رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 7 مارس 2007
العدد 1764

الرقابة في عصر "الأنوار" الإسباني

                                                               

 

·         الملك، الدين، العادات "الحميده"·· ثالوث المحرمات على كُتاب أسبانيا القرن الثامن عشر

·        عقوبة الطباعة بدون ترخيص: نفى صاحب المطبعة والمكتبة، وأفضل حكم للمؤلف النجاة من الإعدام

·        منع دخول الكتب الأجنبية  إلى أسبانيا إذا تعرضت للثوابت أحد وظائف محاكم التفتيش

·       الكتب الفرنسية نالت نصيب  الأسد في فهرس الكتب الممنوعة ·· وخصوصاً مؤلفات فولتير

 

إعداد فهد راشد المطيري*

مدخل تاريخي

 

مع مطلع القرن الثامن عشر اعتلى "آل بوربون" عرش إسبانيا، وذلك بعد وفاة "كارلوس الثاني" من دون أن يترك هذا الأخير أي وريث شرعي مباشر كان وصول "فيليب الخامس" البوربوني، حفيد "لويس الرابع عشر" ملك فرنسا، إلى الحكم الفضل في فك عزلة إسبانيا ورد اعتبار لامبراطورياتها المتآكلة، كما كان أيضا بمثابة تذكرة دخول إسبانيا الى "مسرح الأمم" حسب التعبير السائد في القرن الثامن عشر·

هذا التغيير الجذري في الحياة السياسية للبلاد كان له انعكاسات بالغة الأهمية بالنسبة لمستقبل إسبانيا في العصور اللاحقة· أول هذه الانعكاسات وأهمها هو تبني بعض المفكرين الإسبان لأفكار حركة التنوير ومفاهيمها التي اجتاحت أوروبا تحت مسميات مختلفة: "Lumieres" في فرنسا، "Enlightenment"  في انجلترا،  "Aufklarung" في البلاد الجرمانية، "Illuminismo" في إيطاليا، "Luzes" في البرتغال، وأخيرا، في مطلع القرن الثامن عشر، "Ilustracion" في إسبانيا في عام 1687 كتب أحد المفكرين الإسبان متذمرا من تأخر وصول موجة التنوير الى إسبانيا قائلا: "إنه من المؤسف، بل من المخجل أيضا، أن يقدر لنا نحن الإسبان، كما لو كنا إحدى قبائل الهنود الحمر، أن نكون آخر من يعلم عن أخبار التنوير التي انتشرت في كل بقاع أوروبا" لكن المشكلة الحقيقية، حسب رأي بعض النقاد، لم تكن في هذا التأخير، إنما في مدى قابلية المجتمع الإسباني آنذاك لتبني مبادئ هذه الحركة السياسية الفلسفية الثقافية التي حمل رايتها موسوعيو فرنسا في تلك الحقبة  لم تكن رياح التغيير، التي كانت تهب في بعض الأحيان من رأس السلطة، كافية لزعزعة القيم التقليدية لمجتمع مفرط في كاثوليكيته كالمجتمع الإسباني إبّان القرن الثامن عشر، وصفة كاثوليكي هنا لا تقتصر على الجانب الديني فقط، بل تتعداه الى قائمة طويلة من العادات والتقاليد المتوارثة والتي دأبت على صبغ المجتمع بصبغة موحدة وغير قابلة للتغير (1)·

 

في كتابه "تاريخ الأدب الإسباني"، يشير البروفيسور Alborg الى فكرة التوحيد تلك قائلا: "كان أدنى اعتراض أو نقد يوجه ضد أي من ثوابت المجتمع الإسباني يتم تصنيفه وبشكل مباشر على أنه جريمة في حق الوطن وخروج على الدين" هذه الثوابت التي يتحدث عنها Alborg تتلخص في ثلاثة أصناف من السلطة: السلطة السياسية ممثلة بالملك، والسلطة الدينية ممثلة بالكنيسة، والسلطة الاجتماعية ممثلة بالعادات والتقاليد·

قبل سنوات وقعت بين يدي مخطوطة غير منشورة حتى هذه اللحظة (2)، وموجودة حاليا في المكتبة الوطنية في مدريد هذه المخطوطة، التي كتبت في القرن الثامن عشر تحديدا، هي عبارة عن نص أدبي يتحدث من خلاله الكاتب، وهو كاتب مجهول الهوية، عن رداءة ما يكتب في عصره، ثم يقرر على لسان إحدى شخصياته ما يلي: "تناول، حضرتك، الريشة، واكتب ما شئت وأنا زعيم لك بأن ما كتبته سوف ينشر ويباع أيضا، لكن حذار أن تتعرض بسوء الدين أو الحكومة أو العادات الحميدة" لعل من الطريف أن نذكر أن عنوان ذلك النص هو "اخدع الحمقى واربح المال"، وبدلا من أن يكون في المقدمة كما هي العادة، قام الكاتب بوضع العنوان في آخر النص!

في ظل هذا الوضع المتأزم، لم تكن هناك سوى أعداد يسيرة جدا من متبني حركة التنوير الأوروبية في إسبانيا كانت هذه الأقلية من الكتاب والمفكرين الإسبان، أو فئة "المستنيرين"، عاجزة تماما عن التأثير في الرأي العام لصالح أفكارها وطموحاتها، بل حتى عندما سنحت الفرصة في منتصف القرن الثامن عشر لهذه الأقلية وتحالفت رسميا مع "كارلوس الثالث" لم تستطع أن تنجز سوى نسبة ضئيلة جدا من برنامجها الإصلاحي، أحد الأسباب الرئيسة لهذا الفشل الذريع في دفع حركة الإصلاحات يكمن في عدم جدية العرش في تلبية متطلبات حركة التنوير وتشكيكه كذلك في نوايا فئة المستنيرين وأهدافها، لا سيما بعد أحداث عام 1789 وبزوغ نجم الثورة الفرنسية طوال فترة القرن الثامن عشر كانت السلطة السياسية، ممثلة بالملك والوزراء المعينين، تعقد التحالفات تارة مع رجال الدين وتارة مع الإصلاحيين العلمانيين، بينما ظلت الكنيسة محافظة على مكانتها كمؤثر قوي في توجيه الرأي العام وتحريضه ضد حركة الإصلاح من الواضح أن رجال الدين اختاروا السير في اتجاهين متضادين، بينما أعتقد الإصلاحيون أن مصباحهم السحري يكمن فقط في قمة الهرم! بعد أحداث عام 1789 وفض التحالف الحكومي - الإصلاحي كتب أحد وزراء الملك "كارلوس الرابع" الى سفير إسبانيا في "فرساي" يقول: "يقال إن عصر التنوير هذا قد ثقف الإنسان وجعله عالما بحقوقه، لكن أعتقد بأنه سلب من الإنسان أيضا الراحة والطمأنينة"، ثم يسخر في آخر الرسالة من حركة التنوير قائلا: "نحن هنا في إسبانيا لسنا في حاجة الى إضاءة زائدة عن الحد"! (3)·

 

الرقابة الثنائية

 

يتحدث الباحث Francisco Aguilar في كتابه "مدخل الى القرن الثامن عشر" عن وجود رقابة ثنائية كانت سائدة طوال فترة القرن الثامن عشر وحتى صدور دستور عام 1812 وإعلان الحريات الذي قام على أنقاض النظام القديم، (المادة 131 من ذلك الدستور وللمرة الأولى في تاريخ إسبانيا نصت بشكل واضح وصريح على حرية النشر)، هذه الرقابة الثنائية هي عبارة عن رقابة مدنية وأخرى دينية، لكن من المهم التأكيد هنا على أن الأساس الذي بني عليه هذا التقسيم الثنائي يتعلق بنوع السلطة التي تنتمي لها كل رقابة على حدة؛ فثمة رقابة مدنية تمارس من قبل السلطة السياسية من جهة، ورقابة دينية منوطة بمحاكم التفتيش Inquisicion  من جهة أخرى من هنا نجد أن صفة "الثنائية" تشير الى مصدر الرقابة لا الى موضوعها، الأمر الذي يفسر حظر الكثير من الكتب التي تنتقد الدين من قبل رقابة مدنية ليست لها علاقة إطلاقا مع أية مؤسسة دينية·

في عام 1752 أصدر مجلس الشورى في إقليم قشتالة، وهو عبارة عن هيئة مدنية، قانونا يقضي بموجبه إنزال أقسى العقوبة بكل من يقوم على طباعة كتاب من دون ترخيص مسبق، هذه العقوبة تتلخص في فرض غرامة مالية والنفي لمدة 6 سنوات بالنسبة لصاحب المطبعة، والنفي الى الأبد بالنسبة لصاحب المكتبة التي قامت ببيع الكتاب غير المرخص، أما المؤلف ففي حالة تعرضه بالنقد للكنيسة أو العرش فيمكن أن يعتبر نفسه محظوظا جدا إذا نجا من عقوبة الإعدام في التاسع عشر من يونيو من عام 1756 بعث القاضي Juan Curlel، وهو الشخص المسؤول عن صدور قانون 1752 سالف الذكر، برسالة الى إدارة رقابة المطبوعات يحث من خلالها العاملين هناك على ضرورة أخذ الحيطة والحذر في عملهم الرقابي، داعيا إياهم أن "ينتبهوا لإصرار أعداء الدين ومكرهم في نشر أفكارهم الشريرة ودس السم بكل حذر من خلال دعوتهم الناس الى المجون" في الفترة ما بين 1746 و1800 امتنعت الأكاديمية الملكية للتاريخ عن نشر 392 كتاباً من أصل 930 مؤلفاً، أي بنسبة تقدر بحوالي %42 في هذه الفترة نفسها أيضا، في عام 1170، بعثت رابطة الأطباء في مدريد بتقرير الى مجلس الشورى بإقليم قشتالة جاء فيه: "لا يكفي أن يقول كتاب ما الحقيقة كي نسمح بنشره، بل يجب أن يذكر حقائق مفيدة للقراءة وللدين وللدولة"· السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: إذا كان هذا الحس الديني المتشدد يصدر من رقابة مدنية لا تخضع إطلاقا لأية مؤسسة دينية، فماذا بقي إذن لمحاكم التفتيش ورقابتها الدينية؟ في الواقع، وكما أشرنا من قبل، إن هذا الحس الديني المتشدد يبدو أمرا طبيعيا جدا في ظل مجتمع مفرط   في كاثوليكيته، لكن علينا أن نلاحظ أيضا أن هذا التشدد الديني لم يكن سوى نتيجة للظروف الموضوعية في تلك الفترة من تاريخ إسبانيا، والتي استطاعت من خلالها الكنيسة بسط نفوذها على عامة الشعب من دون أن تؤثر علاقاتها المتذبذبة مع العرش في سيطرتها على الرأي العام أما عن محاكم التفتيش ودورها الرقابي فقد كانت أشبه ما تكون بـ "حرس الحدود" وخصوصا الحدود مع فرنسا كان هذا الدور الرقابي لمحاكم التفتيش، أو "العمل المقدس El Santo Oficio" كما يسمى في ذلك الوقت، يتركز في منع دخول الكتب الأجنبية الى البلاد في حالة تعرض هذه الكتب لأي من ثوابت المجتمع الإسباني في الأعوام 1707 و1747 و1790 قامت محاكم التفتيش بنشر "فهرس الكتب الممنوعة"، وقد كان للكتب الفرنسية نصيب الأسد في ذلك الفهرس، وعلى الأخص كتب فولتير والذي يعد من ألد أعداء رجال الدين الإسبان لم تكتف محاكم التفتيش بدورها في مراقبة الكتب الأجنبية، بل جعلت تضيّق الخناق على بعض الكتاب والمفكرين الإسبان ممن تشك بتوجهاتهم الأيديولوجية، ولقد بلغ الأمر بهؤلاء الكتاب والمفكرين الى حد اللجوء الى الملك واستئذانه كي يقوم بنفيهم خارج إسبانيا وذلك لينفذوا بجلودهم مما يلاقونه من ذل وتعذيب على أيدي رجال الدين في عام 1790، أي بعد سنة واحدة فقط من قيام الثورة الفرنسية، كشفت محاكم التفتيش، التي كانت في تلك الفترة على علاقة حميمية مع السلطة السياسية، عن الهدف من دورها الرقابي بكل صراحة ووضوح، وذلك حين صرحت بأنها سوف "تدافع عن النظام السياسي - الاجتماعي القائم"، الجدير بالذكر أن موضوع حماية الأخلاق لم يتم التطرق له لا من قريب ولا من بعيد، ويعد ذلك سابقة في تاريخ محاكم التفتيش الإسبانية·

 

الأديب ومقص الرقيب

 

لا تخلو من سخرية تلك الكلمات التي جاءت في مقدمة كتاب "رسائل مغربية Cartas Marruecas" لمؤلفه Cadalso، أحد أشهر كتاب القرن الثامن عشر الإسباني كتب هذا الأديب يقول: "لقد تشجعت كثيرا في نشر رسائلي هذه، لا سيما أنها لا تتطرق لا الى الدين ولا الى الحكومة"!· هذه الكلمات تكشف عن وجود رقابة ذاتية كنتيجة منطقية للقمع الذي يواجهه الكاتب في ظل كلتا الرقابتين: المدنية والدينية على الرغم من وجود هذا النوع الثالث من الرقابة، إلا أن الكتاب والأدباء ظلوا يعانون من حدة مقص الرقيب، ولقد كان لذلك انعكاساته الخطيرة على جميع الأجناس الأدبية طوال فترة القرن الثامن عشر· 

فيما يتعلق بالشعر، كانت الرقابة تتعقب ثلاثة أمور رئيسية: الشعر الإباحي أو الحسي، والشعر الساخر، والعيوب المتعلقة بالأسلوب من الممكن القول إن مجموع ما كتب من أشعار إباحية لم ينشر إلا عند انقضاء القرن الثامن عشر، فأشعار مثل "حديقة فينوس El jardin de Venus" للكاتب Samaniego و"قبلات الحب Besos del amor  لـ Valdes كانت توصف من قبل الرقابة بأنها أشعار "غير مفيدة وغير لائقة بالنسبة الى أدبنا، فضلا عن كونها غير أخلاقية بشكل فاضح"· الشعر الساخر بدوره استطاع تجاوز الخطوط الحمراء للرقابة وذلك بفضل ما يعرف بـ Pliegos de cordel، وهي عبارة عن أوراق سميكة ومزدوجة تثبت بحبل في منتصفها وتعد من ضمن المطبوعات غير الرسمية، وقد كان لسهولة تداول هذه المطبوعات دور كبير في انتشار الشعر الشعبي بين عامة الناس وحدها جريدة "الرقيب" الإسبانية من تجرأ فقامت بنشر قصيدتين من الشعر الساخر، وقد تسبب ذلك بإيقاف الجريدة لبعض الوقت العيوب المتعلقة بالأسلوب كانت في معظمها أحكاما اعتباطية من قبل مسؤولي الرقابة، ففي عام 1769 منعت الرقابة قصيدة "حكم أبولو" لأنها، حسب رأي الرقابة، "تفتقد الى القوة الشعرية وخالية من الحس الحماسي" في بعض الأحيان قد تؤثر أيديولوجية الرقيب في حكمه على أسلوب الكاتب ويمكن أن ندلل على ذلك من خلال تلك الحالة التي منع فيها كتاب مثل "أشعار مقدسة" للماركيز دي بلاثيوس، فقد جاء المنع، الذي صدر عام 1784 ملخصا في جملة واحدة: "حين يتعلق الأمر بقضية في قمة السمو والقداسة، فإن الخطأ عند إذن لا يغتفر، والمحاكاة غير مسموح بها"!·

إذا كانت هذه هي حال الشعر مع الرقابة، فإنه من الطبيعي جدا أن تتضاعف هذه الرقابة المتشددة حين يتعلق الأمر بالمسرح، فمن جهة هناك عرض حي، ومن جهة أخرى هناك جمهور، وفي تلاقي هذين العنصرين تكمن الخطورة! على خشبة المسرح كان من الضروري احترام كل من: الدين، والملك، والقوانين، والذوق الرفيع، والأخلاق، والعادات والتقاليد الحميدة، وقواعد أرسطو المسرحية من ضمن الإجراءات المتعسفة التي قاسى منها المسرح تلك التي تتعلق بالحصول على ترخيص لعرض مسرحية ما في مدريد القرن الثامن عشر كان لابد لأية مسرحية يراد عرضها أن يحصل مؤلفها مسبقا على ستة تواقيع لمسؤولين عدة، من بينهم اثنان من رجال الدين·

هناك أسباب متعددة لمنع بعض العروض المسرحية أو مقاطع منها، فعلى سبيل المثال عندما عرضت مسرحية سانشو جارثيا "Sancho Garcia"  لمؤلفها Cadalso، لم يستطع الجمهور سماع البيت الشعري الذي يقول "أشك في أن السماء ترعى الإنسان"، وذلك لتعارضه مع الإرادة الإلهية لأسباب أخلاقية قامت الرقابة بشطب مقطع كامل من إحدى المسرحيات والذي تضمن الحديث عن امرأة حامل، وعن حالة الحمل بشكل عام، وجاء تعليق الرقابة على إجراء المنع في منتهى الاختصار: "مثل هذه القضايا لا علاقة لها بالمسرح" في عام 1794 اشتد الجدال بين أعضاء الرقابة حول مدى أخلاقية عرض مشهد من مشاهد الانتحار على خشبة المسرح، فبينما أصر البعض على عدم جواز عرض هذا المشهد لتعارضه مع تعاليم الدين، ذهب البعض الآخر الى القول بأهمية عرض مثل هذه المشاهد كي يتعظ الناس ويحمدوا خالقهم على نعمة الإيمان، رجحت كفة الرأي الأول ومنع عرض ذلك المشهد!

"لاراكيل La Raquel " مسرحية شعرية تتألف من 2300 بيت، منعت الرقابة منها 735 بيتاً لأسباب سياسية الأبيات الشعرية الممنوعة تدور كلها حول شخصية الملك والتي جاءت مليئة بالسلبيات لا يخلو المنع في بعض الأحيان من أسباب ترجع الى الركاكة في الأسلوب، أو الى الإخلال بمفهوم الذوق العام، أو حتى الى أمور شكلية أو نظرية كتعاليم أرسطو المسرحية يرى أرسطو في كتابه Poetica أن من المستحسن في العمل الأدبي أن يفضل فيه "ما هو قابل للتصديق لكنه غير محتمل على ما هو غير قابل للتصديق لكنه محتمل" فكرة "قابلية التصديق" Verosimilitud هذه، والتي هي من دون شك ليست مرادفة لمصطلح "الاحتمالية Posibilidad"، كان لها صدى كبير بين الكلاسيكيين الجدد في القرن الثامن عشر Diez Gonzalez، أحد المدافعين عن رأي أرسطو، أقام الدنيا ولم يقعدها عند قراءته لمسرحية كان البطل فيها يحلم بصوت مسموع، ذلك أنه من المستحيل، حسب رأيه، سماع الأفكار في سياق منطقي ومحكم!

ليس هناك جنس من بين الأجناس الأدبية أكثر شمولية من الرواية، ولعل هذه الحقيقة تفسر السبب وراء القرار الصادر في 27 مايو من عام 1799 من قبل مجلس الشورى في إقليم قشتالة، والذي يقضي بحظر طباعة الروايات بشكل عام لا شك في أن الأحداث التي نجمت عن الثورة الفرنسية كانت وراء ذلك الحكم الجائر بحق الرواية، ومن المؤسف حقا أن يلجأ بعض الكتاب الإسبان الى تملق أعضاء محاكم التفتيش كي يسمحوا لهم بترجمة بعض الروايات الأجنبية·

 في مقدمته للطبعة الإسبانية لـ"Pamela An drews"، يؤكد مترجم الكتاب أنه "بهذا العمل يقدم خدمات جليلة للعادات والتقاليد الحميدة"، بينما يصرح مترجم آخر بأن "هذا العمل الرائع يساعد على تصحيح العادات السيئة للشعب"! على الرغم من هذا كله، لم تتوقف الرقابة عن عملها فحظرت نشر الكثير من الروايات الأجنبية لأنها "مليئة بالعشق والغزل، ومن شأن ذلك الإضرار بأخلاق الشباب، وخصوصا الآنسات، فقد اعتدن قراءة هذا النوع من الروايات"·

 

عصر أنوار؟

 

بعد هذا العرض الموجز لدور الرقابة السلبي طوال فترة القرن الثامن عشر، يصبح من العسير القول بوجود حركة "تنوير" حقيقية في تلك الفترة من تاريخ إسبانيا، وإلا فأي عصر هذا الذي يدعي صفة عصر الأنوار بينما يستكين ذليلا تحت وطأة مقص الرقيب؟ يؤكد الباحث البروفيسور Alborg على أن "السبب وراء الكثير من المصائب اللاحقة التي أعاقت تطور إسبانيا يكمن في حقيقة أننا لم ننعم بقرن ثامن عشر حقيقي بل بصورة وهمية له"·

السؤال الذي أريد من خلاله أن أختم هذا الموضوع، والذي أترك للقارئ الكريم حرية الإجابة عنه هو: هل كان بمقدور إسبانيا، بالرغم من كل تلك النكبات التي تعرضت لها طوال تاريخها، وبالرغم من هيمنة قوى الظلام والتخلف لعقود طويلة، أقول هل كان باستطاعتها اللحاق بركب الحضارة الأوروبية لولا وجود عدد من أبنائها والذين لم ترعبهم ألقاب يوصمون بها مثل "متفرنسون" أو "ملحدون" إلى آخر تلك القائمة الطويلة من الصفات التي لم تثبط من عزيمتهم في مواصلة الكفاح من أجل رفعة وطنهم وحجز تذكرة لشعبهم في "مسرح الأمم" المتحضرة؟

*طالب دكتوراة في اللغويات

ومتخصص في اللغتين الإسبانية والعربية

 

* * *

 

الهوامش:

 

(1) الوعي الجمعي للشعب الإسباني كان تحت سيطرة رجال الكنيسة، و الأفكار الجديدة المتمثلة بحركة التنوير كانت تعتبر أفكارا دخيلة تغذيها قوى استعمارية أجنبية (فرنسا تحديدا)· انظر كتاب The Enlightenment World ، ص 414-415·

(2) نشرت هذا الموضوع لأول مرة في عام 2002، في صحيفة "الطليعة" الكويتية، العدد 1550·

(3)العداء لموجة التنوير لم يكن مقتصرا فقط على رجال الدين، بل حتى في فرنسا نفسها كانت هناك نخبة من المثقفين تقف في وجه التنوير لأسباب مغايرة· على سبيل المثال، رومانسية "روسو" كانت بمثابة ردة فعل عنيفة على النزعة العقلية، وذلك من خلال كتابة الشهير عن "اللا مساواة"، والذي يدعو فيه إلى العودة إلى حياة الإنسان البدائي ونبذ عقلية الإنسان المدني· عندما بعث "روسو" بنسخة من كتابه هذا إلى "فولتير"، جاء رد هذا الأخير مغلفا بسخرية لا يجيدها إلا "فولتير" نفسه، ففي الثلاثين من أغسطس/آب من عام 1755، بعث "فولتير" برسالة إلى "روسو" يقول: "إن من يقرأ كتابك تعتريه رغبة عنيفة في المشي على أربع"!·

·         المراجع الرئيسة:

Aguilar Pinal, F., Historia literaria de Espana en el Siglo xviii, Madrid, Trotta, 1996.

Alborg, J. L., Historia de la literatura espanola, Madrid, Gredos, 1992, vol III.

Fitzpatrick et al., The Enlightenment World, Routledge, London, 2007.

Russell, B., History of Western Philosophy, London, 1946.

Voltaire, F-M. A. de, Lettre de Voltaire à Rousseau, 1755.

طباعة