الولادات النقدية
د. نادر القنة
إذا كان بوسعنا أن نصنع في الموسم الواحد عشرات الممثلين ومثلهم من التقنيين وأقل من ذلك نسبيا من المخرجين وأقل من ذلك بكثير من المؤلفين·· فإنه من الصعوبة بمكان أن يكون في مقدورنا صناعة ناقد واحد مؤسس تأسيسا علمياً وموضوعيا صحيحا في عدة مواسم متتالية، لا لشيء غير أن عملية تأسيس الناقد وصناعته تحتاج الى جهود مكثفة نظرا لأهمية النقد ذاته وإفراط حساسيته، لا الى صعوبته كما يتخيل البعض ويرى فيه ممارسة أدبية وفنية فيها الشيء الكثير من التعقيد والتركيب·
من هنا تكون فرحتنا كبيرة ومبررة حينما نشهد ميلاد صوت نقدي جاد ومثابر وممتلك لأدواته في الحراك الثقافي المسرحي العربي· سواء كان ذلك على المستوى المحلي "وهو أضعف الإيمان" أو على المستوى الإقليمي "وهي بشارة خير" أو على المستوى القومي، "وذلكم هو الأمل المرجو" نظرا لافتقاد حركتنا النقدية المسرحية القومية لهذه النوعية من النقاد، أو قل: هذه النخبة والصفوة من النقاد الموضوعيين، والعلميين من موسوعيي الثقافة والمعرفة، والقادرين على صياغة وجهة نظر نقدية تحمل في أجنحتها قدراً كبيراً من التأويل، والاجتهاد والديالكتيك· وقدراً مماثلا من جمالية خالصة، تسمح لها بالحياة والانتشار لسنوات طويلة، بل عقود أطول في بيئتها وخارج بيئتها، بوصفها رأيا مرتبطا براهنية التاريخ أولاً، وخطابا نظريا وتطبيقا متجاوزا للحظة التاريخية ذاتها من جانب ثان، كون ذلك الخطاب، المحمّـل بالدلالات والرموز والعلامات لا يبقي النص جامدا استاتيكيا على حاله، إذ يثير فيه عبر ديناميكية متواصلة احتماليات القراءة التأويلية· خاصة وأن مناهج النقد وآلياته، ونقاط تماسه وتقاطعه مع شتى العلوم المعرفية الأخرى، لا يقر لها قرار فهي في سياق حركة التاريخ وتنامي المعرفة في تطور وتحول مستمرين·
إن ميلاد ناقد مسرحي موضوعي جاد يعني بالنسبة لنا اكتشافاً جديداً لعقل جديد· واكتشافاً جديداً لطاقة إبداعية جديدة، وهو أيضا إعادة اكتشاف وإعادة قراءة للآثار الأدبية والفنية القائمة، بما يسمح لحياة أطول لفنوننا وأدبنا ومسرحنا· وفوق هذا وذاك، هو فعل وممارسة إبداعية تحريضية لتخريج مسرحنا من القوالب النمطية والصور الباهتة الجاهزة·
لذا علينا أن نعمل باستمرار قدر ما تسمح به العزائم على تشجيع هذه الولادات، والأخذ بيدها نحو آفاق إبداعية متجددة، لتمنحنا في ما بعد المسرح الذي نريد في راهنيته وفي مستقبله، والمسرح الذي يقارب بيننا وبين الآخر في أطر ديالوجية حضارية تسعى جاهدة الى التأكيد على هويتنا الثقافية·