رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 7 فبراير 2007
العدد 1761

الهاتف النقال.. وتحديات الوجود الغائب!

                                 

 

د. كينيث جيرجن:*

المشهد هو مشهد غرفة خاصة بكبار السن في ملجأ عجزة يدخل "ولفريد" الى الشرفة باحثا عن صديقين مقربين فيجدهما حاضرين لحسن الحظ، ولكن الحظ سرعان ما يغادره فأحدهما مشغول مع سماعة استماع شخصية، والآخر غارق في كتابه وكلاهما لا يلحظ حضور "ولفريد" وهكذا يترك "ولفريد" وقد أحبطه المشهد، ليحدق صامتاً في الفراغ·

هذه هي بداية مسرحية "رونالد هاروود" اللندنية المسماة "رباعية"· سواء كنا كباراً أم شباباً فإننا سرعان ما نندمج في هذا المشهد ونتماهى معه، فكم هي المرات التي ندخل فيها غرفة لنجد الأسرة أو الأصدقاء أو الزملاء مستغرقين في شاشات حواسيبهم أو تلفازاتهم أو هواتفهم أو أقراص تسجيلاتهم أو صحفهم أو حتى كتبهم؟ هم يرحبون بنا ربما بلا تردد، ولكن هناك توقف أحيانا مصحوب حتى بنظرة غيظ مكتوم·

وأحيانا قد يمر حضورنا من دون أن يلحظه أحد أبداً· نحن حاضرون ولكننا نتحول  في الوقت نفسه الى غائبين، لقد تم محونا من قبل حضور غائب·

إن توسيع القرن العشرين وما جاء بعده لظاهرة الحضور الغائب هو ما أود استكشافه في مايلي من سطور· وما يعنيني هو تنامي مجال الوعي المنقسم أو المنحرف الذي تستدعيه تقنية الاتصالات وعلى الأخص تقنية الهاتف النقال·

في هذا المجال يكون المرء حاضرا حضوراً جسديا، ولكن يستغرقه استغراقا تقنيا عالم وسيط من مكان آخر، هذا العالم نمطيا هو عالم علاقات، فعالة بذاتها أو بغيرها على حد سواء، تتخلق فيه أو تطيل البقاء مجالات معنى· وتدس مجالات المعنى المتغيرة هذه نفسها على نحو متزايد في عالم الحضور الكامل·

ذلك العالم الذي لولاه لاستغرقت المرء وكونته العلاقات المباشرة الملموسة التي يتواجه فيها الناس وجها لوجه·

 

ماذا يعني الحضور الغائب

 

اهتم والتراونج "1982" في بحثه الكلاسيكي في الملفوظ والمكتوب اهتماما رئيسيا بآثار تقنية الطباعة على الحياة الذهنية، بما في ذلك بنية الذاكرة والتحليل العقلاني وأشكال الفهم·

ولكنه أعطى القليل من الاهتمام لما تعنيه تقنية الطباعة ومتضمناتها بالنسبة للحياة الاجتماعية، للطرق التي تمس بها العلاقات الطباعية مساً وثيقا، على سبيل المثال، أنماط الثقة والحميمية وحياة الأسرة وعلاقات الجماعات·

مع ذلك هناك بتعابير الحياة الاجتماعية إحساس مهم بالكيفية التي أصبحت فيها تقنية الطباعة إحدى أكثر القوى ثورية في الألفي عام الماضيين، ولتقدير هذه الإمكانية حق قدرها من المفيد أن نضع في اعتبارنا التكوين الاجتماعي ووظيفة اللغة·

لقد تحقق وجود اللغة (وجود المعنى) عبر علاقات منسقة بين الناس، وعبر اللغة اكتسب الناس طرق فهمهم للعالم ولأنفسهم·

وفي قلب الجماعات نشأت نمطياً مبادئ لوجود الحياة اليومية وشيفرة أخلاقية على حد سواء في اللغة، ولعبت هذه اللغات دوراً تكاملياً في كل من تكوين وعقلنة الموروثات والمؤسسات الجماعية·

ولهذا في الوقت الذي ننتج فيه لغات العدالة والحرية والمعرفة، على سبيل المثال، ومثلما تصبح هذه اللغات ذات دور تكويني تؤديه في قلب مؤسساتنا "القانونية والحكومية والتربوية مثلا" فإن جماعة من الجماعات تحظى بإمكانية الفهم المتبادلة وتتبين نفسها كجماعة قابلة للتعريف·

الافتقار الى تدخل خارجي ومبادئ وأخلاقيات محلية يمكن أن يدوم مع ارتياح نسبي، الافتقار الى أصوات معارضة ووجود القليل مما يمكن المقارنة به والقليل من دواعي التساؤل· وهكذا فإنه طالما اتسقت كل الأصوات في التأكيد على أن العالم مسطح فلن يكون هناك  سبب ملح للإعلان عن أن العالم كروي·

وقد يبدو مثل هذا الادعاء الأخير بذاته هراء وبلا معنى·

ولهذا السبب فإن نشوء تقنية الطباعة وتطورها ينطوي على ممكنات ثورة شاملة الآثار: فقد تدخل كثرة كاثرة من الأصوات من محيطات بعيدة من دون اكتشافها في أي وقت لتتحدى واقعا تحتفي به جماعة المرء المباشرة·

ولكن رغم أهميتها يجب أن ينظر الى تقنية الطباعة كقوة أولى ليس إلا في البزوغ التاريخي للحاضر الغائب، لقد وسعت تطورات القرن العشرين التقنية المجال الذي نعيش فيه توسيعا دراماتيكيا، ولا أتحدث هنا عن مجرد تطور نظم الإضاءة التي مكنت الناس من القراءة على مدار الساعة، ولا عن مجرد التزايد الهائل في الأعمال المنشورة "الصحف والروايات المتخصصة وما أشبه" ويقال إن %90 تقريبا من أعمال عالم الغرب المنشورة قد تم نشرها في القرن الماضي وحده، بل علينا أن نأخذ في اعتبارنا عملياً كل تقنيات الاتصال التي تمكن الناس من التواصل من على مبعدة بوصفها مساهمات بالغة القوة في قيام الحاضر الغائب·

هناك أولاً كل ما يمكن أن نعتبره تقنيات "الحضور ذاتي المناجاة"، وهنا يمكن أن نضع الأكثر بروزاً، ظهور المذياع وأدوات التسجيل الإلكتروني "مثل الحاكي وشريط التسجيل وأقراص التسجيل" والفيلم والتلفاز· والتقنيات في كل حالة من هذه الحالات، ذات طابع جماهيري "مع دخول المذياع والتلفاز الى كل بيت" وتحافظ على دوامها استثمارات صناعية كبرى، ولكن في مساهمة هذه التقنيات بإقامة حاضر غائب هناك عاملان جديران بالاهتمام·

الأول في جوانب معينة هناك درجة متدنية نسبيا من إمكانية الإحلال أي القدرة على زعزعة نظرة الالتزامات المحلية تجاه ما تراه واقعيا وخيراً· فقد توفر التقنيات بوصفها "مناجاة ذاتية" معلومات أو محفزات إلا أنها وهي تفعل هذا تتكلم ولكنها لا تخاطب مباشرة أحداً محدداً إنها تدس أصواتاً مغايرة في ظروف الحياة اليومية، ولكن هناك وسائل ضئيلة "باستثناء الحديث للمذياع على سبيل المثال" يمكن أن يستجيب المرء بوساطتها·

والمرء لا يستطيع أن يطلب إيضاحاً أو تدابير أو أمثلة  ولا يستطيع توجيه أسئلة، والنتيجة هي أن هناك إمكانية  ضئيلة لحدوث نوع من انخراط في حوار، ذلك الحوار الذي يولد منه المزيد من التحولات العميقة في الفهم والالتزام·

بل لا يمتلك المتحدثون في هذا النوع من الوسائط عادة معرفة بالحياة الشخصية للذين يستمعون اليهم، وبهذا المعنى فإن رسائل المذياع والتلفاز والفيلم غير شخصية·

وبالنتيجة تظل الأصوات التي تحملها مثل هذه الوسائط التي تناجي ذاتها على مسافة خطوة من حياة الجمهور·

فقد تتم متابعتها وقد لا تتم أو توضع موضع "خلفية من الضوضاء" أو يوضع لها حد بضغطة زر·

السمة الثانية المهمة لتقنيات المناجاة الذاتية هذه هي تحولها الى أدوات خاصة تقدمية مثل هذه التقنيات في بدايتها سهلت الاستقبال الجماعي إذ قد تلتقي العائلات حول المذياع وبعد ذلك حول التلفاز وكانت التسجيلات الموسيقية تعزف عادة أمام أسرة وهكذا توفرت للجميع، واستخدمت السينما كدعوة للقاء بالأصدقاء والمواعيد أو التجمع العائلي، وفي ظل هذه الظروف يمكن أن يفكر الجمهور أو يتأمل بما يسمع أو يرى وقد تكون هناك اختلافات واسعة في الرأي تكون فاعلة على أرضية القدرات التمزيقية للوسائط وهناك كما تظهر الكثير من دراسات الاتصال أمثلة عديدة على تكييف جمهور ما لمعنى المادة التي يتلقاها لأغراضه على سبيل المثال تتوصل دراسة براون "1994" لجمهور المسلسلات الاجتماعية الخفيفة "Soap Opera" الى أن النساء يناقشن معاني مواد المسلسلات بطرق باطنها مقاومة للنظام الأبوي على عكس النظرة الشائعة من أن هذه المسلسلات تساعد على تثبيت بنية قيم النظام الأبوي، وتستخدم النساء خلال أحاديثهن هذه المواد بطرق تؤكد سلطتهن ولكن مثلما انحدرت تكاليف تقنيات الاتصال الذاتية هذه وتصاغرت باستمرار فإنها في الوقت نفسه انزاحت انزياحاً متواصلاً عن مكانتها كموضوع تأمل جماعي، فالكثير من البيوت الآن تمتلك عدداً من أجهزة التلفاز بحيث أصبح لكل فرد من أفراد العائلة تفضيلات مستقلة  تستغرق اهتمامه وفي الكثير من الطائرات لكل مسافر شاشة خاصة ذات قنوات متعددة يختار منها ما يشاء، وأشرطة الفيديو توفر للمرء مشاهدة فيلم على انفراد في غرفته الخاصة، وتتيح أجهزة الاستماع الفردية للناس الاستغراق في أذواقهم الموسيقية منفردين، يضاف الى هذا أنه مع تعدد القنوات الإذاعية والتلفازية تتضاءل فرصة أن يشاهد ويسمع آخرون المواد نفسها، والخلاصة هي أنه في حالة تقنيات المناجاة الذاتية نجد درجة متدنية نسبياً من درجات السلطة القادرة على التحويل ونجد تزايداً في إمكانية أن ينغمر الناس في عوالم خاصة كنقيض للعوالم الجماعية·

ومن الممكن إقامة تضاد مفيد بين تقنيات الاتصال الذاتية وتقنيات الاتصال الحوارية ويمكن أن يشمل الصنف الثاني والفيديو وألعاب الحاسوب وشبكة الانترنت الأبرز بينها·

كل هذه التقنيات وأمثالها تسهل تدفق حركة تفاعلية في المعنى وسأضع موقتا الحديث عن الهواتف جانباً الى أن نصل الى الحديث عن الهاتف النقال، في حالة الفيديو وألعاب الحاسوب فمع أنها حوارية إلا أنها أرض جرداء نسبيا في ما يخص المحتوى ذا الصلة بعالم يقع خارجها·

إننا قلقون بشأن تأثيرات العنف في مثل هذه الألعاب ولكن التماثل بين حروب الفضاء على سبيل المثال وتحديات الحياة اليومية ضئيل·

الأكثر أهمية من هذا بكثير في ما يخص إحداث تحول في إنشاءاتنا للعالم هي شبكة الأنترنت فوفق مصطلحات الحضور الغائب تحمل شبكة الانترنت وعوداً بأن تكون تبعاتها أكثر عمقاً مما يحمله تطور الطباعة هنا لدينا تقنية تكمن في إقامة صلات فورية بين الناس في مختلف أرجاء العالم، وقد تزج أصوات غرباء من أي مكان على مدار الساعة بنفسها فوراً في وعي المرء علاوة على هذا تستجلب اتصالات البريد الالكتروني درجة عالية من الانخراط في الحوار وعلى عكس تقنيات المناجاة الذاتية فإن المرء يشارك في إنشاء العالم وهذا الإنشاء يمكن ان ينتج إنتاجاً فريداً بظروف المرء الشخصية ويعبر عنها وعلى خلاف الكثير من تقنيات المناجاة الذاتية فإن البريد الإلكتروني هو أيضا شأن شخصي بالكامل وفي النتيجة يمحو غياب مهيمن عملياً ما هو حاضر·

 

التخندق: الهاتف النقال

 

تآكل وجود مجتمع الحضور وجها لوجه ولحمة ومركزة الإحساس بالذات والآثار المعنوية وعمق العلاقة وخلع المعنى من السياق المادي الملموس كل هذه مضاعفات الوجود الغائب وهذه هي نتائج تطور وانتشار تقنيات اتصالاتنا الكبرى في القرن الماضي·

ومع ذلك فالمثير الى حد كبير أن الهاتف لم يكن متضمنا في المناقشة السابقة للحضور الغائب، وعلينا الآن إحداث تعديلات، حين بدأنا بتناول وظيفة الهاتف، بدأنا أيضا بتقدير ممكنات الهاتف النقال العميقة ولا يعني هذا القول إن نتائج الهاتف النقال ذات معنى أحادي، من الواضح أن هناك أشكالاً مختلفة من الاستخدام، وكل واحد من الأشكال يكيف ما سأعتبره هنا (ضغطه الأساس) على الحياة الثقافية·

حين دخل الهاتف الحياة الثقافية في مطلع القرن الماضي قام بوظيفة توسيع العلاقات المباشرة "وجها لوجه" من ناحية المبدأ إذ أمكن للجيران وزملاء العمل التواصل مع بعضهم البعض من دون الانتقال جسدياً من مكان الى مكان ولا ريب أننا هنا نجد توسعا للحضور الغائب ولكنه من نوع مختلف اختلافا كبيراً عن ذلك الذي تناولناه آنفا· الهاتف يتطلب بالفعل أن يصرف المتكلمون انتباههم عن محيطهم المباشر ولكن من الجوهري هنا التمييز بين حضور غائب يظهر ما قد تدعى المصادر الدخيلة للنمو كمعارضة للمصادر الخارجية للنمو·

المحادثة الهاتفية في السنوات المبكرة كانت ذات مصدر داخلي للنمو على نطاق واسع على خلاف المذياع والطباعة والنشر والسينما والتسجيلات الصوتية، والتلفاز التي تجيء من خارج الجماعة، منبع المحادثة الهاتفية يقع في نطاق ممكنات العلاقات المباشرة وجها لوجه ويتسع في هذا النطاق·

من عدة جوانب فقد الهاتف قدرته كمصدر لعلاقة داخلية النمو ويرجع هذا في جزء منه الى الانتشار الجماهيري لأرقام الهواتف وانخفاض تكلفة البث من مسافات بعيدة هنالك بالنسبة للمرء دعوة جاهزة للمعروف عن بعد أن يتدخل فجأة في حياتنا المباشرة، وأصبح جهاز الرد الآلي الذي كان يستخدم في الأصل لضمان أن لا تفقد رسائل القريبين منا آداة في أغلب الأحيان للدفاع ضد البعيد والتجاري·

ولم يعد المطلوب أداة تسجيل بقدر ما هو شاشة تختار منها المكالمات التي ترد عليها يضاف إلى هذا، وبسبب أن السيارة "مع وسائط النقل العامة والطائرات" تستدعي درجة عالية من الحراك والتنقل وبسبب أن العائلات ذات الدخلين أصبحت هي النمط الشائع فقد قل وجود أناس المجتمعات ذات العلاقات المباشرة على أساس الوجود على مدار الساعة وغالبية مجتمعات الضواحي تظل خالية نسبيا خلال النهار والنتيجة هي أنه لا توجد إلا بقايا لمجتمعات العلاقات المباشرة قد يفيدها الهاتف في ترقيع علاقاتها·

في هذا المفصل أصبحت دراما الهاتف النقال ظاهرة بتمامها فهو مفيد الآن كأداة ممتازة في تقوية مصدر النمو الداخلي، لقد أصبحت وقائع واخلاقيات العلاقات المباشرة قابلة للأحياء وليس السبب فقط هو الاتصال الدائم الذي يوفده الهاتف النقال بل هي واقعة أنه ما دام مستخدمه تحول الى شخص معرض للمكالمات في كل وقت ليلاً أو نهاراً فقد استدعى الأمر انتقاء دقيقاً لأولئك الذين سيسمح لهم بالوصول الى رقمه ومثل هذا الوصول محدد عادة بأولئك الذين لولا ذلك كانوا "ممنوعين" من الوصول بالمعنى التقليدي العائلة والأصدقاء المقربين والزملاء الحميمين وما الى ذلك، وبهذه الطريقة يمكن أن تحافظ الدائرة المصغرة على ثباتها الدائم، صحيح أن مجال الحضور الغائب قد اتسع ولكن هذه المرة ما تنقطع عادة هي العلاقات العابرة كضد لعلاقات الدائرة الصغيرة وتقوم الطبيعة الحوارية للتواصل بوظيفتها كمصدر إضافي للحيوية وأمثلة مثل هذه التقوية للدوائر الصغيرة ماثلة في كل مكان ففي رحلة تستغرق ساعة من نيويورك الى فيلادليفيا هاتف الرجل الجالس في المقعد المجاور زوجته "ماريا" لا أقل من أربع مرات لمشاركتها بأمر ما وتستخدم سارة جروف وقت رحلتها اليومية لملء 45 دقيقة بقضاء وقت مع أقرب اصدقائها يومياً ويجهز الجيران أبناءهم بهواتف نقالة لضمان مراقبة قريبة وآمنة لهم·

وتنعكس فعالية توسيع الهاتف النقال لسلطة وقائع مصادر النمو الداخلي جزئياً في  شعور الكثيرين بالامتعاض تجاه أولئك الذين يستخدمونه بوجودهم، وليس الأمر مجرد أن يتعرض شخص لقطع حديثه بمكالمة قريبة بل هو أن أمثال هذه المكالمات تقصى بفعالية شخصا من المشاركة·

المحادثة بالهاتف النقال تنشئ عادة "فضاء داخلياً" بيننا نحن المتحدثين كمعاكس لما هو "فضاء خارجي" يتألف من أولئك الذين هم على مسمع منا ولكنهم ممنوعون من المشاركة·

وحقيقة أن الأمر ليس مهما سواء اصغيت أم لا إشارة تبطن دلالة على أهمية الآخر الخارجي·

ولعودة الحيوية الى العلاقات المباشرة علاقات وجها لوجه أيضا اهتزازات ثقافية على نطاق واسع ولنأخذ في اعتبارنا تبعات الحضور الغائب كما ناقشناه في البداية· الهاتف النقال بدل أن يمنح دلالة أفقية للعلاقات نجده يمنح نفسه لإعادة تخندق عمودية وفي ضوء الميزات التي يؤمنها الهاتف النقال لقلة مختارة سيكون هناك ميل أقل للانتقال حرفيا أو تشبيها عبر العلاقات بل سيُنفق وقت اتصال المرء انفاقا متزايداً في حضور أولئك الذين يهمونه·

ووفق هذه الميزة نفسها فإن كوابح سترتفع أمام  الميل المتسلسل نحو تشظي وتوزع الذات، مع الهاتف  النقال، فإن جماعة المرء الحميمة تثبت هويته أكثر فأكثر وبفعالية بوصفه فرداً منفرداً ووجوداً متماسكاً ويذكر المرء دائما، وإن بألم أحيانا، بمكانه في انسياب الحياة الاجتماعية·

وهنا تكمن أيضا منابع لتجديد البوصلة المعنوية، ويتجلى بإعادة الحيوية الى الهوية الفردية أيضا نمط فريد من أنماط الصواب والخطأ والواجب والالتزامات·

وفي ما يتعلق بالعوالم القائمة التي تشجعها تقنيات الوجود الغائب السابقة تبرز صورة أكثر تعقيداً فمن جهة يجلب الهاتف النقال معه توسعاً لعالم رمزي ربما يرتبط ارتباطا ضئيلاً بالمحيط العملي المباشر لكلا طرفي المحادثة حين يغرق عابر في الطريق أو طاعم على مائدة أو المسافر في قطار في محادثة بالهاتف النقال، فهم يتوقفون عن كونهم مشاركين مشاركة كاملة في السياق المباشر من حولهم، ويدفع الآن الكثير من الدول الى منع الهاتف النقال خلال قيادة السيارة التأثير القاتل لمثل هذا الانعطاف عن السياق المباشر (ألقي القبض منذ وقت قريب على سائق سيارة يقود بركبتيه وقد انشغل في استخدام هاتفين نقالين)·

في الوقت نفسه، هناك طريق أكثر رفعة يسهل فيها الهاتف النقال تكاملاً جديداً بين الغائب والحاضر، ولنأخذ حكاية رواها زميل: على مائدة عشاء كان الوالدان يضعان موانع أمام خطط ابنتهما الاجتماعية لقضاء ليلة السبت فهي يجب أن تعود الى البيت مع انتصاف الليل كما قالا، ووافقتهما العائلة الصديقة، ولكن بدلا من أن تخضع الابنة للأوامر سحبت هاتفها النقال من جيبها وبدأت تطلب أصدقاءها، وحين أخبرها هؤلاء واحداً بعد الآخر بأن عائلاتهم وافقت على بقائهم لساعات متأخرة اتخذ الحوار منحنى مختلفاً ووضعت ببطء خطة تسوية، إن عوالم الشبان والناضجين وعوالم العائلات والجيران البعيدين متداخلة النسيج·

في مثال آخر سمعت كزبون في طابور أمام آلة دفع ثمن البضائع إحداهن تهاتف صديقا، وانتبهنا كلنا الى أنها صدمت لدى سماعها بوفاة أحد معارفها وبعد أن انتهت المكالمة استدارت احدى الزبائن التي دفعت ما عليها وقالت أنها تعرف الرجل أيضا، وأنها تأثرت لسماعها الخبر وهنا انضم تاجر ليقول أن الخبر ظهر في صحيفة الصباح وقدم الصحيفة للجميع ليقرأوا الخبر، وهنا مرة أخرى ساعد الهاتف النقال على انتساج عوالم لولا ذلك لكانت في حالة انقطاع والنتيجة هي أنه بسبب مرونة دخوله في سياقات اجتماعية واسعة، وسمات التواصل شبه الجماهيرية له، فإن الهاتف فريد من نوعه فعلاً في قدرته على ربط عوالم غائبة بالظروف المباشرة والتي لولا ذلك لظلت عوالم غائبة·

عن:

 www.swarthmore.edu

طباعة  

عولمة وسائل الإعلام: النقل الفوري للثقافة والإيديولوجيات