رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 28 مارس 2007
العدد 1767

كتاب
أشباح فانون.. نتغير ونحن نغير العالم!!

د. ثائر دوري:

هذه الفكرة الفلسفية البسيطة كرس لها فانون كتابا كاملا هو كتاب خمس سنوات على الثورة الجزائرية وقد ترجمه الى العربية ذوقان قرقوط وصدر عن دار "الطليعة" عام 1970 تحت اسم غير موفق على الإطلاق هو "سوسيولوجيا الثورة" لكن الطبعة الجديدة الصادرة عن دار الفارابي وهي لنفس المترجم السابق أعادت الى الكتاب اسمه الأصلي·

اعتمد هذا الكتاب على منهجية وصفية للمجتمع الجزائري ليتبصر المرء ماذا حل بالمجتمع الجزائري خلال خمس سنوات من الثورة بين عامي 1954 و 1959 وما هي التغيرات التي طرأت على بنيته بفعل الثورة، لقد رصد الكاتب أغلب جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية في هذا المجتمع قبل وبعد اندلاع الثورة وبين حجم التغيرات داخل الأسرة والقرية، كما درس تبدل الموقف من الحجاب، ومن المرأة ومن التقنية الحديثة ومن اللغة الفرنسية·· الخ·

قسم المؤلف الكتاب الى قسمين غير متساويين حجما القسم الأول وهو الأكبر خصصه لعالم المستعمر "بفتح الميم" والثاني الأصغر خصصه لعالم المستعمر "بكسرها" إن عدم التساوي بالحجم هو منطقي تماما فالفعل الثوري غير جذرياً عالم المستعمرين "بفتح الميم" في حين أنه فقط نزع الطمأنينة من عالم المستعمرين "بالكسر" فكتب أربعة فصول تعالج التبدلات التي طرأت على المجتمع الجزائري بفعل الثورة التي أعادت إنتاجه من جديد وضخت فيه حيوية ودماء جديدة وأما  الفصل الخامس فخص به الأقلية الأوروبية في الجزائر·

يعالج الكتاب فكرة شهيرة تقول: إن البشر ليسوا كتل حجارة صلبة ينهون مشوارهم كما بدؤوه بل هم كائنات حية تتفاعل مع الكون لذلك تراهم وهم يقومون بفعل تغيير الكون يتغيرون هم أيضا، فالثورة هي ولادة إنسان جديد ومجتمع جديد·

يقول فانون: إن الثورة من حيث أنها ثورة في الأعماق، الثورة الحقيقية، تكون متقدمة جداً لأنها تبدل الإنسان وتجدد المجتمع فهذا الأكسجين الذي يبدع إنسانية جديدة ويعدها إنه هو كذلك الثورة الجزائرية ويقول إن الفكرة التي تتطلب من الناس أن يتبدلوا في ذات الوقت الذي يبدلون فيه العالم، لم تكن ظاهرة علي هذا النحو الواضح إلا في الجزائر·

في الفصل الأول من الكتاب عنوانه "الجزائر تلقي الحجاب" يسرد فانون قصة الحجاب  في الجزائر قصة الحجاب في الجزائر بدأت عام 1930- 1935 وذلك لتحطيم أصالة الشعب الجزائري يقول: ذلك أن المسؤولين عن الإدارة الفرنسية في الجزائر وقد أوكل إليهم تحطيم أصالة الشعب مهما كان الثمن وزودوا بالسلطات لممارس تفتيت أشكال الوجود المؤهلة لإبراز حقيقة وطنية من قريب أو من بعيد، سوف يعملون على بذل أقصى مجهوداتهم ضد ارتداء الحجاب على اعتباره في الحالة الراهنة رمزاً لتمثال المرأة الجزائرية ولم يكن موقفاً كهذا نتيجة لحدس طارئ، إلا أن الأختصاصيين في المسائل التي تدعى مسائل السكان الأصليين والمسؤولين في الدوائر المختصة بالعرب قد نسقوا أعمالهم بالاستناد إلى تحليلات علماء الاجتماع·· الى الصيغة المشهورة: لنعمل على أن تكون النساء معنا وسائر الشعب سوف يتبع·

ويتابع:

 واستطاعت الإدارة الاستعمارية تعريف نظرية سياسية محددة قائلة إذا أردنا أن نضرب المجتمع الجزائري في صميم تلاحم أجزائه وفي خواص مقاومته، فيجب علينا قبل كل شيء اكتساب النساء، ويجب علينا السعي للبحث عنهن خلف الحجاب حيث يتوارين وفي المنازل حيث يخفيهم الرجل·

وشرح فانون كيف بدأت الحملة على الرجل الجزائري لإشعاره بالمهانة لانه يسجن النساء ويضطهدهن ويبدأ الحصار الفرنسي للنساء بالنساء الفقيرات الجائعات فالجمعيات النسائية توزع الدقيق والسخط على الحريم والحجاب، وبعدها يأتي دور النصائح العلمية ويصار الى حث النساء على التمرد ورفض التبعية لرجل وعلى نزع الحجاب·

ويحاصر الرجل أيضا في العمل فيصبح موضع انتقاد زملائه الأوروبيين وموضع انتقاد رؤسائه في العمل ويصبح توجيه أسئلة من نوع: "هل زوجتك سافرة؟" لم لا تصطحب زوجتك الى السينما وألعاب الكرة والمقهى·

ويتابع فانون أن الأوروبيين يتبعون أساليب "السيو" في محاصرة الرجل الجزائري  وهكذا فإن المدير يدعو الموظف الجزائري وزوجته بمناسبة أحد الأعياد كعيد الميلاد أو رأس السنة أو ببساطة في مناسبة خاصة بأعضاء الدائرة ولا تكون الدعوة جماعية وإنما يطلب كل جزائري الى مكتب الإدارة ويدعى بالاسم للمجئ بصحبة "عائلته الصغيرة" وباعتبار أن الدائرة هي أسرة كبيرة فلسوف ينظر نظرة سيئة الى الذين يحضرون بدون زوجاتهم إنك تفهمون اليس كذلك؟

ويعاني الجزائري أمام هذا الإنذار الرسمي للقيام بالواجب لحظات صعبة في بعض الأحيان، فإن المجيء بصحبة زوجته معناه الاعتراف باندحاره وهذا معناه "تعريض زوجته للمهانة" والعمل على عرضها للأنظار والتخلي عن كيفية المقاومة ويكون الحضور لوحده على العكس امتناعا عن  إرضاء رب العمل وهذا ما يجعل البطالة ممكنة إن دراسة أية حالة تؤخذ بالصدفة ودراسة نمو الكمائن التي ينصبها الأوروبي بقصد  حصر الجزائري لكي يتميز ويعلن "زوجي محجبة ولن تخرج" أو لكي  يتخاذل ولسان حاله يقول": "بما أنكم تريدون رؤيتها فها هي ذي" وما في الروابط والعلاقات من طابع سادي وفاسد سوف توضح باختصار على المستوى النفسي مأساة الوضع الاستعماري والتصدي الذي يجري خطوة خطوة بين نظامين، أي ملحمة المجتمع المستعمر "بالفتح" بخصائصه في الوجود، في مواجهة الأخطبوط الاستعماري·

 

الحجاب

 

لقد أصبحت المرأة محورية في برنامج التدمير الثقافي الذي سنه المستعمر "بكسر الميم" فهي التي ستحول الرجل بعد أن يتمكن من كسبها الى جانب القيم الغربية، وهي التي ستكون المعول الذي سيفتت الثقافة الجزائرية يقول فانون عام 1959 أي بعد أربع سنوات من بداية الثورة الجزائرية·

إن الحلم بعملية ترويض شاملة للمجتمع الجزائري تجري بمعونة "النساء السافرات المعاونات لرجل الاحتلال" لم ينفك حتى يومنا هذا يراود عقول المسؤولين السياسيين عن عملية الاستعمار"·

وقد وصلت جدية البرنامج الاستعماري حول موضوع الحجاب أن تدخل الجنرال ديغول بالأمر وذلك عام 1958 في قسنطينة كما يتدخل جاك شيراك اليوم في باريس·

ففي تجمع قسنطينة لاستقبال الجنرال ديغول في اكتوبر 1958 طلبت السلطات الفرنسية من بنت أحد الموظفين في إدارتها أن ترتدي الحجاب وتقف في صفوف المشاهدين الجزائريين، حتى إذا صدر أمر التخلص من الحجاب من قبل ديغول ترمي هي بحجابها على أنه استجابة للطلب الفرنسي وهذه البنت معروفة في قسنطينة ولم تكن قد ارتدت الحجاب في حياتها أصلاً قبل ذلك اليوم، وتجدر الإشارة الى أن عدداً كبيراً من الفتيات الجزائريات كن سافرات آنئذ·· وأن عددهن كان في تزايد، لكن طريقة نزع الحجاب هذه جعلت عدد من السافرات يرجعن الى الحجاب حتى لا يتصور الناس أن سفورهن استجابة لطلب الزعيم الفرنسي "الجزائر في سنوات التسعينات - بنيامين سنورا - وجهات نظر العدد 26 يناير 2002"·

فإذا كان المستعمر ينظر الى نزع حجاب المرأة الجزائرية على أنه وسيلة لهتك القيم الحضارية والثقافية للمجتمع الجزائري ويبني استراتيجية الغزو والهيمنة والإلحاق على هذا الأمر فمن المنطقي أن ينظر الشعب الجزائري الى التمسك بالحجاب على أنه وسيلة من وسائل  المقاومة للحفاظ على  الشخصية الحضارية ولمقاومة التذويب في الثقافة الفرنسية، وبالتالي مقاومة التلاشي حضاريا وسياسيا كما يريد له المستعمر "بكسر الميم" وهنا نصل الى الملاحظة النافذة لفرانس فانون:

وهنا نعثر على قوانين علم النفس الخاص بالاستعمار  هو أن الفعل ومشاريع المحتل هي التي تحدد في المرحلة الأولى مراكز المقاومة التي تنظم حولها ادارة البقاء في شعب ما إن  الأبيض هو الذي يخلق  الزنجي لكن الزنجي هو الذي يخلق صفات الزنجية·

وهكذا يصبح مفهوما أن تكون الرموز المقاومة العربية الإسلامية رموزاً دينية في هذه المرحلة طالما أن الغازي الأمريكي يعلنها حرباً صليبية، وتشن أجهزة إعلامه ومراكز أبحاثه ومثقفيه وجيوشه حرباً على مدار الساعة على الإسلام·· ويتابع فرانز فانون·

ورداً على الروح العدائية الاستعمارية من حول الحجاب فإن المستعمر ينمي التعلق بالحجاب وما كان عنصراً لا نصيب له من الاكتراث في مجموع متجانس، اكتسب صفة التابو لذلك فإن موقف تلك الجزائرية من الحجاب سوف يقارن باستمرار بموقفها الكلي من الاحتلال الأجنبي·

ونيتجة لمجمل السياسة الاستعمارية نمت عادة التعلق بالحجاب وصار من المحرمات التي لا يجوز المساس بها، بل ازداد عدد المحجبات لكن مع اندلاع الثورة الجزائرية تبدل الموقف من الحجاب جذرياً فلم يعد لها طابع التابو بل حلت نظرة لها طابع براغماتي خاصة بعد انخراط المرأة في جبهة التحرير وقيامها بمهام نضالية كالرجل وبعد أن أصبحت تسير سافرة في المدينة الأوروبية كي لا تلفت الانتباه بحجابها وهي تنقل الرسائل الشفهية للمناضلين، أو عندما تكون كشافة للطريق، أو عندما تكون حقيبتها محشوة بالقنابل والمسدسات التي ستسلمها لمناضل عند الزاوية، وعندما انتبه المستعمر الفرنسي لدور النساء هذا وصار حذراً من النساء السافرات عادت المرأة لاستخدام الحجاب كي تخفي السلاح تحته·

 

لولا الراديو

 

أما الفصل الثاني من الكتاب والمعنون "هنا صوت الجزائر"·· فيدرس به فانون موقف الشعب الجزائري من التقنية الحديثة التي حملها الاستعمار والتغيير الذي طرأ على هذا الموقف بفعل اندلاع الثورة الجزائرية فيختار لذلك دراسة الموقف من المذياع·

كان البث قبل اندلاع الثورة يقتصر على محطة فرنسية تعبر عن المجتمع الاستعماري وقيمه وكان ما نسبته %95 من أجهزة الراديو بأيدي الأوروبيين أما لدى الجزائريين فقد أقتصر اقتناء هذا الجهاز على البرجوازية المتطورة·

كان المجتمع الجزائري يتقبل بصعوبة أجهزة الراديو بل إنه يرفض هذا الجهاز الذي كانت برامجه منقولة حرفيا عن برامج فرنسية لا تناسب مجتمع الجزائر أو تقاليده، ويحلل فرانز فانون موقف كل من المستوطن ورجل البلد الأصلي الجزائري من الراديو فيقول:

إن الراديو يذكر المعمر، وهو في المزارع، بواقع السلطة ويعلله بوجوده ذاته، وبالأمن وراحة البال فراديو الجزائر يؤسس حق المعمر ويعزز يقينه بالاتصال التاريخي بواقعة الفتح وبالتالي لاستثماره الزراعي وموسيقى باريس مقتطفات صحف العاصمة الأم والأزمات الحكومية الفرنسية تشكل لوحة متلامحة تظهر فيها اخر انواع الزخرف في البلاد·· إن راديو الجزائر يتعهد غرس ثقافة رجل الاحتلال، وسوء التوزيع اللا ثقافي، بالنسبة لطبيعة المحتل، إن راديو الجزائر أي صوت فرنسا في الجزائر يشكل مركز عدم نسيان لاحق لثقافته إن جماعات المعمرين المنتشرين في أواسط البلاد المغامرين وراء استصلاح الأراضي البور يعرفون ذلك جيداً ولا ينفكون يرددون أن "لولا النبيذ والراديو لاستعربنا"·

لقد وضع فانون الراديو كتفصيل في لوحة الاستعمار الشاملة، فقد ركز في أكثر من مكان على أنه لا يوجد شيء حيادي  في العلاقة بين المستعمر "بالكسر" والمستعمر "بالفتح" لأن كل الأشياء في الوضعية الاستعمارية تكسب سياقا خاصا بها، فالراديو هو وسيلة للضغط الثقافي على المجتمع الخاضع وشبه وسلة صمود لدى المزارعين الأوروبيين أما عند الأسرة الجزائرية فالأوضاع معكوسة فهي  لا تقتني الراديو كنوع من عدم الاكتراث الكئيب بهذه القطعة من الوجود الفرنسي وينبه فانون الى أن الباحث الذي يسعى الى جواب حول عدم اقتناء الراديو سيحصل على أجوبة مختلفة بعضها له طابع تحريمي ديني ولا يتوقع أن يحصل على تفسير معقول·

إن العالم الاستعماري المغلق لا يترك فرصة للجزائري أن يجد نفسه في هذا الراديو، الذي يمجد المستعمرين مما دعا بعض الجزائريين للقول عنه بأنهم "فرنسيون يتحدثون الى فرنسيين" لكن هذه الوضيعة تبدأ بالانقلاب مع اندلاع الثورة المسلحة، فالجزائري يطور أجهزة استعلامه ليعرف ما يجري في الجبل ويسمع عن الهزائم التي يتلقاها جندي الاحتلال، وهنا برز الراديو بوظيفة جديدة مختلفة كلياً عن وظيفته الاستعمارية السابقة بعد أن أنشأت جبهة التحرير الجزائرية محطة إذاعة يقول فانون: كان الحصول على جهاز للراديو، يمثل في الجزائر عام 1955 الوسيلة الوحيدة لحيازة مصدر غير فرنسي للأخبار عن الثورة وتتخذ هذه الضرورة صفة الأمر الملح عندما يعلم الشعب أن هناك كل يوم جزائريين يقدمون من القاهرة سجلاً بكفاح التحرير وهكذا تعود أمواج الصفحات الكبرى المكتوبة في الجبال من قبل الإخوة والأهل والأصدقاء متدفقة من القاهرة وسورية ومن البلاد العربية جميعاً تقريباً·

وحدث التحول الكبير عام 1956 عندما وزعت منشورات تنبئ بوجود صوت الجزائر الحرة حددة فيها ساعات البث وأطول موجات البث، ففي أقل من عشرين يوماً نفد جميع ما في المستودعات من أجهزة وظهرت تجارة الأجهزة المستعملة، ونلاحظ هنا انقلاب الآية فالسلطات الاستعمارية التي كانت تتهم الجزائريين بالتخلف لرفضهم شراء الراديو بل وتحريمه في بعض المناطق فإذا بها تقوم بين ليلة وضحاها بمنع بيع الراديو لأنه صار جزءآً من الشخصية الوطنية، فهو يصل مالكه مع جبهة التحرير الوطني الجزائرية يقول فانون:

فالجزائري الذي يأمل أن يحيا في مستوى الثورة، يملك أخيراً إمكانية الاستماع الى صوت رسمي هو أصوات المقاتلين تشرح له المعركة وتفسر له تاريخ التحرير في مسيرته وأخيراً تعمل على اندماجه مع تنفس الأمة الجديد·

عن:  www.kananonline.org

طباعة  

الإخوان المسلمون... نظرة من الداخل
استراتيجيات هدفها السيطرة على المجتمع وصولا إلى دولة الإخوان "2"