رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 14 فبراير 2007
العدد 1762

لندن.. حين تكون واقعاً خيالياً.. زائفاً!

أناهيد الحردان- لندن:

شهران ونصف مرا حتى الآن منذ ان انتقلت من ضاحية "رتشموند" الى شارع "هامر سمث" أحد الأهداف الرئيسية لهذا الانتقال رغم أنه ليس الهدف الوحيد كان اختصار رحلتي اليومية بالحافلة من ساعتين ال ساعة واحدة لم يعد سلوك طريق قطارات أنفاق ما تحت الأرض تدريجيا خياراً سواء بسبب التكاليف السخيفة لتذاكر الطلبة شهرياً أو بسبب نفوري عموماً من مواصلات لندن المتحركة تحت الأرض، في البداية كانت جديدة ومثيرة متعة أن تزج أو تدخل بطاقة في البوابات التي ستفتح أمامك بأسلوب فيلم من أفلام العنف والإثارة الهوليوودية وتنحدر بعدها مئات الأمتار تحت الأرض وهذه المرة على طريقة أفلام الخيال العلمي الهوليوودية حقاً وصدقاً·

لم يكن قد مر وقت طويل حين اكتشفت الجانب الآخر لمواصلات ما تحت الأرض، وهو اكتشاف شكل رادعاً قوياً إلا في حالات الضرورة، ما دام يعني أن رحلتي هي من أحد أطراف لندن الى طرفها الأخر·

إنه الجانب الذي أصبحت أصفه باسم الجانب الخيالي الزائف "Matrix" وأيضا مرة أخرى بالهام كامل من هوليوود وكيف يمكنك أن تجعل مثل هذا النظام اللا معقول معقولاً ومفهوماً بطريقة أخرى نظام تمثله رمزيا طرقات ما تحت الأرض ومع ذلك يتغلغل في كل جانب من جوانب لندن ويسيطر عليه وعلى ما يظهر عنصر خارجي لا يبدو أن أحداً في الداخل يعيه ولو عن بعد؟

لم أصل إلا تدريجيا الى رؤية الطرقات تحت الأرض كصورة مصغرة للندن، كعالم خيالي زائف كعالم مصغر لليد الخفية للنظام الاقتصادي السائد، ذلك النظام الذي تسيطر فيه على الكائنات البشرية المغيب وعيها تماماً·

 وتثير بعضها ضد بعض قوى ماثلة وغير ماثلة في وقت واحد معاً·

وتتجلى هذه السيطرة في السلوك الشبيه بالنشوة الجماعية للعمال وهم يسافرون في أنفاق لندن وبخاصة خلال ساعة الذروة سواء في طقس اندفاعاهم عبر البوابات مع كل صباح كما لو أنهم وراء مهمة حياة أو موت، مستعدين لدوس كل من يقف في طريقهم أو بالجلوس صامتين صمتاً مطبقا يشربون قهوتهم ورؤسهم ملتصقة بصحفهم أو بالعودة الى بيوتهم في كل مساء بالأسلوب ذاته الشبيه بالطقس ورؤسهم ملتصقة هذه المرة بصحيفة "اينفنج ستاندار" عائدين الى الضواحي التي بدأت منها رحلاتهم في الصباح·

هذا الشعور بمواصلات ما تحت الأرض الشعور بما يشبه الواقع الزائف، تضخمه ضرورات لا إنسانية مجمل النظام كي يقوم بوظيفته وكي تترجم الى طقس يستلزم تقارباً جسدياً وثيقا ومع ذلك يستلزم وجود مسافة عاطفية وروحية مهمة ينصاع العمال الى مراعاتها وهم في حالتهم الشبيهة بالنشوة الجماعية·

ذات يوم سررت سروراً بالغاً حين علق على هذا العالم التحتي الزائف مشرد من الذين يجدون مأوى لهم في أنفاق القطارات أثناء ساعة من ساعات الذروة مساء، فحين انتهى من الغناء والعزف على غيتاره ولم يعطه أحد شيئاً كالعادة ولا التفت الى وجوده التفت إليَّ وبدأ يتحدث عن حماقة هؤلاء الناضجين الذين في محاولتهم تجاهله بإلصاق وجوههم أعمق فأعمق في صفحات صحفهم، كانوا يتحولون بتقليد إنجليزي عريق الى كائنات مرئية خرقاء، انظري كم يجهدون أنفسهم في محاولتهم تجاهلي! وكم هو مزعج عدم الارتياح الذي سببته لهم يظنون أني غير متمدن·

وأضاف بابتسامة ساخرة، ربما أكون غير متمدن ولكنني حي على الأقل أما هم فكلهم أموات·

على الرغم من أن الكثير من عناصر هذا الواقع الزائف جلية في نظام حافلات لندن أيضا فمن  العدالة  القول إنه لم يجعل الشعور به قاسيا في الحافلات حيث هناك لأسباب متنوعة مجال أوسع لسلوك شبيه بالسلوك الإنساني عند الحد الأدنى·

والسبب الرئيسي لهذا هو أن الأغلبية الطاغية من العمال تستخدم مواصلات العالم السفلي بدلاً من الحافلات وتبعا لذلك لا تستدير الوجوه جانباً حين يجرؤ إمرؤ على كسر أعراف الصمت الاجتماعية في عالم لندن التحتي·

وأعتقد أيضا أنه بفضل السواح الذين يأتون ويخرجون من لندن طيلة العام والذين يبدو أنهم يفضلون الحافلات على قطارات الأنفاق، ينخرط أناس من ثقافات متباعدة في ثرثرة حية وحركة صعود الى الطابق العلوي من الحافلة حيث تجلس غالبيتهم·

قال عزمي بشارة السياسي الفلسطيني ذات يوم متذكراً أيام دراسته في المانيا الشرقية أن ركوب الحافلات وسيلة الإنسان الفقير للتأمل·

وأتذكر كلماته بين آونة وأخرى خلال رحلتي  اليومية من الجامعة وإليها فقد أصبحت رحلتي كلها في الحافلة تتميز بالتأمل في الحياة والناس في لندن وغير لندن، من المكان الذي تشكلت فيه ولوحظت أفكاري عن الواقع الزائف، ومثلما هو حال عازف الغيتار المشرد فإن مكاني الهامشي في هذه المدينة "كوني منها ومع ذلك لست منها" يتيح لي التأمل من الخارج في الأشياء الصغيرة في الداخل، تلك التي تؤخذ غالباً كمسلمات بالنسبة لمن هم في الداخل ولكنها الأشياء ذاتها التي تبدو لي أنها تشكل الصورة الأكبر·

إن السهولة التي أستطيع فيها الإنسلال انسلالا ممكنا الى هذا الواقع الخيالي الزائف الخفي المرئي حين أكون في لندن التحتية وتوقع أن أصبح عديمة الحساسية تجاه البيئة المحيطة بي سواء بطريقة ملموسة أو غير ملموسة شأني في ذلك شأن الثمانية ملايين من زملائي اللندنيين، لهي سهولة وتوقعات مذهلة· فأنا الأن أقوم بطقس تنقلاتي اليومية متجنبة قدر الإمكان ساعات الذروة في الساعة التاسعة أو العاشرة من محطة حافلات هامر سمث الى هاي ستريت كينسنجتون·

وفي الوقت نفسه يتمحور هذا الطقس حول الحفاظ على جهد واع للبقاء إنسانية بقدر الإمكان·

ويندمج هذا المجهد الواعي اندماجاً عميقاً في التأمل تقطعه أحياناً لقاءات نادرة مع مجموع متنوعة من الأفراد خلال رحلتي اليومية وهو تأمل يبقيني مقيمة لولا ذلك في مدينة مخبولة حيث من السهولة بمكان السماح لكل شخص ولكل شيء أن يصبح جزءاً من خلفية الصورة الى أن تجد نفسك تدريجيا وقد أصبحت جزءاً من تلك الخلفية ذاتها ايضا فاقداً الجوهر ذاته الذي يجعل منك كائنا إنسانياً·

إنني غالبا ما أجد نفسي منسلة بلا وعي الى هذا المكان أو ذاك ويبدو أنني أحاول تجنب ما لا يمكن تجنبه في مدينة يعني حجمها أن هذا الأمر محال بهذه الطريقة أو تلك·

في مدينة يمتد فيها الواقع الخيالي الزائف المتبلور في شبكة الإنفاق الأرضية الى ما هو أبعد من شبكة الانفاق ذاتها·

 *لفظة "Matrix" ذات معاني فنية متعددة إلا أنها هنا تحيل الى المعنى الذي جسده فيلم "Matrix" الهوليوودي في العام 1999 "كتب قصته واخرجه لاري وآندي فاتشو فسكي" يصف الفيلم مستقبلا يكون فيه العالم بالفعل "Matrix" أي واقعا متخيلا زائفا تخلقه آلات واعية كي تخضع البشر وتستخدم الجنس البشري كمصدر للطاقة  وذلك بتنشئتهم وربطهم بالواقع الزائف بأنسجة حية مزروعة ذاتية التنظيم وقد احتوت قصة الفيلم على أفكار ثقافات ثانوية وأفكار فلسفية ودينية بما في ذلك أفكار الغيدا الهندية وأفكار عودة المسيح بالإضافة الى المثل الأفلاطونية وأفكار سقراطية وديكارتية·

طباعة  

انهيار نظرية الأمن القومي الاستراتيجي الإسرائيلي