
كتب محرر الشؤون العربية:
من المتوقع في ضوء هذه النتائج الأولية لمؤتمر بغداد الذي بحث الوضع العراقي بحضور عدد من الدول الغربية والعربية، وكان أبرز ما فيه مشاركة إيرانية وسورية، أن يرتفع مستواه، ويتحول إلى مؤتمر لوزراء خارجية الدول المشاركة يعقد في أسطنبول التركية في الشهر القادم· وهذا يعني أن أجواء إيجابية بدأت تسود المباحثات والاتصالات الدائرة منذ أن وضعت لجنة بيكر - هاميلتون تقريرها، وأوصت ببحث الأزمة في العراق مع دول الجوار، بما في ذلك سورية وإيران، رغم الرفض الأولي الذي أظهرته حكومة بوش، وإصرارها على المضي في ما تسميه محاولة عزل سورية وإيران، وإطلاق عمليات سرية ذات طابع تخريبي في كل من إيران وسورية ولبنان يقودها فريق يترأسه نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني ونائب مستشار الأمن القومي إيليوت إبرامز هدفه إعادة تفعيل دور "القاعدة" والحركات الحليفة لها، وإشاعة جو من العنف الطائفي عنوانه الصراع السني - الشيعي·
وحسب الإشارات المتعددة التي أطلقتها تحركات الشهرين الماضيين بما في ذلك إفشال خطة إشعال الحرب الأهلية، باتفاق مكة، وتجميد مشروع إبرامز الخاص بتمويل فئات مرتبطة بخطة التفجير، ولقاء القمة الإيراني - السعودي، ثم بدء الحديث عن اقتراب حل الأزمة اللبنانية على قاعدة تأليف حكومة وحدة وطنية، وأخيرا لقاء بغداد، يبدو أن خطر خطة "ديك تشيني" المرتبطة بمشروع الحرب المتواصلة على قاعدة ما سمي "إعادة تحديد الاتجاه" نحو إشعال الحروب الأهلية في المنطقة· أشعر جميع الأطراف الإقليمية بلا استثناء بالخطر على كياناتها، وقدمت لها أزمة الاحتلال الأمريكي في العراق فرصة لإعادة الحسابات مجددا، واللجوء إلى ما يمكن تسميته التهدئة·
ومثلما أشرنا في تحليل سابق في الأسبوع الماضي، فإن الداخل الأمريكي الذي يتزايد رفضه للحرب المفتوحة التي تتبناها إدارة بوش، وصعود الديمقراطيين في مراكز التشريع والرقابة، جعل من مهمة أصحاب الخطط السرية (ديك تشيني وفريقه صعبة إلى حد كبير، وبخاصة وأنها كما كشفت عدة مصادر أمريكية، كانت ستلجأ، في ظل الأغلبية الديمقراطية، إلى تمويل عملياتها السرية المعتمدة على تخيير الإرهابيين إلى عقد صفقات سرية بعيدا عن رقابة الكونغرس، بعد أن مهدت لهذا باستبعاد وكالة المخابرات الأمريكية من العمليات والاعتماد على أجهزة أنشأتها وزارة الدفاغ (البنتاغون)، لأن وكالة المخابرات لم تكن لتستطيع أن تمرر التمويل من دون موافقة الكونغرس·
هناك أسباب جوهرية إذن وراء رضوخ حكومة بوش للأمر الواقع الذي رسمت خطوطه لجنة بيكر - هاملتون، جاء تلخيصها على لسان السيد حسن نصرالله في آخر خطاب له مساء الجمعة الماضية، وهي، انكشاف دعوة نشر الديمقراطية والحرية عن أكذوبة بعد أن تبين أن أوضاعا ديمقراطية حقيقية في المنطقة العربية ستأتي إلى السلطة بمعارضي السياسة الأمريكية، مما اضطر الحكومة الأمريكية إلى استبدال مفهومي المعتدلين والمتطرفين· بمفهومي الديمقراطيين والدكتاتوريين·
والأمر الثاني هو فشل إشعال الحرب الأهلية في فلسطين في ضوء اتفاق الفلسطينيين على إقامة حكومة وحدة وطنية وعزل دعاة الفتنة والحرب الأهلية، والثالث هو تبلور مقاومة عراقية جادة بدأت تتميز عن العمليات الإرهابية التي تطال المواطنين العراقيين، وخلط الأوراق والأوضاع في العراق، والرابع الفشل في عزل سورية وإيران والانفراد بهما، وهو أمر أصبح واضحا بعد الموقف الروسي المتشدد من سياسة الحرب الأمريكية - الغربية والتمدد على حساب المصالح الجغرافية - السياسية الروسية تحت ذريعة محاربة الإرهاب، وإعلان بكين عن موقفها الأخير القاضي بعدم السماح للولايات المتحدة بالانفراد بسورية في ما يتعلق بمسألة المحكمة الدولية·
وقد أوضح السيد حسن نصرالله أنه لم يعد أمام الولايات المتحدة إلا أحد خيارين، إما أن تمضي إلى المزيد من التورط العسكري هي وقاعدتها إسرائيل، وهو ما أظهرت حرب تموز 2006 أنه سينتهي بالهزيمة، أو تلجأ إلى إشعال الحرب الطائفية في أكثر من ساحة، وهذا الأمر الأخير لم يعد خفيا ولا خافيا على أحد على الصعيد الإقليمي والدولي، وحتى الداخل الأمريكي· بالطبع ليس من المتوقع أن تترك الولايات المتحدة المنطقة لشعوبها لتقرر مصيرها في المدى المنظور، فلديها بدائل أخرى أشهرها بديل البقاء واعتماد التحرك الدبلوماسي الذي اقترحته لجنة هاملتون - بيكر، أو إعادة انتشار قواتها كما يطالب الديمقراطيون، وهو ما يعني محاولة الانكفاء إلى قواعد عسكرية مختارة، وهذا هو السياق الذي يجري فيه التحرك الأمريكي حاليا على صعيد القبول بمؤتمر بغداد، وتطويره، إن أمكن إلى مؤتمر لوزراء الخارجية، وتحريك العناصر الموالية في بعض الحكومات العربية لإبقاء الاصطفافات العربية، وبخاصة في ضوء ما ستفرزه القمة العربية المرتقبة في الرياض، في ساحة المراوحة إن أمكن عدم بعثرتها·