محمد الأسعد:
تأصيل أي نشاط إنساني لا يصبح ملحا إلا في الأمكنة المقفرة والأزمان المفقودة، لأن التأصيل استنبات للحدائق الخاصة واستحواذ على الزمن الخاص، وكل هذه ليست سوى بديهيات في عصور الازدهار والفعالية·
الفن التشكيلي العربي، كأي فعالية إنسانية أخرى بدأ مجدداً في الوطن مع الاصطدام بحداثة العالم الخارجي المعاصر، أوسع الاصطدام بالأضواء الكاشفة بمصابيح علماء الآثار وهواة المنحوتات والمخطوطات الأوربيين وهم يندفعون لإزالة الأنقاض عن تاريخ الحضارات القديمة في العراق ومصر وسورية والجزيرة العربية والصحراء الكبرى·
إشكالية هذه البداية تأتي من كونها جاءت في ضوء هذه الاكتشافات التي شملت الآثار الدارسة والمخطوطات المنسية والأعراق والأجناس المجهولة، وكل الشواهد القائمة تحت بصر إنسان هذه المنطقة منذ قرون من دون أن يشعر بوجودها شعورا يتجاوز المصادفات، والمرور بها مروراً عابراً·
في هذا السياق، لا نستطيع تجاوز اللحظة الطريفة التي يصفها "لايارد" البريطاني حين كشف عمال الحفريات في شمالي العراق في أواخر القرن التاسع عشر عن تمثال الثور الآشوري المجنح، ففروا هاربين لاعتقادهم بأن الرأس الحجري هو رأس شيطان من شياطين أقاصيصهم الخرافية· ولا نستطيع أيضا تجاوز تلك اللحظة التي يصفها ذات ليلة مقمرة وهو ينقل التماثيل الضخمة· في هذا اللحظة يقف شيخ قبيلة عربية وهو على حصانه، ويتأمل صامتا مستغربا، ما يجري أمامه من نقل الآثار الى متاحف لندن وباريس وبرلين، وحين يستعصي عليه فهم دوافع هواية نقل الأحجار يلوي عنان فرسه ويمضي مبتعداً·
بين هاتين اللحظتين والزمن الراهن حدثت التجربة العربية بكل مفارقتها· صحيح أن أحفاد هؤلاء العمال الهاربين والمفزوعين، وهذا الشيخ الصامت، تجاوزوا تلك المواقف، ولكن الصحيح أيضا أن هذا الوجود مازال مأزوما بإشكالية البداية، إشكالية الانكشاف تحت أضواء الآخرين، وبمساعدة أدواتهم العلمية، ونعني بها إشكالية معرفة الذات·
دليل القراءة
يمكن أن ندرك أبعاد هذه الإشارة إذا سألنا: "ترى الى أي مدى يمكن اعتبار الفنان العربي وارثا لمنجزات الماضي بحضاراته المتنوعة؟"·
الوجود في المكان بحد ذاته لا يمنح أفضلية ولا يهب ميزة، وإنما الأمر أمر وجود في الزمان· ولهذا يمكن بسهولة ملاحظة أن مراحل يقظة الفن العربي توازي ثلاث مراحل: مرحلة الوجود البيولوجي بجوار ثقافة غربية، ومرحلة إعادة الصلة بالثقافة الموروثة، ومرحلة إيجاد الصلة بالزمان والمكان الراهنين وممارسة هذه الأخيرة كمتابعة حضارية·
وستؤرخ مسيرة الفن العربي بالمرحلتين الأولى والثانية، وتقف هذه المسيرة الآن أمام مطالب المرحلة الثالثة، ستذكر إذن، أنه في اللحظة التي يعجز فيها الإنسان عن قراءة نتاج الماضي، سيكف عن اعتبار نفسه منتميا اليه، أو أنه أمر يخصه بأي شكل من الأشكال·
ربما أن الإنسان لا يكف عن قراءة الماضي بسبب إجادته للغة أخرى، وإنما بسبب أميته، ستبدأ منذ هذه اللحظة إشكالية الوجود أوأزمته·
والفن التشكيلي العربي، مثل أي فعالية ثقافية أخرى، بدأت إشكالية من هنا· لو كان الأمر يتعلق بالعجز عن كشف غموض اللغة ورموز التماثيل وآثار المدن الدارسة لهان الأمر، ولكنه أمر يتعلق بدليل القراءة، بمن يقود السالك، وكان هذا الدليل قادما من الغرب بكل معارفه ونظمه وتقنياته المتفوقة·
هكذا بدأت القراءة الزائفة للذات، قراءة يظل خلالها الفنان عاجزاً عن إقامة الصلة بماضيه وحاضره على حد سواء، وستذهب البعثات الفنية على أوروبا وتعود، وسيبتكر "محمود سعيد" في خضم هذه الحركة رؤية للريف المصري عجيبة يظهر فيها الفلاحون المصريون أكثر أناقة وحيوية من باريس "رينوار" ونساء "تتسيانو"·
إنها أكذوبة النهضة وأكذوبة قراءة الذات تحت تأثير مباغتة مصابيح الآخرين، ولكن الفلاح الحقيقي سيرابط في "الجبل" باحثا عن كنوز أجداده ليبيعها ويتمكن من الحصول على لقمة العيش·
لم نتصل إذن بالماضي الماثل في الحاضر، ذلك الذي يشعر به البسطاء من الناس كحدس في ضمائرهم، وكلمة في ظلامهم العميق، بل اتصلنا بفكرة زائفة عنه، إنه ماضي "الأرابيسك" وأذواق القصور المغولية والمملوكية·
طين الأرض
يروي الفنان "جواد سليم" في يومياته حديثاً ذا دلالة دار بين مجموعة من الفنانين العراقيين وأحد الفنانين البولنديين أثناء الحرب العالمية الثانية· يبدأ الحديث بسؤال الفنان البولندي الموجه الى الجميع: "هل تحبون بلدكم؟" فيسارع الجميع الى القول: "لا·· لا·· لا··!" ويكررون الجواب عدة مرات، فيقول الفنان البولندي "إن الفنان الذي لا يحب بلده لا يستطيع أن ينجز عملاً فنياً جديراً بالتقدير"· فيتساءل أحدهم: "ولكن·· أين هو الجمال في بلدنا؟·· كل شيء لا يشع بالضوء كما هي الطبيعة والناس في بلدانكم الأوروبية"· فيجيب البولندي: "لو أحببتم بلدكم" لرأيتم في طينه كل الألوان الجميلة"·
ويعلق "جواد سليم··": كلمات هذا البوندي لن تفارقني طيلة حياتي أنا أحسها محفورة في أعماقي"·
إذن لقد احتجنا أيضا الى من يعيدنا الى أنفسنا مجددا، وكانت هذه هي المرحلة الثالثة، مرحلة اكتشاف الزمن· علاقة الفنان، والإنسان بعامة، بذاته وأمته ليست علاقة مجانية تكتسب بالولادة أو بالمصادفة البيولوجية، ولا هي علاقة غيبية يمكن أن تقوم كما لو أنها أمر مقرر في الأزل، إنها علاقة ناتجة عن صيرورة ثقافية، ولادة ثانية، إنجاز للبلد والفكر·
وما لم تمر اليد على الأشياء، وما لم يتحرك الفكر في تفاصيل الأشياء، فمن الصعب الانتساب الى وجودها لو نسبتها الى وجود الإنسان·
الذات المغتربة إذن كانت بحاجة الى إنجاز ما حتى تثبت جدارتها بالوجود، وجدارة الوجود بها· وهذا هو مغزى حركة الفن التشكيلي العربي بدءا من الخمسينات في القرن الماضي، حيث حاولت منذ ذلك الوقت الاستحواذ علي زمنها الخاص، أي تأصيل الوجود في العمق التاريخي·
إلا أن الانتساب الى التاريخ ليس قيمة مجردة متأنية من احتذاء أو استلهام الروح التي حركت يد رسام مثل "الواسطي" أو نحات الأفاريز الآشورية أو صانع المعابد الهائلة في أسوان، بل هي أيضا في صيرورة هذا التاريخ معاصراً، وفي الشهادة على عصر جديد،، وفي تأكيد أشواق جديدة·
ربما كان مبررا في سياق الثقافة الأوروبية وتغايرها المتواصل، أن تصبح السيريالية (أي ما فوق الواقع) أسلوبا سلوكياً وذهنياً، ولكن لا شيء يبرر مثل هذا القفز الى ما فوق في ثقافة عربية لم تبدأ إلا بالكاد في التعرف على ما هو تحت، على واقعها، ذلك المجهول المتلاطم·
إننا نلمح مثل هذا الاختيار وهو ينمو ببطء، ونلمح اختياراً يبدو مرتكزا على البحث عما هو تحت الواقع، فيكتب الرسام "لؤي كيالي" عن واقع آخر لا يبدو ظاهراً إلا لمن يتعمق تحت السطح الظاهر لمدينة عربية لاهية، ويكتب القاص "محمد خضير" عن هذا النحت ما هو واقع مستخلصاً مهمته كفنان من وجود مهمل من المشاعر والكائنات لا يظهر إلا بعد غوص عميق في مجاهل النفس والأرض والواقع الراهن·
الخبرة.. الخبرة
لم يعد هناك وقت للدهشة أو الانذهال، وما كان يبدو عالماً مركبا من ألغاز وأساطير غدا عالما مفهوما الى حد ما بفضل مقاربة للذات بالدرجة الأولى، وحين يقطع الفن هذه المسافة لا يكون جديراً إلا بالمنجزات الجادة، وكل انتكاسة أو عودة الى الوراء لا تبدو شيئا عابرا فقط، بل ومكانة خشنة·
الذاكرة بالنسبة للفن التشكيلي، وهو الأمر المؤسف، ليست بذلك الانتظام والوثوق اللذين يمنعان سريان الفكاهات وعودتها بين حين وآخر·
فكما هو الأمر بالنسبة لفعاليات الآداب والفنون، لم يحدث أن حظيت الذاكرة بقيمة استثنائية أو معيارية، لهذا من السهل أن يعاد تكرار المراحل الماضية بين فترة وأخرى، ومن السهل تخطي كل المنجزات أيضا والعودة الى أي فترة يختارها فنان، وكأن شيئا لم يحدث·
الخبرة، الخبرة التاريخية، وتمثل الأجيال والتراث، ليست نقطة تقال في مناسبة، أو مقالة، ولكنها أسلوب عمل، تقنية تبرز على أشد ما يكون البروز في اللوحة والمنحوتة والمعمار·
وفي الحضارات الناضجة يعتبر الفنان نفسه محظوظاً إذا فتح عينيه على تراث ضخم لأسلاف غابرين، على العكس مما يحدث في حالات الانهيار والسكون حيث يكون احتقار وتجاهل الموروث من أبرز سمات هذه المراحل·
في هذا العصر تبدو هذه القضية أشد إلحاحاً، فقد وفرت وسائل الاتصال والمعرفة فرصة تضع أمام بصر الفنان وسمعه وفكره، لا تراث أمته فحسب، بل وتراث الإنسانية كلها· أي مجمع خبرات تاريخية هائل الاتساع زمانا ومكانا·· فأية مسؤولية أعظم من هذه؟!