رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 17 يناير 2007
العدد 1758

رؤساء يهبط عليهم الوحي.. وإبادة يباركها الله..
أساطير التميز الأمريكي!

                                                                 

 

·     أمريكا تستثني نفسها من أية مسؤولية، أخلاقية، .. لماذا؟

 

هاوارد زن*:

ليست جديدة فكرة التميز الأمريكي الاستثنائي القائمة على أن للولايات المتحدة الأمريكية وحدها الحق، سواء بتفويض إلهي أو بواجب أخلاقي، في جلب الحضارة أو الديمقراطية أو الحرية الى بقية العالم، بالعنف إن كان ضروريا·

لقد ظهرت مبكرا في العام 1630 في مستعمرة ساحل ماسوشيتس حين أطلق حاكمها "جون وينثروب" الكلمات التي سيستشهد بها "رونالد ريغان" في القرون اللاحقة· في ذلك العام أطلق "وينثروب" على هذه المستعمرة لقب "مدينة فوق تل" وزخرفها "ريغان"، فدعاها "مدينة مضىئة فوق تل"·

إن فكرة مدينة على تل فكرة قريبة إلى القلب وتوحي بما تحدث عنه "جورج بوش" حين قال إن الولايات المتحدة هي منارة الحرية والديمقراطية، ويمكن أن ينظر إلينا الناس ويتعلموا منا ويحذوا حذونا·

حقيقة الأمر ليس إننا لم نكن أبدا مجرد مدينة على تل· فبعد بضع سنوات من إطلاق "وينثروب" لكلماته الشهيرة، تحرك سكان المدينة على تل ليذبحوا هنود قبيلة البيكويت· وها هنا يصف "وليم برادفورد" أحد المستوطنين الأوائل هجوم الكابتن "جون ماسون" على قرية البيكويت: "·· أولئك الذين فروا من النار ذبحوا بالسيف، بعضهم مزّق إرباً إرباً، وآخرون هرعوا بسيوفهم، وقتلوا بسرعة ولم ينج منهم الا القليل، وكان من المعتقد أنهم قتلوا حوالي 400 شخص في ذلك الوقت· كان مشهدا مخيفا أن تراهم يحترقون بالنار، وتتدفق أنهار الدم، وكانت الرائحة مرعبة، ولكن النصر بدا أضحية عذبة، وقدموا شكرهم لله الذي عمل عملا رائعا من أجلهم حين أوقع أعداءهم في أيديهم، ومنحهم نصرا سريعا على عدو مهين بالغ الزهو"· وتكررت نوعية المذبحة التي وصفها "برادفورد"، عدة مرات مع مسير الأمريكيين غربا نحو المحيط الهادىء، وجنوبا الى خليج المكسيك·

كانت حرب حريتنا الشهيرة، الثورة الأمريكية، في الحقيقة ذات نتائج كارثية بالنسبة للهنود، فالمستعمرون كانوا يمنعون من انتهاك الأراضي الهندية على يد البريطانيين، وقد وضع هؤلاء الحدود في إعلان لهم في العام 1763 - وأزال استقلال الأمريكيين تلك الحدود·

وظل التوسع في أرض أخرى واحتلالها، ومعاملة الناس الذين يقاومون الاحتلال بوحشية واقعة ثابتة من وقائع التاريخ الأمريكي منذ إقامة أول المستوطنات وحتى اليوم·

وكان يرافق هذا في أغلب الأحوال منذ البداية وحتى الآن شكل خاص من أشكال نزعة التميز الأمريكية: الفكرة القائلة بأن التوسع الأمريكي قضاء إلهي·

 

استحضار الله

 

عشية الحرب على المكسيك في منتصف القرن التاسع عشر، ومباشرة بعد أن ضمت الولايات المتحدة تكساس، سك الكاتب والمحرر "جون أوسوليفان" التعبير الشهير "تجلي القدر"· فقال "الانتشار في أرجاء القارة التي أقطعتها العناية الإلهية للتطور الحر لملاييننا المتكاثرة سنويا هو اكتمال لتجلي قدرنا" وفي مطلع القرن العشرين، حين غزت الولايات المتحدة الفلبين، قال الرئيس ماكنلي إن قرار أخذ الفلبين جاءه ذات ليلة حين ركع على ركبتيه وصلى، وقال له الله أن يأخذ الفلبين·

وقد ظل استحضار الله عادة لدى الرؤساء الأمريكيين طيلة تاريخ الأمة، ولكن جورج دبليو بوش أعطى هذا الاستحضار خصوصية· في إحدى مقالات صحيفة هاآرتس الإسرائيلية تحدث صحافي مع قادة فلسطينيين من الذين التقوا ببوش، فقال أحدهم أن بوش أخبره بأن "الله قال لي أن أضرب القاعدة، فضربتهم، ثم وجهني الى ضرب صدام، وهو ما فعلته، وأنا الآن مصمم على حل المشكلة في الشرق الأوسط"·

من الصعب معرفة ما إذا كان ما نقل عن بوش موثوقا به، وبخاصة لأن عباراته تبدو في غاية الإحكام، إلا أنه يتطابق بالتأكيد مع المزاعم التي يعبر عنها بوش عادة·

وتجيء قصة قابلة للتصديق أكثر من أحد أنصار بوش وهو "رتشارد لامب" رئيس بعثة الحرية الدينية والأخلاقية لجمعية المعمدان الجنوبية الذي يقول إن بوش قال له خلال الحملة الانتخابية: "أنا مؤمن بأن الله يريد مني أن أكون رئيسا، ولكن إذا لم يحدث هذا، فلا بأس"·

فكرة العناية الإلهية فكرة بالغة الخطورة، وبخاصة حين تدخل في مركّب مع القوة العسكرية (تمتلك الولايات المتحدة 10 آلاف سلاح نووي وقواعد عسكرية في مئة بلد وسفنا حربية في كل بحر)· ولا تحتاج الى معيار أو خلق إنساني حين تكون معك موافقة من الله· إن أي شخص يزعم اليوم امتلاك دعم الله ربما يربكه تذكر أن أعضاء قوات العاصفة النازية حفروا على أحزمتهم عبارة "الله معنا"·

 

نبوءة قرن أمريكي

 

التفويض الإلهي لم يدعي امتلاكه كل زعيم أمريكي، ولكن فكرة أن الولايات المتحدة لديها مبررات فريدة في استخدام قوتها للتوسع في مختلف أرجاء العالم ظلت قائمة وثابتة· في العام 1945، مع نهاية الحرب العالمية الثانية أعلن مالك سلسلة واسعة من مشروعات الوسائط الإعلامية مثل "التايم" و"لايف" و"فورتشن" هنري لوسي أن هذا القرن "سيكون القرن الأمريكي"، وأن هذا النصر في الحرب أعطى الولايات المتحدة الحق "في ممارسة تأثير نفوذها كاملا في العالم، للأغراض التي نراها ملائمة، وبالوسائل التي نراها ملائمة"·

وقد فعلت هذه النبوءة فعلها طيلة بقية سنوات القرن العشرين، فبعد الحرب العالمية الثانية مباشرة تقريبا تغلغلت الولايات المتحدة في مناطق الشرق الأوسط النفطية وفق ترتيبات خاصة مع العربية السعودية، وأقامت قواعد عسكرية في اليابان وكوريا والفلبين وفي عدد من جزر المحيط الهاديء، وفي العقود اللاحقة نظمت وأدارت انقلابات يمينية في إيران وجواتيمالا وتشيلي، وقدمت مساعدة عسكرية لدكتاتوريات متنوعة في منطقة البحر الكاريبي· وفي محاولة لإيجاد موطىء قدم في جنوب شرقي آسيا غزت فيتنام وقصفت لاوس وكمبوديا·

ولم يمنع هذا التوسع وجود الاتحاد السوفييتي، ولا حتى امتلاكه لأسلحة نووية، بل إن المبالغة في تصوير تهديد "الشيوعية العالمية" وتضخيمه أعطى الولايات المتحدة في الحقيقة مبررا قويا للتوسع على امتداد الكرة الأرضية، وسرعان ما أصبح لديها قواعد عسكرية في مئات البلدان، على أساس فرضية أن الولايات المتحدة وحدها هي من وقف في طريق غزو السوفييت للعالم·

هل نستطيع تصديق أن وجود الاتحاد السوفييتي هو الذي خلق عسكرية الولايات المتحدة العدوانية؟ إذا كان الأمر كذلك، فكيف نفسر كل التوسع القائم على العنف قبل العام 1917؟ فقبل مئة عام من الثورة البلشفية أبادت الجيوش الأمريكية قبائل الهنود الحمر، و"طهرت عرقياً" مساحة واسعة من الغرب الأمريكي ضاربة بذلك مثلا مبكرا على ما ندعوه الآن "التطهير العرقي"، ومع غزو القارة واحتلالها بدأت الأمة تتطلع الى ما وراء البحار·

 

جندي مختلف!

 

مع بزوغ فجر القرن العشرين، والجيوش الأمريكية تدخل كوريا والفلبين، لم يكن التميز الأمريكي يعني دائما أن الولايات المتحدة تريد أن تمضي منفردة· كانت الأمة راغبة، بل تائقة، في الانضمام الى المجموعة الصغيرة من القوى الإمبريالية الغربية التي ستخلفها ذات يوم·

وفي ذلك الوقت كتب السيناتور "هنري كابوت لوج": "الأمم العظيمة يستغرقها توسعها المستقبلي بسرعة، ويدافع حاضرها عن كل الأماكن الخالية على الأرض·· والولايات المتحدة كواحدة من أهم دول العالم العظيمة لا يجب أن تخرج على هذه المسيرة"·

لا ريب في هذا، فالروح القومية في البلدان الأخرى قادتهم الى رؤية توسعهم بوصفه أخلاقيا بشكل فريد ولكن هذا البلد حمل هذا الزعم الى ما هو أبعد·

لم يعبر عن نزعة الإحساس بالتميز الأمريكي أبدا أفضل تعبير واوضح سوى وزير الحرب "إلياهوروت" الذي أعلن في العام 1899 أن "الجندي الأمريكي مختلف عن كل جنود البلدان الأخرى منذ أن خلق العالم، إنه الحارس الأمامي للحرية والعدالة والقانون والنظام والسلام والسعادة"· وفي الوقت الذي كان فيه وزير الحرب هذا يقول هذا الكلام، كان الجنود الأمريكيون في الفلبين يقيمون حمام دم سيزهق أرواح 600 ألف فلبيني·

فكرة أن أمريكا مختلفة بسبب أن أعمالها العسكرية هي لصالح الآخرين، تصبح مقنعة على وجه الخصوص حين يطرحها قادة يفترض أنهم ليبراليون أو تقدميون· على سبيل المثال، "ودرو ولسون" الذي هو دائما على رأس قائمة الرؤساء "الليبراليين"، وأعطاه الباحثون وأعطته الثقافة الشائعة لقب "المثالي"، كان بلا رحمة في استخدامه للقوة العسكرية ضد الأمم الأضعف، فقد أرسل القوات البحرية لتقصف الميناء المكسيكي "فيراكروز" وتحتله في العام 1914 لأن المكسيكيين اعتقلوا بعض البحارة الأمريكيين، وأرسل المارينز الى "هاييتي" في العام 1915، وحين قاوم سكان الحزيرة قتل الآلاف منهم·

وفي السنة التالية احتل المارينز الأمريكان جمهورية الدومينكان، واستمر احتلال "هاييتي" و"جمهورية الدومينكان" سنوات عديدة· "ولسون" الذي انتخب في العام 1912 والقائل "هناك شيء مثل أمة تكون بالغة الاعتزاز لكونها تحارب" سرعان ماأرسل الشبان الأمريكيين الي مسلخ الحرب الأوروبية·

وكان "تيودور روزفلت" يعتبر "تقدميا" وبالفعل فقد ترشح للرئاسة على قائمة الحزب التقدمي في العام 1912، ولكنه كان عاشقا للحرب ومناصرا لغزو الفلبين، وقد هنأ الجنرال الذي مسح عن الخارطة قرية فلبينية يسكنها 600 إنسان في العام 1902، وكان في العام 1904 قد أعلن "خلاصة روزفلت" الطبيعية لمبدأ مونرو التي بررت احتلال البلدان الصغيرة في البحر الكاريبي بحجة جلب "الاستقرار" إليها·

 

الإرهاب بديل الشيوعية

 

وخلال الحرب الباردة أصيب الكثير من "الليبراليين" الأمريكيين بنوع من الهستيريا حول التوسع السوفييتي الذي كان واقعيا بالتأكيد في أوروبا الشرقية، ولكنه كان مضخما الى حد بالغ كتهديد لأوروبا الغربية والولايات المتحدة، وخلال المرحلة "المكارثية" اقترح لب مجلس الشيوخ الليبرالي "هربرت همفري"، إقامة معسكرات اعتقال للهدامين المشكوك فيهم الذين في أوقات "الطوارىء الوطنية" يمكن إبقاؤهم معتقلين بلا محاكمة··

بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة، استبدل الإرهاب بالشيوعية كتبرير للتوسع· كان الإرهاب حقيقيا،، إلا أنه تم تضخيم تهديده الى درجة خلق حالة من الهستيريا ليسمح بعمل عسكري بلا حدود في الخارج وتقييد الحريات المدنية في أمريكا·

وواظبت فكرة التميز الأمريكي على الثبات مع تصريح بوش الأول، موسعا نبوءة "هنري لوسي" بأن الأمة على وشك مباشرة "قرن أمريكي جديد"·

فرغم أن الاتحاد السوفييتي كان قد ذهب، إلا أن سياسة التدخل العسكري في الخارج لم تتوقف، وغزا بوش الأب "بنما" ثم ذهب الى الحرب ضد العراق·

لقد أعطت هجمات 11 سبتمبر المروعة زخماً جديداً لفكرة أن الولايات كانت مسؤولة مسؤولية فريدة من نوعها عن أمن العالم تدافع عنا جميعاً  ضد الإرهاب كما فعلت يوما ضد الشيوعية، وحمل الرئيس جورج دبليو بوش فكرة التميز الأمريكي الى حدودها القصوى بتقديم مبادئ الحرب من طرف واحد في استراتيجيته للأمن القومي، وكانت هذه المبادئ رفضا لميثاق الأمم المتحدة الذي يقوم على فكرة أن الأمن هو قضية جماعية وأن لا تبرير للحرب إلا في حالة الدفاع عن النفس، وعلينا أن نلاحظ أيضا أن مبدأ بوش ينتهك أيضا المبادئ التي وضعتها محكمة "نورمبرغ" التي حاكمت النازيين حين أدين القادة النازيون وشنقوا بتهمة الحرب العدوانية والحرب الوقائية البعيدة عن حرب الدفاع عن النفس·

 

عادة تاريخية

 

استراتيجية بوش للأمن القومي، وفقراتها الوقحة التي تنص على أن الولايات المتحدة تتحمل مسؤولية فريدة عن السلام والديمقراطية في العالم صدمت الكثير من الأمريكيين، ولكن هذه الوقاحة ليست في الحقيقة إقلاعا دراماتيكيا عن ممارسة الولايات المتحدة الأمريكية التاريخية التي تصرفت منذ زمن طويل كمعتد يقصف البلدان الأخرى بالقنابل ويغزوها (فيتنام وكمبوديا ولاوس وغرينادا وبنما والعراق) ويصر على الحفاظ على التفوق النووي وغير النووي· إن العمل العسكري الأحادي من طرف واحد تحت قناع الوقاية هو جزء مألوف من السياسة الخارجية الأمريكية·

أحيانا يرتدي القصف بالقنابل والغزو عباءة فعل دولي بالإتيان بالأمم المتحدة كما حدث في "كوريا" أو الإتيان بحلف الناتو كما حدث في صربيا، ولكن حروبنا من حيث الأساس هي مشروعات أمريكية· إن وزيرة خارجية بيل كلينتون مادلين أولبرايت هي من قال مرة: إذا كان بالإمكان سنتحرك مع العالم جماعيا ولكن عند الضرورة سنتحرك منفردين، وبسماعه لهذا رد "هنري كيسنجر" بهدوئه المعتاد بأن "هذا المبدأ لا يجب أن يتحول الى مبدأ كوني"· وهنا كانت نزعة التميز واضحة وضوحاً لا مثيل له·

بعض اللليبراليين في أمريكا رغم معارضتهم لبوش هم مع ذلك أقرب الى مبادئه في الشوون الخارجية مما يريدون الاعتراف به، ومن الواضح أن 11 سبتمبر امتلك تأثيراً نفسيا بالغ القوة على كل إنسان في أمريكا وعلى مفكرين ليبراليين كنوع من رد الفعل الهستيري الذي شوه قدرتهم على التفكير في دور أمتنا في العالم·

في نسخة أخيرة من الصحيفة الأمريكية "أمريكان بروسبكت" كتب قلم التحرير: "اليوم يفرض الإرهابيون الإسلاميون على صعيد العالم أعظم تهديد مباشر لحياتنا وحرياتنا وحين تواجه الولايات المتحدة تهديداً جوهريا ومباشرا ومبرهنا عليه فإن لها الحق والواجب على حد سواء بالضربة الاستباقية وإذا احتاح الأمر إلى الضرب من طرف واحد ضد إرهابيين أو دول تدعمهم"·

الاستباق، وإذا احتاج الأمر من طرف واحد وضد دول تدعم "الارهابيين" وليس الإرهابيين ذاتهم· هذه خطوات واسعة نحو مبدأ بوش رغم أن قلم التحرير سوغ دعمه لهذا الاستباق بإضافة أن التهديد يجب أن يكون "جوهريا" و"مباشرا" "مبرهناً عليه"، ولكن حين يصادق مثقفون على مبادئ مجردة حتى مع التسويغ فهم بحاجة الى أن يظل في ذهنهم أن المبادئ سوف يطبقها أناس يديرون حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، وإبقاء هذا في الذهن تتضاعف أهميته حين يدور المبدأ المجرد حول استخدام العنف من قبل الدولة وهو في الحقيقة حول المبادرة الى استخدام العنف استباقا·

ربما تكون هناك حجة مقبولة للمبادرة بالعمل العسكري، في وجه تهديد مباشر ولكن فقط حين يكون العمل محدوداً ومركزا مباشرة على الطرف المهدد، تماما مثلما قد نقبل إسكات شخص يصرح كاذباً "نار" في مسرح مزدحم إذا كانت هذه هي حقيقة الوضع، وليس إسكات شخص يوزع منشورات مناوئة  للحرب في الشارع·

ولكن قبول عمل ليس ضد إرهابيين فقط (هل يمكننا التعرف عليهم كما نتعرف على الشخص الذي يصرخ "نار") بل ضد "دول تدعمهم" يستدعي عنفاً غير مركز وبلا تمييز كما في أفغانستان حيث قتلت حكومتنا 3 آلاف مدني على الأقل بزعم مطاردة إرهابيين· يبدو أن فكرة التميز الأمريكي تقوم بالتضليل على امتداد الطيف السياسي وإفساده·

 

لاتعليم ..ولاتربية

 

لا يوجد نقد للفكرة لأن تاريخ التوسع الأمريكي في العالم ليس تاريخا يعلّم بكامله في نظامنا التربوي والتعليمي· قبل سنتين خاطب بوش البرلمان الفلبيني فقال "أمريكا فخورة بدورها في قصة الشعب الفلبيني العظيم فقد حرر جنودنا معكم الفلبينيين من الحكم الاستعماري" ومن الواضح أن الرئيس لم يعلم أبداً بقصة الغزو الدموي للفلبين، وفي السنة الماضية حين قال سفير المكسيك في الأمم المتحدة شيئا غير دبلوماسي عن كيف أن الولايات المتحدة تعامل المكسيك كما لو أنها ساحة بيتها الخلفية، وبخه فوراً "كولن باول" وزير الخارجية الأمريكي آنذاك وقال "باول" منكراً التهمة "إن لدينا الكثير من التاريخ الذي كنا فيه معاً" (ألم يكن "باول" يعلم بالحرب المكسيكية أو الحملات العسكرية، في المكسيك) وحالا تمت إزاحة السفير من منصبه·

يبدو أن الصحف الكبرى ونشرات أخبار التلفاز وبرامج الإذاعة الاستعراضية لا تعرف التاريخ أو تفضل تناسيه· هناك طوفان من المديح لخطاب بوش في تدشين رئاسته الثانية في الصحافة، بما في ذلك ما تسمى الصحافة الليبرالية (الواشنطن بوست ونيويورك تايمز) وتلقف كتاب الافتتاحيات  كلمات بوش عن نشر الحرية في العالم كما لو أنهم يجهلون تاريخ مثل هذه المزاعم، وكما لو أن أخبار السنتين الماضيتين  القادمة من العراق التي تستحق التفاتاً خالية من المعنى·

وقبل يومين ليس إلا من إطلاق بوش تلك الكلمات عن نشر الحرية نشرت "نيويورك تايمز" صورة فتاة عراقية تجثم خائفة وتنزف دماً، كانت تصرخ، فقد تعرضت عائلتها وهي تقود سيارتها الى إطلاق رصاص قاتل على يد جنود أمريكيين مصابين بنوبة عصبية·

إحدى نتائج نزعة التميز الأمريكية هي أن حكومة الولايات المتحدة تعتبر نفسها مستثناة من الخضوع للمعايير القانونية والأخلاقية المقبولة من قبل الأمم الأخرى في العالم· وهناك قائمة طويل بمناسبات استثناء الذات هذا: رفض التوقيع على معاهدة كيوتو المنظمة لتلوث البيئة، ورفض توسيع الاتفاقية الخاصة بالأسلحة البايولوجية، ولم تنضم الولايات المتحدة الى المئة أمة زائد واحد التي وافقت على حظر استخدام الألغام الأرضية رغم الإحصاءات المروعة عن عدد الأطفال الذين تبتر أعضاؤهم بسبب هذه الألغام، وترفض حظر استخدام قنابل النابالم والقنابل العنقودية، وتصر على أنها يجب ألا تخضع مثل البلدان الأخرى للمثول أمام محكمة الجنايات الدولية·

 

هناك أخلاق

 

ما هو الرد على الإصرار على التميز الأمريكي؟ نحن الذين في الولايات المتحدة وفي العالم الذين لا يقبلونها يجب أن يعلنوا بقوة أنه يجب مراعاة المعايير الأخلاقية المتعلقة بالسلام وحقوق الإنسان، ويجب أن يكون مفهوماً أن أطفال العراق والصين وإفريقيا والأطفال في كل مكان في العالم لديهم الحق في الحياة مثل الذي للأطفال الأمريكيين· هناك مبادئ أخلاقية أساسية، إذا لم تلتزم بها حكومتنا فيجب أن يلتزم بها مواطنوها· في أوقات معينة من التاريخ القريب، أعادت القوى الإمبريالية (البريطانيون في الهند وشرقي إفريقيا والبلجيك في الكونغو والفرنسيون في الجزائر والهولنديون والفرنسيون في جنوب شرقي آسيا) ما اغتصبته بعد تردد وابتلعت كبرياءها حين أجبرتها مقاومة جبارة على التسليم·

ومن حسن الحظ أن هناك أناسا في كل أنحاء العالم يؤمنون بأن الكائنات الإنسانية في كل مكان تستحق الحقوق ذاتها في الحياة والحرية، وعشية غزو العراق في 15 فبراير 2003 تظاهر أكثر من 10 ملايين إنسان في أكثر من 60 بلداً ضد تلك الحرب، وهناك رفض متعاظم لقبول هيمنة الولايات المتحدة وفكرة التميز الأمريكي، ومنذ وقت قريب حين أصدرت وزارة الخارجية تقريرها السنوي الذي وضعت فيه أسماء الدول المتهمة بممارسة التعذيب وانتهاك حقوق الإنسان الأخرى ظهرت ردود فعل ساخطة في مختلف أنحاء العالم على غياب اسم الولايات المتحدة عن تلك القائمة، وقالت صحيفة تركية: ليست هناك حتى إشارة الى الأحداث في سجن أبو غريب، ولا إشارة الى غوانتانامو، وأشارت صحيفة في "سيدني" الأسترالية الى أن الولايات المتحدة ترسل المشكوك فيهم، الأشخاص الذين لم يحاكموا ولم توجه إليهم تهمة، إلى سجون في مراكش ومصر وليبيا وأوزبكستان وهي بلدان تقول عنها وزارة الخارجية نفسها إنها تمارس التعذيب·

وهنا في الولايات المتحدة، رغم إخفاق وسائط الإعلام في نشر شيء عنها، مقاومة متنامية للحرب في العراق، وتظهر استطلاعات الرأي أن نصف المواطنين على الأقل لم يعودوا يؤمنون بالحرب· والأكثر أهمية ربما أن هناك المزيد والمزيد من المعارضة للحرب في أوساط القوات المسلحة وعائلات المجندين·

قال "ألبرت أينشتاين" بعد فضائع الحرب العالمية الأولى إن الحروب ستتوقف حين يرفض الناس الذهاب الى القتال، ونرى الآن رفض جنود للقتال ورفض عائلات لذهاب أحبائها الى الحرب، وإصرار عائلات طلبة المراحل الثانوية على إبعاد إدارات التجنيد عن مدارسهم، هذه الأحداث المتزايدة بانتظام ربما تجعل من المحال أخيراً كما في حالة "فيتنام" أن تواصل الحكومة الحرب وستصل الى نهايتها·

إن أبطال تاريخنا الحقيقيين هم الأمريكيون الذين رفضوا قبول أن لدينا ادعاء خاصا بالأخلاق والحق في فرض قوتنا على بقية العالم· إنني أفكر بالداعية الى تحرير العبيد، "وليم لويد جاريسون" الذي كانت تتصدر صحيفته "المحرر" الكلمات· "بلدي هو العالم وأهل بلدي بشر"·

 

 *مؤرخ ومسرحي، صاحب كتاب "تاريخ شعبي للولايات المتحدة"· هذا المقال مأخوذ من محاضرة ألقاها في معهد ماساشوستس ضمن برنامج خاص بالدراسات الإقليمية والمدنية·

(بوسطن ريفيو 24/11/2006)·

طباعة  

ورقة من رواية "الحرب والسلام" الفيتنامية
زمان أنصاف الأشياء الخرب!