رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 21 فبراير 2007
العدد 1763

الجماعة والذات في العوالم العائمة الجديدة

كنيث جيرجن:

جاءت التقنيات الجديدة بوعود مغطاة بأغطية أنيقة· فتقنية السوفت وير الجديدة تعد بسرعة أعظم في إجراء العمليات، وتعد آخر أجهزة التلفاز بصورة أكثر صفاء، والسيارة الجديدة بضوضاء محرك أقل··· وهكذا· وكلنا مأخوذ بمتع أمثال هذه الوعود· ولكن تحليل تكلفة المربح الذي وصلنا منه إلى نقطة إمكانية التملك محدود محدودية بالغة· والأصوات الغائبة تمر من دون أن تسمع على نطاق واسع· فإذا أدخلنا "ألأحدث" في حياتنا، فكيف ستتغير فرديا وجماعيا؟ ومن بين الأكثر أهمية، نادرا ما نسأل عن مضاعفات وآثار خياراتنا على نوعية الحياة· في العقود الأخيرة فقط أصبح لدينا باحثون أعطوا انتباها منظما للتحولات الاجتماعية التي جعلتها الشهية المتزايدة دائما لما يدعى "التقدم··· التقني سهلة"· وفتح التحليل النقدي والثقافي للتلفاز الباب أمام دراسة ذات دلالة مهمة· والتفتت التحليلات منذ وقت قريب إلى شبكة الانترنت· والآن يلوح التواصل عبر الهاتف النقال في أفق الفحص النقدي· ربما يرجع عدم الاهتمام النسبي في جزء منه حتى اليوم إلى حقيقة أن الهواتف النقالة ربما لا تبدو سوى تحسينا تقنيا ضئيلا· إنها مجرد مواصلة لعملية الهاتف التقليدية، ولكن من دون إزعاج الأدوات المرتبطة بالأسلاك· ومع ذلك من النادر أن نطيق سلوكا رافضا في هذه القضية· فالهواتف النقالة يستخدمها الآن أكثر من بليون إنسان في مختلف أنحاء العالم، والخط البياني في تصاعد· وقد أدخل الهاتف النقال نفسه بسلاسة في شعيرات الحياة اليومية، مغيرا أشكال الحياة، وجالبا معه ممكنات جديدة·

في أعمالي المبكرة التي ترجع إلى العام 2001، طرحت أن الكثير من تقنيات القرن العشرين الكبرى عملت على إحداث تآكل في ما يتعلق بالجماعة التقليدية التي يتعامل فيها الناس وجها لوجه، الجماعات التقليدية محددة جغرافيا، (ما يجاورني على سبيل المثال) ويمكن أن تميز بخصائص معبر عنها بدرجة استقرارها العالية، والتواصل المكرور، والمعتقدات والقيم المشتركة، والتضامن والفهم المتبادلين، والمعرفة المشتركة بأفراد الجماعة الداخلين فيها· ومع ظهور المذياع والسيارة والنقل السريع والنشر والطباعة على نطاق جماهيري، والتلفاز، والانتقال بالطائرات، وشبكة الانترنت على وجه الخصوص، أصبح وضع الجماعة التقليدية حرجا· فكل هذه التقنيات تقوم بوظيفة إزاحة الأفراد عن مواقعهم في نطاق الجماعة· وكانت أمثال هذه الإزاحات على حد سواء: مادية (عبر وسائل النقل الجماهيرية والسفر بالطائرات··· إلخ) ونفسية (عبر المذياع والتلفاز والانترنت··· إلخ)· ومثلما أن عمال الأمة أصبحوا متنقلين على نحو متزايد، أصبح المديرون التنفيذيون معولمين بشكل مضطرد، وأصبحت أنشطة الأمهات والأطفال أكثر تبعثرا على نطاق واسع (الأسواق المركزية، ومدارس المقاطعة، وأنشطة ما بعد اليوم الدراسي) وانخفض عدد الجيران النشطين والمتوافرين انخفاضا جوهريا·

وتوفر ذاكرة زوجتي أحد أفضل الأمثلة لدي، فقد نشأت في جماعة صغيرة في "مينيسوتا"· وكانت البيوت في شارعها تميزها شرفات خلفية مظللة تتناول فيها العائلات صيفا طعامها· وحين ينتهي تناول الطعام ويبدأ الحديث، كانت تحدث زيارات متبادلة· ويتجمع الجيران ليتبادلوا الأخبار والضحك والمواساة· ومع ازدياد فعالية بث المذياع الوطني كوسيلة للتسلية، قلت الزيارات· ومع وصول التلفاز ومكيف الهواء أصبح تناول الطعام على الشرفات الخلفية نادرا·

ولم يعد باستطاعة الجيران منافسة هذا المركب التقني إلا نادرا· وحين عدنا منذ وقت قريب إلى الجيرة القديمة، وتحدثنا إلى قاطني منزل العائلة الآن وجدنا أنهم بالكاد يعرفون جيرانهم في البيت ·

ويتساوق انحلال الجماعة أيضا مع توقف قلبها عن النشاط، أي العائلة الصغيرة· ففي الكثير من البيوت في الولايات المتحدة الأمريكية توجد أجهزة تلفاز عديدة في المنزل، وهكذا يستطيع أفراد العائلة الوصول بالخيار الفردي إلى الحد الأعلى· وهنالك أيضا الإمكانيات المغرية للأطفال بأن يعيشوا حياتهم الخاصة في غرف نومهم المؤثثة بالتقنيات، مثل ألعاب الحاسوب والإسطوانات الموسيقية والهاتف والجيتار الكهربائي··· إلخ· وهناك عادة حاسوب للعائلة أيضا، ومع تنافس عال بين أفراد العائلة على استخدام الانترنت· وحتى ضمن العائلة· لا يعني التقارب الجغرافي المكاني إلا القليل· فكل فرد من أفراد العائلة، على أبعد تقدير، يعيش حياة منفصلة من ناحية نفسية·

في هذا السياق، كما طرحت منذ وقت قريب، يكتسب الهاتف النقال أهمية غير عادية· إنه فريد من نوعه إلى حد بالغ كتقنية لاستعادة وترميم المشاركة الجماعية· إنه يوفر الإمكانية لإعادة اتصال متواصلة وفورية للمشاركين في الجماعات ذات العلاقات المباشرة (وجها لوجه)، ففي ظرف لحظات يعاد إحياء العلاقات، والمشاركة في القيم والأراء، ويتعزز التعبير عن التضامن والفهم المتبادل، وتتعمق المعرفة بالآخر·

وبالمعنى الذي يذهب إليه ميخائيل باختين··· أستاذ الألسنيات والنقد الأدبي، في الوقت الذى تكون فيه معظم التقنيات المنتشرة بين الناس على نطاق واسع نابذة بآثارها، وممزقة ومبعثرة لنظم المعنى التقليدية، فإن الهاتف النقال يميل إلى العمل بطريقة تجذب ولا تنبذ· إنه يعيد التقارب بين الجماعات ويضمن لها بقاء أطول· وعلى نطاق واسع، يمكن القول: إن الهاتف النقال أعار نفسه للوضعية المفسدة لوجود غائب، إنه الوجود الدائم في متناول العائلة والأصدقاء والزملاء الغائبين ماديا·

ومع ذلك فإن هذه الاستعادة للجماعات تستحق تدقيقا أوثق· لأن الواضح هنا أننا لا نشهد ازدهارا للجماعة التقليدية ذات العلاقة المباشرة، بل، وباستعارة من تعبير ياباني من القرن التاسع عشر، نشهد ظهور "عالم عائم"· وكما هو الأمر في الحالة اليابانية، هو عالم متغيرات داخلية اجتماعية يفلت من سيطرة الحكومة والسلطة العسكرية/ البوليسية· هنا الناس أحرار في الحديث عن كل القضايا كبيرها وصغيرها، بغض النظر عما إذا كانوا عشاقا يتبادلون الآهات والأشواق، أو أفراد عائلة يحددون مواعيد لقاء، أو تجار حشيش يتفاوضون· وهو يشبه أيضا، في ما عدا بالنسبة لعدد مهم من رجال الأعمال المتجولين، عالم مدينة "إيدو" اليابانية العائم في عمله الوظيفي حول محور المتعة الضئيلة· إن التواصل بالهاتف النقال تواصل غير رسمي بدرجة أعظم، غير مكتوب، ويستخدم بطرق تعزز متعة العلاقة (مثل العلاقة الرومانسية، والصداقة والحياة العائلية، والزمالة)، وقد يهاتف الأزواج والعشاق بعضهم بعضا عدة أوقات في اليوم، مستخدمين مبررات يبدو أنها ليست سوى تغطية على المتعة التي هي هدفهم·

وكما وصف "بيورو" في العام 2002 مستخدمي الهاتف النقال الفنلنديين، يبدو أنهم "يخلقون التزاما بالنقال من دون وجود سبب للكلام"· بهذا المعنى، فإن جماعة الهاتف النقال هي على نطاق واسع تعبير عما يدعوه اليابانيون "يكيو - أي"، أي متع حياة أكثر دنيوية، ولكن أقل دواما، وأخيرا، كما في الحالة اليابانية، ليس هناك مركز مستقر لحياة جماعية· وليس هناك موقع جغرافي محدد أو عضوية في جماعة يمكن أن يرتبط بها مفهوم الجماعة· الجماعة موجودة دائما في حالة كمون، لا يتحقق وجودها إلا في تلك اللحظات التي يكون فيها تواصل بين اثنين أو أكثر من المشتركين في الكلام·

ورغم هذا فإن العالم العائم لمستخدمي الهاتف النقال يختلف أيضا اختلافا مهما عن الحالة اليابانية· الأكثر أهمية، إن العالم العائم لحياة "ايدو" اليابانية غير الرسمية قائم "على الأرض" بالمعنى الحرفي· أي أن خلق الجماعة كان دائما مكانياً يرسم حدوده مقهى تناول الشاي وأحياء الجيشا والحمامات والحدائق والمواخير··· وهكذا كانت هذه الحلبات مقصورة على منطقة العاصمة المركزية "طوكيو"··· بينما يقترب العالم العائم لمستخدمي الهاتف النقال من نقطة لا تكون فيها الجغرافية ذات صلة بالجماعة· فقد يكون المشاركون فيها على الأغلب في أي مكان في أي وقت· إنهم في منأي عن التضاريس الأرضية المادية مثل الحوامة التي ترتفع عن سطح الماء (هوفر كرافت) أو نظام القطارات التي تسير على وسادة إذ ليس هناك موقع محدد يمكن تعيين مكانهم فيه·

قد نتخيل أن المنازل من حولنا في كل وقت هي جماعات صغيرة غير مرئية ولا يمكن تحديد هويتها· ولكن، ونحن نسير أو نشرب القهوة في مقهى، فإن حضورها يكون قائما باستمرار ويجعل نفسه معروفا بالنسبة لنا· كل محادثة بوساطة الهاتف النقال هي علامة على جويزة جنينية اجتماعية مهمة تنتشر في كل الاتجاهات لا شكل لها سريعة التقلب· ونحن لا نستطيع الوصول إلى الجويزة ولمسها، أو الإمساك بها مباشرة أو استجوابها· ومع ذلك، فهي تكمن ربما في مكان ما باتجاه مركز اهتمام أولئك القريبين، وتقود عمليا كل الأفعال·

إن العالم العائم الجديد يختلف في جانب مهم آخر· فبينما ترتبط عوالم طوكيو ببعضها ارتباطا رخوا، فإن أشكال العلاقات الجديدة تمثل في أغلب الأحيان شبكة جماعات مجهرية مترابطة ترابطا محكما· والطرق التي تعزز فيها اتصالات الهاتف النقال وتديم علاقة الجماعة هي موضوع تعليقات وشروح واسعة· على سبيل المثال، يصف "لنج" و"يوتري" (2002) الطريقة التي يعزز فيها الهاتف النقال تناسقا مجهريا، في قدرة الناس ضمن الدائرة على مواءمة أفعالهم بين بعضهم البعض، ويتحركون معا بتناغم كوحدة واحدة، وهناك أيضا استخدام الهاتف في ما يصطلحون على تسميته باسم "التنسيق المفرط" أو تكامل الجماعة بمصطلحات التعابير الشعورية وتعريف الذوات· وحسب وصف "جورين"، فإن الهاتف النقال يأخذنا باتجاه "علاقات انصهارية" تستمد فيها "الدائرة الداخلية" قوة حيوية·

 الهاتف النقال على حد تعبير "فورتوناتي" (2002) هو "أداة معززة، للحميمية بين أولئك الذين هم في دائرة شبكة المستخدم الاجتماعية"· وباستمرار الاتصال، يمكن لمن هم في الدائرة أن ينشئوا درجة عالية من الثقة والتضامن المتبادلين·

ومن المهم أيضا ملاحظة أن العوالم العائمة الجديدة متكيفة تكيفا لطيفا مع متطلبات حياة مجتمع تقنية عالية بالغة التعقيد وسريعة التحول· وهذا صحيح، أولا لأن المشاركين يمكن أن يحصلوا بسرعة على المعلومات من أولئك الذين هم في الدائرة كما تقتضي متطلبات الليل والنهار·

ويمكن للمرء أن يحصل على التوجهات والنصيحة والدعم، والثقة، بالآراء والقيم المشتركة، أو، إذا علم المرء فجأة أو تذكر معلومات مفيدة لآخر في الدائرة، فإن هذه يمكن بثها بسرعة· وهناك أهمية كبرى لدى الكثيرين أيضا لزيادة درجة الأمان التي يوفرها الهاتف النقال· فإذا كان هناك سفر في منطقة غير آمنة، أو قلق من علامات منذرة· أو ظروف ضاغطة (مثل زحمة مرور أو إلغاء موعد رحلة طائرة أو وضع غير مرغوب فيه)، يتوفر فورا مرافقون، وفي جوانب معنية، يؤدي الهاتف النقال وظيفة الطلسم الرمزي الذي يبقي التهديدات الشريرة على مبعدة·

المصدر:

 www.swathmore.edu/SocSci/kgergen1

طباعة  

كتاب
لا زمن بعد الزمن التوراتي ولا مكان... ولا سكان:
بواكير الرؤية الغربية للأرض العربية الخالية... والجاهزة للاحتلال