رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 21 فبراير 2007
العدد 1763

كتاب
لا زمن بعد الزمن التوراتي ولا مكان... ولا سكان:
بواكير الرؤية الغربية للأرض العربية الخالية... والجاهزة للاحتلال

 

 

محمد الأسعد:

يقدم كتاب "ديفيد روبرتس"··· (الرسوم واليوميات) المسمى ""الأرض المقدسة" نموذجا صافيا لنظرة غربية إلى الشرق العربي، وفلسطين تحديدا، لا ترى في جغرافيته الطبيعية والبشرية سوى مسارات التاريخ التوراتي حتى إن اصطدمت هذه المسارات بما يناقضها من شواهد وأسماء وأدلة أثرية·

"روبرتس" هو فنان القرن التاسع عشر الأسكتلندي الشهير الذي قام برحلة إلى مصر وفلسطين ولبنان ما بين العامين 1838 و1839 إبان سيطرة "محمد علي" حاكم مصر على هذه المناطق·

وأنتجت الرحلة مجموعة من الرسوم لمدن وآثار وأناس الأراضي التي مر بها، بالإضافة إلى سجل كتب فيه الفنان انطباعاته، وروى الأحداث التي شهدها، فجمع بذلك بين المشاهد البصرية والرؤية الفكرية· وتأبى دار النشر التي أصدرت هذه المجموعة من الرسوم الليثوغرافية (أي المطبوعة بأسلوب الطباعة على الحجر) مرفقة بسجل الرحلة في العام 1990، إلا أن ترفقها بسرد تاريخي للأب "ج· كرولي" لا يمت لعلم الآثار والمكتشفات الحديثة بصلة قدر ما يمت بصلة قوية إلى الرائج في أجواء ما قبل الدراسات الحديثة، أي ما كان رائجا في القرن التاسع عشر عن هوية الأرض العربية وسكانها، ويكاد ينتمي إلى روايات وخرافات العصور الوسطى، وبخاصة إبان حروب الفرنجة، أو الصليبية بتعبير الثقافة الغربية، أكثر مما ينتمي إلى العصور الحديثة·

وفي السرد الذي وضعه "كرولي" لا وجود لشيء اسمه "العرب" بل التسمية الخرافية التي عرفها الغربيون وأطلقوها على العرب، أعني "السراسنة" متابعة لليونان· ولا يرد ذكر هؤلاء، وبخاصة في ما يتعلق بفتح بلاد الشام، إلا في سياق أنهم سبب معاناة المدينة المقدسة "القدس"، تلك التي لا تتوقف معاناتها إلا مع استيلاء الفرنجة عليها!

أما وصف الأمكنة، فيستند إلى ما يتخيله "كرولي" بتأثير روايات التوراة التي تشكل خلفية المشهد، وكأن كل ما مر بعد الأزمنة التوراتية السحيقة في القدم على الأرض العربية لا وجود له، فالزمن الماثل في القرن التاسع عشر هو الزمن التوراتي والمكان التوراتي! ولا يتأخر الرسام "ديفيد روبرتس" عن صاحبه "كرولي" في هذا المضمار، بل يتقدم بأشواط بعيدة في رسومه وكتاباته·

والمتأمل في اللوحات الليثوغرافية يجتذب نظره أن "روبرتس" ينصرف عن مشاهد الحياة العامة في المدن العربية انصرافا يكاد يكون تاما: الأسواق والمدارس والمساجد والبيوت· فهو إما مشاهد لها من الخارج، يقف بين الجبال والمرتفعات والسهول القاحلة، أو يجلس في دير من الأديرة يرسم جدرانه من الداخل· وتعطي هذه الرسوم انطباعا أوليا عن الخلاء الواسع الذي تقبع فيه مدن أثرية خالية من السكان، اللهم إلا بضعة أشخاص بأزياء تركية يتناثرون عند البوابات أو يخيمون بين البطاح·

وهذه اللقطة الأخيرة تميز كل الرسوم بلا استثناء، فهي لا تكاد تخلو من سكان البادية والأتراك حاملي السيوف والطبنجات المسترخين فوق الرمال بلا مبالاة·

 

أرض بلا شعب!

 

بالطبع، لم يكن "روبرتس" يعرف سوى ما ملأ مخيلته: شرق الحكايات التوراتية، وما عداه هوامش على صفحة الوجود· ولهذا جاءت رسومه معبرة تعبيرا وافيا عن أسطورة الشرق الخالي من البشر والمحتشد بالمدن المقدسة المهجورة، أو بعبارة أدق، جاءت رسومه معبرة تعبيرا وافيا عن تلك الدعوة التي سيكون لها تأثير كبير في الغرب: اكتشفوا واستعمروا الأرض الخالية·

فنان القرن التاسع عشر هذا لم يشاهد في العرب سوى "متوحشين" لا يعيشون بين الجدران أبدا، أزياؤهم عجيبة، وكلهم "مسلح" وتتكرر صفة "المتوحشين" أو "الهمج" إلى درجة لافتة للنظر حتى في وصفه للذين رافقوه من العرب في رحلته لحمايته في منتصف قرن مضطرب·

ولم يكتب "روبرتس" في يومياته عن سكان المدن ولا الأرياف، ولم يصورهم على الرغم أنه تحدث عن الأراضي الزراعية التي مر بها والمدن التي لا شك أنه أقام بين أسوارها· واكتفى بمراقبة حركات وسكنات وجلسات البداة منهم وتصويرهم، والتعبير عن دهشته البالغة لأنه اكتشف معبدا فرعونيا بحالة جيدة على قمة جبل في سيناء، وكأن هذه الأرض لم تكن أرضا مصرية·

ويلعب ناشرو الكتاب لعبة في منتهى الدهاء خدمة لمقولة الأرض الخالية التي روجت لها الصهيونية ومازالت، بأن أرفقوا مع كل لوحة ليثوغرافية صورة فوتوغرافية حديثة للموقع ذاته الذي صوره فنان القرن التاسع عشر· وبالمقارنة البصرية السريعة، وبلا تعليق، يظهر الفرق الشاسع بين موقع يكاد يكون صحراويا في ثلاثينات القرن التاسع عشر وبين الموقع ذاته المحتشد بالخضرة والمعمار والناس في أواخر القرن العشرين· وتوحي هذه المقارنة البصرية بالأيادي "البيضاء" التي أسدتها الصهيونية للأرض الفلسطينية الخالية منذ الأزمنة التوراتية، وحتى وصول المستعمرين الصهاينة·

لاشك أن الفنان الأسكتلندي الذي كان خاضعا في رؤيته البصرية الانتقائية للرائج من أساطير عصره حتى في ما يخص بلده أسكوتلندا التي كان الإنجليز يطاردون سكانها آنذاك وقد استكملوا استعمارها، لم يكن يخطر بباله أن تستخدم رسومه بهذه الطريقة، ولا كان يقصد ربما إثارة موجة حماس لاستعمار "الأرض الخالية"، إلا أن هذا هو ما حدث في هذه الطبعة الجديدة لرسومه، فظهرت المدن العربية أكواما من الأحجار النائية في الأفق وسط مهاو ومرتفعات جرداء· وساعد التلوين الليثوغرافي الذي أضيف إلى اللوحات حديثا، وبخاصة مع طغيان اللونين الأصفر والرمادي، على إظهار أخصب البقاع في فلسطين ولبنان وسورية على أنها صحراء خالية· وهو ما يعزز من جانبه الصورة الكامنة من العقلية الغربية: صورة الصحراء التي انسحبت حتى على المناطق العربية الشمالية في فلسطين ولبنان· وكل هذا حتى تظهر المفارقة الجلية بين الأخضر الذي تلتقطه الصورة الفوتوغرافية، والأصفر المنسوب إلى الماضي، ماضي هذه الأرض وسكانها·

 

الصاق الخيال بالواقع

 

الكتاب بهذا المعنى صورة أعيدت صياغتها لتلائم أغراض الحاضر الاستعماري، والصهيوني منه بخاصة، وتبرره،· ليس لأن شروحات "كرولي" ذي العقلية، القروسطية تتحدث عن "أرض إسرائيل" قبل إقامة دولة بهذا الاسم في العام 1948 فقط، بل لأن الاتجاه كله يود أن يقول إن الأرض الخالية التي شاهدها "روبرتس" لم تعد خالية· وربما لهذا السبب عمد ناشرو الكتاب إلى تصديره بكلمة لعمدة القدس المحتلة "تيدي كولك"، وإلى وضع خرائط لفلسطين هي مما اخترعه التوراتيون قبل قرن ونصف تقريبا، خرائط تحاول أن تطابق بين جغرافية فلسطين الطبيعية وجغرافية التوراة الخيالية، فتظهر في الخرائط مدن مثل "سادوم" و"عمورة" في وسط البحر الميت! وتطلق على المدن والأراضي تسميات لم تعرفها في تاريخها ولا أثبتها تاريخ ولا علم آثار أو لغات، بل وضعها توراتيون في محاولة لإيجاد تطابق بين المدن والأراضي الكنعانية والفلسطينية وبين مدن وأراض ورد ذكرها في التوراة، حتى لو اضطرهم الأمر إلى ليّ أعناق المدن وأسمائها أو تجاهل التضاريس الأرضية والمسافات·

قلنا في البداية إن هذا الكتاب يقدم نموذجا صافيا لنظرة ثقافية غربية لا ترى في المشهد العربي غير مسارح التاريخ التوراتي، ونعني بذلك نظرة أخرى مختلفة إلى حد ما عما تسمى "النظرة الاستشراقية"، فهذه الأخيرة لا تتجاهل الوجود العربي، سواء كان في الزمان أو المكان، بل تضعه موضع الدراسة، أما النظرة التي يخرج بها الكتاب فهي تتجاهل هذا الوجود تماما، وهذه النظرة لم تلفت نظر إلا قلة من الباحثين،، فلم يهتم أحد برصدها ورصد آلياتها ووسائلها التي تدخلت في تشكيل صورة العالم العربي في العقلية الغربية، بل قاومت حتى النظرة "الاستشراقية" التي قدمت رغم طابعها العدواني العام، صورا معرفية إلى حد ما بالعربي تراثا وتاريخا وجغرافيا· كتاب "روبرتس" كما رسم وكما قدم رسومه الناشرون، يجسد نظرة أخرى في الغرب تجاه العربي أشد تعسفا من "النظرة الاستشراقية"، هي النظرة الصهيونية تحديدا·

طباعة  

الجماعة والذات في العوالم العائمة الجديدة