفة التي تتعاطى مع هذا الموضوع الى أي نتيجة تفسر ظاهرة انتشاره في السنوات الأخيرة، ومن المؤكد أيضاً أن اتخاذ موقف مسبق من الحجاب أو تأييد طرف ضد آخر بشأنه لن يدلنا على فهم هذه الظاهرة، وهي ظاهرة بحق، لأن الحجاب فيما نرى اليوم لم يعد يعني معناً واحداً في كل المجتمعات·· ليس وراءه الحشمة فقط·· وليس وراءه الضغط العائلي أو الجو الاجتماعي، بل تتعدد الأسباب أو تجتمع من وراء ارتدائه، وحري بالباحثين اليوم تتبع مسار هذه القضية لأن ارتباطاتها أصبحت متنوعة فمنها السياسي، والقيمي، والسلوك الاستهلاكي، والرغبة في مناكفة الآخر، أو توصيل الرسائل أو إثبات الوجود، بل ومن بينها الخوف وتوتر الوضع الأمني والانهيار الاجتماعي، كما هو حاصل في العراق اليوم·
وقد يكشف تتبع مسارات الأحداث بعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر وتفجيرات لندن طبيعة العلاقة بين الجاليات المسلمة مع القانون والتفاعل السلوكي في المجتمعات الغربية عامة، يتطلب ذلك دراسة رد الفعل العنيف الذي طال كل إشارة الى ما هو ديني من قبل الأجهزة الرسمية في تلك الدول، والذي اعتبره المسلمون أنه توجهاً نحو تقليص الحريات التي لم يحلموا بها يوماً في بلدانهم الأصلية، إضافة الى فهم رد الفعل الإسلامي تجاه ذلك العنف المؤسسي، والذي اعتبره رجل الدين السوري المقيم في بريطانيا عمر بكري بأنه "جنون كامل" وتحريض على الكره الديني والعنصرية·
خصوصية المكان والظروف
نعود لموضوع أسباب انتشار ظاهرة الحجاب في بعض المجتمعات لتلمس (خصوصية هذا الانتشار)·
في مصر، يفسر الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية بمركز الأهرام، نبيل عبدالفتاح انتشار الحجاب في الأرياف بأنه "مواجهة للفقر" لدى الفئات الوسطى·· أي أنه أصبح يعبر عن قناع اجتماعي يخفي من ورائه العسر·· وفي المدن يراه عبدالفتاح، نوعاً من استعراض للتدين الظاهري مع الأخذ في الاعتبار الانتشار الواسع للفساد بكافة أشكاله - لاسيما الأخلاقي - في أكثر من مجال معاشي وحياتي يومي·
وفي محاولة لسبر تاريخ (احتشام المرأة) تقول سوزانة إندرفيتز الباحثة في الدراسات الإسلامية في جامعة هايد لبرج بألمانيا أن الفلاحات وغير أهل المدينة لم يكن يلبسن الخمار لأنه كان حكراً على نساء الطبقات الغنية·· وبعد عقدين من نشر قاسم أمين المصلح المصري المعروف، لكتابيه (تحرير المرأة) و(المرأة الجديدة) وضعت نساء الطبقة الغنية حجابهن وشاركن في تظاهرات ثورة 1952·
لكن نكسة 1967 غيرت الوضع·· وساعد على هذا التغيير تقريب السادات للحركات الإسلامية، وظهر حجاب المرأة مرة أخرى بشكل أقوى، ربما لأن الأمر أصبح مختلطاً بالكثير من السياسة وحراكها في المجتمع المصري·
إذاً نتحدث هنا وفيما مضى عن تعبير اجتماعي للحجاب، فيما هو اليوم مقياس إسلامي على رغم اتخاذه لأشكال مختلفة·
في فلسطين ولبنان، قد يكون انتشار الحجاب سبباً لما يسمى بـ"فقدان الحل"·· فها هي القضية الفلسطينية ترزح تحت أكثر من ستة عقود ضائعة من حياة الفلسطينيين، دون بارقة أمل للتعايش في صيغة دولتين· أما الحرب الأهلية في لبنان فلا تزال شروطها حاضرة في شكل بركان خامد بعد تداعيات الخروج السوري من الأراضي اللبنانية، وما جرى من أحداث دراماتيكية بعدها·
في الحالة الإيرانية فان التعبير عن الحجاب إيديولوجي بحت، فهو مفروض على الجميع برسم من القوانين المحلية، ويأتي ضمن حزمة من مستلزمات استكمال شكل الدولة الإسلامية ذات "الشخصية المستقلة" الراديكالية والمتطلعة للتغيير دون حساب لقوة الآخر· ويقترب هذا النموذج من الشكل السعودي في انتشار الاحتشام من حيث أنها مفروضة على الجميع، فيما الاختلاف يظهر واضحاً في عدم استغلال المملكة هذا الموضوع أو توظيفه سياسياً أو استخدامه للخطاب مع الآخر·
في تركيا يرى الكاتب عمر أرزيرين، أن الحجاب يعني "رمز سياسي" للحركات الإسلامية في بعض الجامعات· ويأتي استقواء هذا الرمز نتيجة (العنف العلماني) تجاه المد الديني الذي لم يكن مستتراً يوماً في تركيا رغم مجيئ نسق فكري مغاير لما كانت عليه (الدولة العثمانية)، ونقصد هنا نسق أتاتورك·
وفي تركيا، كما هو في تونس تقود الدولة عنفاً علمانياً تجاه الحجاب، وهو ما يكسب المعارضة الإسلامية جاذبية لجهة توجهاتها السياسية والاجتماعية· ومن فرط هذا العنف القادم من الدولة وأجهزتها يشتكي رئيس الوزراء التركي طيب رجب أردوغان من أن ابنتيه تدرسان في أمريكا بسبب أنهن محجبات!!
مسألة خلافية
وفيما ترى الشاعرة والمخرجة المصرية صفاء فتحي إن الحجاب مجرد "صدى لما يحدث في خارج العالم العربي"، كباكستان وأفغانستان، وأنه أصبح "دمغة" للانتماء الى جماعة، ويرى المفكر العربي البحريني محمد جابر الأنصاري أنه - أي الحجاب - يلعب دوراً في المعارضة الاجتماعية (إيران الخميني - الجزائر)، فيما يشكل مسألة خلافية حتى في شكله لأن المسألة في جوهرها الاحتشام "المفهوم" وليس الحجاب "الملبس"، فهناك حرص قرآني على الفضيلة·
في اليمن، الجنوبي تحديداً والذي كان اشتراكيا فإن ارتداء الحجاب لم يكن ظاهرة، لكنه انتشر بفعل فكر وهابي وجلب معه العباءة السوداء التي تغطي كامل الجسم·· وهو اللباس الذي بدأ ينتشر في بلدان خليجية عرف عنها الانفتاح قبل 3 عقود من الزمن كالكويت والبحرين·
فراس زبيب، الكاتب الصحافي اللبناني يشخص "زي الحشمة" بما يتناسب والجو الاجتماعي اللبناني "المستريح"·· يقول فراس، إن المحجبة اللبنانية لا تتقيد - ولا يفرض عليها - الالتزام الكامل بالدين، وهي اليوم لم تعد خارج الموضة، وهو - أي الحجاب - لم يعد مدعاة لتغيير الحياة اليومية للنساء، كما أن فتيات الجامعة لا يكرسن باقي الجسد لمتطلبات الحجاب، وهي بالتالي لا تمتنع من عرض مفاتنها لغير الزوج، وباتت محلات بيع الملابس النسائية تتسابق في عرض أكثر من شكل وموضة للحجاب وما على الفتيات إلا اختيار ما يلبي مفهوم الاحتشام لديهن·
العراق... كله محجب
في العراق يبدو الأمر أكثر إثارة، فالتحجب لازم الحالة الإثنية والطائفية والعبث من قبل حكومتي العراق وواشنطن بمقدرات الشعب العراقي·· يقول أحد الكتاب العراقيين، وهو جمال محمد تقي، في وصف كاريكاتوري للحالة هناك "إن الرجال قبل النساء تحجبوا بواسطة إطلاق العنان للحاهم أو التلثم لارتياد الحسينيات أو المساجد على غير عادتهم محاباة للميليشيات وخوفا من سطوتها"!!
فإذا كان الأمر بهذه الصورة فكيف حال المرأة؟ عراق اليوم يكتنفه الخوف·· الخوف من كل شيء، الجوع، القتل، التهجير، المصادرة، التخوين، فماذا عساها المرأة فاعلة في مثل هذه الأجواء؟
الإرهاب أصبح مصدر قلق سافرات عراق اليوم، فطالبات الاعدادية أصبحن يلبسن العباءة السوداء والحجاب خوفاً من القتل على الزي!، بل وصل الأمر أن هناك أزياء ذات ألوان معينة تسود مناطق دون أخرى لتعبر عن طائفة أو فريق، فالخمار الأسود سمة أزياء قاطني الطرف الغربي من بغداد مثلاً·
الكاتب جمال تقي، يرسم صورة مختصرة ذات دلالة عن الوضع العراقي عندما يقول في مقالة (العراق المحجب) أن "الحجاب والنقاب والقناع زي موحد يشترك فيه كل العراقيين نساء ورجالاً، رجال مقاومة، وعملاء، سنة وشيعة، كرداً وتركمانا، مسلمين، ومسيحيين، حكاما ومحكومين، حتى قوات الاحتلال تتحجب، خصوصاً عند أداء مهمات خاصة أو خاصة جداً··· بلاد يغمرها الحجاب"·
الخليج ...المغالاة
في دول الخليج العربية تتنوع أشكال حجاب المرأة، وتأخذ الألوان المختلفة ومنها الزاهية والمتماشية مع القطع الأخرى التي تغطي الجسد، مدعمة بالحلي والأكسسوارات، والمكياج المغالى فيه·· ربما بسبب طغيان النمط الاستهلاكي في المجتمعات الخليجية النفطية·· وتختلف أشكال الحجاب من بلد الى آخر وحتى في البلد الواحد كالسعودية باعتبارها دولة شاسعة وفيها من التنوع الاجتماعي ما يفرض أشكالاً خاصة بأزياء النساء·· ولا يزال البرقع يقاوم في بعض الدول وإن كان في طريقه الى الزوال لأن مريداته من النساء من فئة كبار السن، فيما تعتبر (اللفة) هي الغالبة بين شابات ونساء الجيل الجديد·· وهناك من دون شك النقاب (الأسود أو الأبيض) مع العباءة السوداء وهناك الحجاب والجينز معاً، وأشكال متنوعة من وضع (اللفة)، فالأمر أصبح استعراضاً للموضة تحب المرأة من خلالها أن تظهر في أحسن صورة، وفي نظرهن أنه لا مانع من اجتماع الحشمة مع الماكياج والألوان اللافتة!! والحجاب في منطقة الخليج وتحديداً في الكويت انتشر أوائل الثمانينات مع استقواء الحركة الإسلامية (الإخوان المسلمين) تحديداً على الساحة السياسية والتعليمية الجامعية، وهو ذو شكل مميز لا تخطئه العين، فيما طرأت أشكال جديدة على الحجاب في يومنا هذا وأخذ أشكالاً عديدة تماشياً مع الموضة والتطوير الذي تدخله مصممات الأزياء الكويتيات اللاتي كثرن على الساحة·