رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 17 يناير 2007
العدد 1758

ورقة من رواية "الحرب والسلام" الفيتنامية
زمان أنصاف الأشياء الخرب!

                                                              

 

هذه ورقة من أوراق بطل رواية "قمر هوا بنه" للكاتبة الفيتامية "كونج ترانج" وتحتوي الرواية على عدد كبير من أوراق بطلها "ديرك دلون" غير المنشورة ودراساته بوصفه ضابط استخبارات أمريكي عمل في فيتنام حيث تجري  أحداث الرواية في عالم "سايجون" الخفي في العام 1968 ثم تنتقل الى مؤتمر علمي في كيوتو بعد تسع سنوات·

محاور الرواية: جريمة قتل غامضة وتنظيرات علمية وأطروحات فلسفية ونقد نفسي لاذع، يتم خلالها استكشاف الثقافة الفيتنامية واليابانية وتاريخهما المعاصر·

نشرت هذه الرواية في العام 1992 ووصفت بأنها رواية تماثل "الحرب والسلام" لتولستوي وواحدة من الروايات المهمة في السنوات الأخيرة ويمكن أن تسمى  أول نص روائي يتخطى النصية السردية بحيث يمكن للقارئ أن يقرأ صفحاتها تباعا أو يختار فصلا من هنا أو هناك·

 

ذات صباح خلال الأسابيع الأولى من العام 1995 قذفت بمخطوطة حول الشاعر البريطاني ت·س إليوت الى صندوق القمامة متأففا بقرف "الى حيث ألقت الى الأرض الخراب، تخيل فقط أن تنشر مجلة الجنوبي مقالة مثل هذه سيكون النشر كفراً"·

كانت هذه مقالة مما يمكن تسميته بالأدب الإليوتي موضوعها "الرباعيات الأربع" لإليوت وكيف أنها كانت محاولة لتطهير إحساسه بالذنب جراء مساهمته مساهمة ذات مغزى في أسباب الحرب العالمية الثانية· بالطبع كتب الرباعية الأولى" بيرنت نورتن" قبل إندلاع الحرب ونشرت في العام 1935 ولكن هذا الأمر ليس مهما فقد رأى إليوت رؤية جلية كتابة على الجدار كما يقال، خلال فترة تأليف قصيدة الأرض الخراب التي نشرت في العام 1922·

بعد بضعة أشهر تلت رمي هذه المقالة حول اليوت في صندوق القمامة، صادفت مقالة صحفية حول كتاب  وزير الدفاع الأمريكي"روبرت ماكنمارا" تأمل الماضي: دروس ومأساة فيتنام، تشير الى استشهاد "ماكنمارا" بالرباعية الأخيرة "لتل جدنج" كان الصحافي قاسيا في تسخيفه أمر لجوء "ماكنمارا" للاستشهاد بإليوت، وحاملاً بشدة على وجه الخصوص على عقل "ماكنمارا" التحليلي لأنه أساء فهم مقاصد رباعيات إليوت الأربع الصوفية، ووجدت أمام هذا التفكير وهذا الاستهزاء أنه لم يكن على أن أرمي تلك المقالة عن اليوت أبداً، ولكن خلال الأسابيع اللاحقة، وأنا أقرأ المزيد والمزيد من التعليقات على كتاب "تأمل الماضي" وأشاهد كيف كان الخطاب الشائع حول الكاتب فقيراً توصلت في النهاية الى أنني أحسنت صنعا برمي المقالة حول إليوت في صندوق  القمامة، فأنا لم أجد في الصحف والمجلات شيئاً لم أسمعه مراراً وتكراراً منذ أوائل الستينات: لم أجد فكرة جديدة واحدة خلال عشرين سنة منذ انتهاء الحرب، كيف أمكن لهؤلاء الناس أن يفهموا في مجال المعاناة الأخلاقية، فكرة أن "اليوت" و"ماكنمارا" عذبتهما ما يمكن أن نسميها خطايا الآباء نفسها؟ عاطفيا لن يكون هذا الأمر جائزاً·

فرصة إليوت الكبرى واتته حين جاء "برتراندراسل" الى هارفارد قبل الحرب العالمية الأولى، وبوصفه أحد نجوم الطلبة الدارسين آنذاك في سماء أفضل برامج الدراسات الشرقية في العالم الناطق بالإنجليزية انجذب الى البطانة المحيطة بالمنطقي الكبير ووقف كدارس ناشىء للسنسكريتية وجها لوجه أمام "راسل" الذي كان يناوئ آنذاك عدوى النهضة الشرقية التي أصابت الفكر الأوروبي بلهب الدوراماتر "الأم القاسية" السام الذي اجتاح اللاوعي الجماعي، والذي لا يمكن أن تشفيه إلا النزعة الذرية المنطقية· اتخذ "إليوت" موقفا يهزم به قصر نظر المنطقي الميتافيزيقي، والى مدى أبعد الفيزيائيين، وبهذا يمنع بالنتيجة الحرب العالمية الثانية، وبدا الأمر كما لو أن العناية الإلهية وضعت الباحث الشاب في المشهد في الوقت والموقع المناسبين المطلوبين تحديداً لأداء رسالة خلاص حماية الكائنات من نفسها! ولكن الأمر المحزن أنه أخفق·

وتضمنت القضية المركزية ما دعاه "ريلكة" صناعة الأشياء نتيجة للخوف (ليس في نيتي) اعادة كتابة مقالة قذفت جانباً عن حكمة ولكنني سأقدم الموضوعة العامة، كان "ريلكة" مستغرقاً في هذا حين التقى "اليوت" براسل لأول مرة في هارفرد·

وكانت "قصيدة الشيء" لديه "1907-1908" محاولة للقبض على الجوهر التشكيلي للشيء المادي كركام من أحداث متزامنة في زمن محول الى حيز مكاني، وهي محاولة تمضي تماماً الى مسافة ما أبعد من نسبية "اينشتاين" للعام  1905·

وجسد "ريلكة" هذا الأمر بتمامه بعد سنة واحدة من نشر "الأرض الخراب" في العام 1923 بقصائده "سونيتات الى اورفيوس" و "مراثي دوينو"·

المفارقات التي يحملها هذا الوضع لا تكاد تصدق، ففي الوقت الذي كان فيه "ريلكة" يتمكن تجريبياً من الادراكات التي تقف وراء "قصيدة الشيء" درس اليوت في هارفرد دراسة نصية مكثفة أو بانيشادات بريهادارانياكا بالسنسكريتيه· واضعاً بذلك أساس كتابة لقصيدة الأرض الخراب" التي تقوم على أساس فهم محدد لما كان "ريلكه" في العام 1907 قد تمكن منه تجريبيا، نسبية مكونات الشيء الى الزمان غير الخطي، لقد كان "اليوت" بالغ الخضوع في توجهه لدوافع مصالحة تحليلية مذهبية لا تقاوم "ولا يختلف في ذلك عن ماكنمارا" تشجعه عليها بيئة هارفرد الأكاديمية الى درجة أنه أهمل البعد التجريبي ولم ينتبه انتباها كافياً وملائما الى أجوائه الفكرية المباشرة، ماكان يحدث في المنطق والرياضيات العليا والفيزياء، ولو أنه كان أكثر توازنا لربما نجح في أداء الرسالة التي هيأتها له العناية الألهية·

قبل أن تنشر "الأرض الخراب" كانت هناك في المشهد نظرية وضعية وراء المتناهي والتكعيبية التحليلة وعلم ظواهر "هوسرل" الاختزالي ومنطق القيمة لإميل بوست وكل واحدة من هذه توفر استبصاراً في مكون الشيء أكثر مما جناه "اليوت" من دراساته في الاوبانيشاد·

إن وجهات النظر المتزامنة، الكل صحيح على نحو متعادل والمرئي من منظورات مختلفة الواردة في تعاليم "الغيدا" و"الاوبانيشاد" لا تشير الى "تأويلات" كما افترض اليوت المحلل النصي وشاعر "الأرض الخراب" إنها تشير الى فكرة أن الشيء ليس عين ذاته ولكن للحصول علي قبول إدراكي لهوية للشيء ليست بسيطة يجب على المرء أن يخرّب الزمان الخطي مثلما عرف هذا الأمر جيداً "ريلكة" و"هوسرل" ويعني هذا دخولاً فعليا في رجعة لا متناهية الى تأمل الذات مثلما في جزء من الفكر الهندي وهو إنجاز يمكن أن تساعد عليه نظرية وضعية ما وراء المتناهي·

إن قراءة نص وتجربة عالم ليستا الأمر نفسه على الإطلاق حتى من ناحية المبدأ، ولا يماثل فعل التأويل ، في النقد الأدبي الإسقاط النفسي في التجربة الإدراكية، قد تكون هناك جوانب مشتركة بين الأثنين إلا أن أحدهما يتميز عن الآخر، وقد بدأ إليوت مع بواكير القرن العشرين العمل في اتجاه النفس الداخلية والعالم الخارجي كما لو أن قراءة لغة "طبيعية" وتجربة العالم الطبيعي أمر واحد وكان هذا تمازج أجناس مأساوياً يقود جيله مباشرة الى أرض خراب ما زال على الحضارة أن تنبثق منها·

في نهاية المطاف، فر إليوت، ذاته من تلك الأرض الخراب واتخذ طريقه نحو خراب زمان لأنصاف الأشياء، في قصيدة "الأرض الخراب" صارع خراب أرض هارباً من أفكار مرجعية ذات حيز مكاني، لقد كان من الضروري بالنسبة له الاتجاه نحو التفكير بمرجعية زمانية·

هنالك روح شجاعة أخرى كان عليها أن تحقق المصير ذاته هي الروائي "يوكيو ميشيما" المصير الموصوف بوضوح في كتابه "شمس وفولاذ" ولنأخذ في اعتبارنا شعر "الهايكو" بقدر ما يتعلق الأمر بإيضاح المبادئ· إن لب معنى واحد من معاني قصيدة "الهايكو" هو أن تجسيداً كاملاً لأي شيء واحد (الجوهر التشكيلي للشيء المادي عند "ريلكه") هو جماع مكتمل للأشياء ككل، إنه شعر "هولوغرامي"!

إن أي شيء منفرد لا يمكن أن يوجد في غياب كل الأشياء لأن "الصور" اللا متناهية أو "الواجهات" أو "الآفاق" بحاجة الى أن تكون من مقوماته تكعيبياً (الكل صحيح على نحو متساو) وفي ثبات الشيء: الكل يتسق مع وجهات النظر اللا متناهية حول نفسه (انكفاء على تأمل الذات، وتمتلكه كل الأشياء منفردة والأشياء الأخرى مجتمعة)·

إن وضعية أي شيء من الأشياء هي وضعية نسبية تجاه وضعية كل الأشياء الأخرى مجتمعة، الوضعية النسبية بوصفها مقدمة من مقدمات نظرية الوضع المتناهي·

هناك حاجة لخراب الزمان لمراكمة أي لإيجاد تراكب، كل وجهات النظر المطلوبة لتكوين أي شيء واحد من الأشياء·

ومن هنا اللا زمنية التي تستحضرها قصيدة الهايكو ولعبة الشعر في استثارة واستحضار أي مناسبة معينة هما ليس "الخواء" "شونياتا" ولا اللحظة الانطباعية الإدراكية لما يدرك مباشرة، وهما ليس عيد الظهور لدى جيمس جويس الذي هو هنا وليس هنا على حد سواء، ولكنه الشيء المادي ذاته القابل للوزن، ذلك الذي يقود إلى انكفاء على الذات لامتناه من أجل وجوده ذاته·

نصف شيء: هنا وليس هنا على حد سواء، "أ" ولا "أ" على حد سواء· إن الموقف الثالث لنصف الشيء ليس خارج الزمان الخطي فقط بل هو خارج المنطق التقليدي الذي حاولت نزعة راسل الذرية المنطقية تدعيمه وخارج قانون القياس المنطقي، الأساسي القائم على أن لا "أ" هي ليست "أ"·

في وقت من الأوقات بين العام 1922 وبين نشر قصيدة بيرنت نورتن أدرك "إليوك" خطأه وفهم أهمية نصف الشيء بالنسبة للنظرية الفيزيائية "الوضعية النسبية" التراكب، المنطق الكوانتمي، نظام الزمان الأعلى، وشاهد التبعات السياسية، لما لم يكن ظاهراً في جامعة هارفرد تتصاعد ملتهبة أمام عينيه هو· لابد أن إحدى المفارقات الهائلة التي شعر بها وهو ينظر في العام 1939 الى الوراء الى سنة 1922 حين نشر الأرض الخراب هي أن أول باحث ألماني يدعى ليحاضر في جامعة لندن، بعد الحرب العالمية الأولى كان "ادموند هوسرل" في العام 1922·

ومن الواضح أن قلة باستثناء إليوت سجلت ما كان سيقوله الظاهراتي العظيم·

حين سمعت أن "ماكنمارا" كان يدعو الى مؤتمر في "هانوي" ليصب حرب فيتنام في قالب واحد جديد أرسلت إليه كمية كبيرة من المعلومات الاستخبارية السرية لم يكن بإمكانه الوصول إليها في أوائل الستينات في ضوء منصبه آنذاك وطغت على السطح الكثير من مرشحات المعطيات الخام، واعتقدت أن هذه المعلومات قد تمنعه من إظهار نفسه بمظهر الأحمق في "هانوي" ولكن من الواضح أن المشرفين على بريده أبعدوا ما أرسلت اليه· هناك أشياء لا تتغير أبداً·

عن موقع:

 www.geocities.com/moonhoabinh/index.html

طباعة  

رؤساء يهبط عليهم الوحي.. وإبادة يباركها الله..
أساطير التميز الأمريكي!