رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 27 ديسمبر 2006
العدد 1756

فوكوياما في كتابه الجديد: "ما بعد المحافظين الجدد: أمريكا على مفترق طرق":
مشروع نشر الديمقراطية عبر العراق اخترعه البيت الأبيض بعد الغزو!

                                                                   

 

·         الوسائل السلمية لمكافحة الإرهاب في أوروبا حققت نتائج أفضل من النهج العسكري للولايات المتحدة

·         المحافظون الجدد - كما المجاهدين العرب - وقعوا في وهم أنهم هم الذين هزموا الاتحاد السوفييتي السابق

·         عقلية الحرب الباردة داخل إدارة بوش هي أساس البلاء

·         النزعة التدخلية لدى تشيني ورامسفيلد لم تكن ذات منطلقات إنسانية في يوم من الأيام

·         الأمريكيون يتجاهلون أن انتشار الديمقراطية في أوروبا الشرقية جاء نتيجة لانسحاب القوات الأجنبية وليس الغزو

·         المحافظون الجدد يحاولون دائماً الترويج لوجود خطر يحدق بالأمن القومي للولايات المتحدة

 

بقلم ستيفن هولمز:

بعد هجمات الحادي عشر من سبتبمر 2001 مباشرة، وقع فرانسيس فوكوياما على رسالة مفتوحة تجادل بأن إسقاط صدام حسين ضروري "لاستئصال الإرهاب" حتى لو تبين أن صدام لم تكن له صلة بتنظيم القاعدة أو يدٌ في الهجمات على واشنطن ونيويورك· بمعنى آخر، كان فوكوياما، إضافة إلى أبرز رموز المحافظين الجدد من أمثال تشارلز كروثامر ووليام كريستول، يدقون طبول الحرب ويطالبون بـ "تحويل التركيز من القاعدة الى العراق"· أما الآن فيعبر فوكوياما عن شكل من أشكال تأنيب الضمير بسبب مقتل عشرات الآلاف من الأبرياء العراقيين الذين لم يفعلوا شيئا يؤذي أمريكا أو مواطنيها· ويقول إن "هذه الضحايا في بلد كنا نسعى لمساعدته تمثل ثمنا إنسانيا باهظاَ"· ومثل كلمات الندم هذه ستصدم القارىء لكونها جاءت متأخرة كثيرا، أما بالنسبة للذرائعيين غير النادمين من مؤيدي الحرب على العراق، فإنهم يعتبرون موقف فوكوياما هذا ضرباً من الرّدة والخيانة·

والسؤال المطروح الآن هو، هل يبلغنا فوكوياما بأي شيء لا نعلمه بهذا الصدد؟ هل يمكنه أن يفسر لنا كيف أن "الممارسة غير المسؤولة للقوة الأمريكية أصبحت واحدة من المشكلات الرئيسية في السياسة الراهنة؟ وهل يمكنه مساعدتنا في فهم كيف لفريق يتمتع بخبرة واسعة في وزارة الخارجية أن يرتكب مثل الأخطاء الفادحة التي ارتكبها؟

وهل يمكن أن يكشف لنا كيف قررت إدارة بوش أن تفعل ما أراد هو وحلفاؤه السابقون لها أن تفعله، ولا سيما تحويل دكتاتورية صدام المعزولة الى ساحة معركة مركزية في الحرب العالمية على الإرهاب؟ هذه هي القضية الرئيسية لأن فوكوياما يعترف الآن أن الحرب على العراق أوجدت حالة من الفوضى والاضطراب وأججت المشاعر المناهضة للولايات المتحدة والتي من المفترض أن الإدارة شنت الحرب من أجل تهدئتها·

 

تفسيرات ملتوية

 

وكما يتبين لنا، فإن كتاب فوكوياما يلقي كثيراً من الضوء على المواقف المنحازة عن سابق إصرار وعلى غياب الانسجام الثقافي والتي نجم عنها الرد الكارثي على هجمات 11 سبتمبر· وفوق كل ذلك، فهو يعمّق فهمنا لتفسيرات إدارة بوش الملتوية للخطر الإرهابي الذي تتعرض له الولايات المتحدة·

ويمكننا - من تحليل فوكوياما لسياسة بوش الخارجية - استخلاص خمسة افتراضات قابلة للجدل ولكنها مثيرة· أولا، أن القرار القاتل بغزو العراق كان مبنيا على مخاوف حقيقية، وليست متخيّلة لخطر تعاون دول مارقة مع إرهابيين يرغبون بشن هجوم نووي على الولايات المتحدة· ثانيا، أسهمت أنماط التفكير التي تعود الى حقبة الحرب البادرة وسوء فهم أسباب انهيار الاتحاد السوفييتي، في قراءة إدارة بوش المغلوطة للعدو الجديد، وبالتالي، لقرار شن الحرب كهجوم مضاد تبين في ما بعد أنه عقيم وسيئ الاتجاه ويحمل في طياته بذور الهزيمة·

ثالثا: مشروع المحافظين الجدد لنشر الديمقراطية الذي أصبح يُستغل على نطاق واسع كمبرر للغزو بعد حدوثه (أي بعد حدوث الغزو)، يضع الكثير من الافتراضات حول طبيعة الخطر التي تتناقض مع الإطار النظري الأساسي لحرب إدارة بوش على الإرهاب·

رابعا: سياسات مكافحة الإرهاب غير العسكرية في أوروبا كالعمليات البوليسية المشتركة والبرامج الاجتماعية الهادفة الى مساعدة ودمج الشباب المسلم الذي يشعر بالاغتراب، تعكس فهماً أوضح للتهديد الإرهابي، ويحقق نتائج أفضل من العمل العسكري أحادي الجانب في الشرق الأوسط·

 

عداء متأصل

 

خامسا: قاد العداء المتأصل في إدارة بوش لروح العمل الجماعي، الى التقليل من شأن التهديدات للأمن القومي الأمريكي، وهي التهديدات التي لا يمكن التعامل معها إلاّ من خلال التعاون الدولي·

وسوف يقتصر النقاش في هذه العجالة، على الافتراضين اللذين حظيا بأقل قدر من التحليل، أولا، أن أنماط التفكير التي سادت إبان الحرب الباردة لا تزال حية ومزدهرة داخل إدارة بوش، وثانيا، أن مشروع المحافظين الجدد لنشر الديمقراطية مع افتراضات المحافظين الجدد أنفسهم بشأن خطر الإرهاب وما ينبغي عمله للتصدي له، وعلى الرغم من انتقاداته اللاذعة للمحافظين الجدد الحاليين مثل كريستول وكروثامر، ليس لدى فوكوياما الكثير من السلبيات عن المحافظين الجدد إبان الحرب الباردة· فقد أثبت المحافظون الجدد، ولا سيما جيل الشباب منهم، عجزهم - بعد انهيار الاتحاد السوفييتي - ثقافيا وعاطفياً، عن التأقلم مع بيئة أمنية مختلفة تماما· فبعد أن بَنَتْ آلة حرب هائلة وجبارة لمواجهة الاتحاد السوفييتي (السابق)، وجدت الولايات المتحدة نفسها، فجأة، تفرض سيطرتها على العالم ولديها آلة عسكرية لا تضاهى وتُغري بممارسة القوة· ولكن المشكلة "أن الكثير من المحافظين الجدد ظلوا ينظرون الى العالم على أنه مليء بالأخطار الحقيقية التي لا ينتبه اليها الكثيرون"·

لقد عجز المحافظون الجدد في خفض مستوى الشعور بالخطر الذي ورثوه من الحقبة السابقة، لقد تغيّر السياق بشكل دراماتيكي، بينما ظلت الحالة الذهنية اللاإرادية هي هي، وربما خدم هذا الفشل في التأقلم مع الأوضاع الجديدة، ربما خدم أجندة المحافظين الجدد، فطالما بدا أن الولايات المتحدة تتعرض للخطر، يمكن للمحافظين الجدد تسويق أهميتهم، وعرض أنفسهم كأكثر الأمريكيين قدرة على فهم أبعاد هذا الخطر الداهم، ومهما تكن دوافعهم، كان دائما لديهم "ميل للمبالغة في مستوى الخطر الذي تتعرض له الولايات المتحدة"· كما لجأوا، وبشكل متهور، الى الأساليب القديمة في النيل من الليبراليين باعتبارهم ضعفاء ويفتقرون الى الرغبة في التصدي للعدو، بل وبكونهم متساهلين مع الإرهاب، تماماً كما أنهم جيل سابق، وبأنهم متهاونون مع الشيوعية·

يقول فوكوياما إن الاتحاد السوفييتي انهار بسبب تناقضاته وضعفه الأخلاقي داخلياً، لكن المحافظين الجدد يسدون الفضل في ذلك الى الرئيس رونالد ريغان الذي أجبر "إمبراطورية الشر" على سباق تسلح لا قِبَلَ لها به·

 

إنذارات كاذبة

 

وكما نعلم من حالة بن لادن والأفغان العرب، فإن وهم إسقاط الاتحاد السوفييتي السابق قد يعزز توجهات سيكولوجية خفية للشعور بجنون العظمة· ولم يسلط فوكوياما الضوء على هذا الجانب· ولكن شهادته توحي بأن الكثير من المحافظين الجدد - كما الكثير من الجهاديين - شعر بالغبطة لانهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 لأسباب مشابهة، الأمر الذي قاد على نحو مؤلم، الى نتائج مشابهة·

وإنه لمن المهم أيضا أن نتذكر أنه إبان الحرب الباردة، عارض المحافظون الجدد، سياسة الانفراج مع الاتحاد السوفييتي السابق، بشدة· فهم لم يؤمنوا بأن على الولايات المتحدة أن تتعلم كيف تتعايش مع الاتحاد السوفييتي وأصروا، بدلاً من ذلك، على ضرورة تحقيق الولايات المتحدة نصرا حاسما· وجادلوا بأن التعايش يعني شكلا من أشكال التسوية وهو ما سيتحول الى استرضاء والذي يرقى الى درجة الاستسلام، وبعد تفسخ الاتحاد السوفييتي على نحو غير متوقع، لم يقبل المحافظون الجدد بمراجعة مواقفهم أو الاعتذار عن سوء تقديرهم لقوة النظام الشيوعي وقدرته على البقاء· وعلى العكس من ذلك ، لم يشعروا بأي ذنب ارتكبوه· وعلى الرغم من مواقفهم العمياء بشكل صارخ، زعموا أنه كانت لديهم بصيرة نافذة، ونتيجة لذلك، يقول فوكوياما، إنهم لم يكونوا يرغبون في الاعتراف بأن استشرافاتهم الغريبة حول الخطر المحدق بالآمن الأمريكي، لم تكن أكثر من إنذارات كاذبة، ولهذا السبب أقدم "فريق يتمتع بخبرة واسعة في السياسة الخارجية على ارتكاب أخطاء لا يرتكبها سوى المبتدئين·

لقد ارتكبوا أخطاء جوهرية لأن المبادىء المرشدة لهم كانت مستوحاة من الحرب الباردة، تلك المبادىء التي عفا عليها الزمن·

لقد استخلص المحافظون الجدد المعتدّون كثيراً بأنفسهم، درسين من انهيار الشيوعية· الأول، أنه ينبغي القضاء على أية تهديدات للولايات المتحدة وليس إدارتها· والثاني، أن بالإمكان تعزيز الأمن الأمريكي من خلال تحويل الأنظمة السلطوية إلى دول ديمقراطية، ولم يعيروا اهتماما لفكرة أن تحوّل أوروبا الشرقية الى الديمقراطية لم يطلقه الغزو الأجنبي بل انسحاب الجيش الأجنبي· وكل ما عرفوه هو أن القضاء على الخطر الشيوعي كان نتيجة للنجاح في تحويل دول الكتلة الشرقية الى دول ديمقراطية، أو ديمقراطيات في طريقها نحو التشكُّل· كما أنهم لم يذكروا شيئا عن حقيقة أن جمهور الناخبين الذي يشعر بالقلق يحبذ القضاء على الخطر المميت على أن يعيش في ظله المنذر بالشؤم·

 

تفكير طوباوي

 

ولكن حين نطبق ذلك على الخطر الإرهابي الراهن، فإن هذه الرغبة الجامحة بـ "القضاء على الشر" وهو مشروع المحافظين الجدد كما يصفه ريتشارد بيرل، لها تبعات مرضية (من مرض) عميقة· وليس من الممكن تفكيك الخطر الذي يمثله الإرهابيون الإسلاميون المناهضون للغرب الذين يمتلكون أسلحة يصعب تصوّر مدى قدرتها التدميرية، بين عشية وضحاها· والظروف التي جعلت الإسلام الراديكالي خطرا على الغرب، تعتبر من المظاهر التي يتعذر التخلص منها، للعالم المعاصر· وتشمل أنظمة المواصلات والاتصالات والمصارف العالمية، وانهار البترودولار التي تجد طريقها الى دول إسلامية غير مستقرة سياسيا، إضافة الى انتشار تكنولوجيا السلاح النووي بالتدريج·

وفي ظل مثل هذه الظروف، فإن أية سياسة لمكافحة الإرهاب تستهدف استئصال الخطر الإرهابي ستكون مضللة للذات حتما· ومثل هذا التفكير الطوباوي الذي تعززه المقارنة مع نهاية الاتحاد السوفييتي، قد يحمل في طياته بذور هزيمة الذات أيضا، لا سيما إذا دفعت صانعي السياسات الى التركيز بشكل لاعقلاني، على الجزء الخاطىء من التهديد، ومن الأمثلة على ذلك، تضخيم خطر ثانوي وتصويره على أنه تهديد كبير للولايات المتحدة، وفي هذا الصدد يبرز صدام حسين كنموذج على هذا السلوك·

وبالنسبة لمشروع المحافظين الجدد لدمقرطة الشرق الأوسط، يقول فوكوياما إن الفشل المذّل للفريق الداعي الى الحرب المحيط بكل من تشيني ورامسفيلد "في الإعداد لمتطلبات ما بعد الحرب المتعلقة بالأمن وبناء الأمة يكشف أن مزاعمهم بمصير العراق بعد صدام، كانت فارغة·

وقد جاء الاقتراح بأن الغزو سيجلب الديمقراطية للعراق، والذي روّج له نائب الرئيس ووزير الدفاع، بعد وقوع الغزو، ويهدف الى تبرير شن الحرب الاستباقية· فمواقفهما التي تتسم بالغطرسة تجاه سيادة الدول الأخرى كانت تمثل الوجه الآخر لالتزامهما بحرية الولايات المتحدة في الحركة غير المحدودة في شتى أنحاء العالم·

 

انعكاسات عنيفة

 

تذهب جدلية المحافظين الجدد كالآتي: يعتين على الولايات المتحدة نشر قواتها المسلحة لأن مصالح الولايات المتحدة كانت ولا تزال مهدّدة بسبب غياب الديمقراطية في العالم العربي·

والقاعدة الأساسية وراء هذا الزعم ليس الفكرة الت يدار حولها الكثير من الجدل بأن الديمقراطيات من النادر أن تشن الحروب مع بعضها، وبالتالي، فإن نشر الديمقراطية يُسهم كثيرا في نشر السلم الدولي· وجدلية المحافظين الجدد لا تُعنى بالعلاقات بين الدول التي قد تنشأ بينها الحرب بل بديناميات طبقية أو مجموعاتية داخل الدولة الواحدة التي قد تتداعى وتؤثر سلبا على الدولة الأخرى·

ويعتمد هذا الطرح على أن الديمقراطية هي الشفاء الأكثر فاعلية للراديكالية الإسلامية التي ضربت الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر، وفي حيثياتها أن الأنظمة السلطوية لا يمكنها التسامح إزاء التعبير عن الاستياء الشعبي الناجم عن سوء استخدام السلطة، ومن إحكام قبضتها على السلطة، يتوجب على الأنظمة سحق المعارضة مهما كانت متواضعة وقمع المنشقين والمنتقدين بأقصى درجات الشدة والعنف إذا لزم الأمر· ولكن في عصر العولمة، لم تعد الثورات تموت بسهولة، بل إنها تنتشر بشكل يتعذر السيطرة علىه عبر الحدود العالمية ويكون لها انعاسكات عنيفة في الخارج، فالتمردات في الشرق الأوسط تعرضت لقمع شديد وحشي، لدرجة دفعتها لتبني استراتيجية غير مباشرة لقلب أنظمة سلطوية في الداخل والاستيلاء على السلطة·

لقد سافر المتمردون الى الخارج وبدؤوا يتخذون ممن يرون أنهم طغاة بلدانهم، هدفا لاعتداءاتهم·

وهذه الجدلية تعني أن الولايات المتحدة أفاقت في الحادي عشر من سبتمبر 2001، لتجد نفسها في وسط حرب أهلية لدولة أخرى، لقد دمّر مركز التجارة الدولي على يد متمردين أجانب كانت أهدافهم الأصلية تتركز في الشرق الأوسط، فالطاقة التفجيرية وراء الهجوم جاءت من المملكة العربية السعودية ومصر، حيث متمردون غير قادرين على قلب أنظمة بلدانهم، فراحوا يصبون جام غضبهم على حماة تلك الأنظمة الكونيين، وهكذا، فإن مبرر الوصول الى "داخل الدول" لا يمثل الحاجة التقليدية لاستبدال حكام معادين أو غير متعاونين بآخرين أكثر طواعية من أمثال أحمد الجلبي في العراق، بل "خلق الظروف السياسية التي تمنع الإرهاب"· ويذهب المحافظون الجدد الى أن الظروف السياسية التي تمنع بروز الإرهاب الذي يستهدف الولايات المتحدة هي الديمقراطية·

وتبدو مبرراتهم الآن غامضة ومضطربة، لكن افتراضهم الأساسي واضح تماما، وهو أن الحكومات الديمقراطية تعمل على توجيه الاستياء الاجتماعي داخل النظام بدل الاستياء من الانفجار في الخارج، فالحكومات السلطوية في العالم العربي أظهرت قدرتها على الاحتفاظ بالسلطة بأساليب قمعية، لكن الثورات المناهضة لها في ظل الظروف الراهنة، لها "تداعيات خارجية خطيرة، وخاصة تصدير الجهاد الدموي الى الغرب، والتحدي الماثل أمام الأمن الأمريكي الآن، هو إغلاق صناعة التصدير هذه، ومن أجل أن تفعل ذلك، يجب على الولايات المتحدة أن تجد سبيلا لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط·

 

استراتيجية معقولة

 

هذه الجدلية المعقدة والمثيرة للجدل لعبت دورا هامشيا فقط في قرار إدارة بوش غزو العراق، إلا أنها تلعب الآن دورا أكبر في تقديم الإدارة المسوغات لـ "مهمتها" في العراق، كما أنها محط تركيز في كتاب فوكوياما، إذن، كيف لنا أن نقيّم الفكرة؟ هل غياب الديمقراطية في الشرق الأوسط هو السبب الرئيسي للنزعة الجهادية المناهضة للغرب؟ وهل نشر الديمقراطية يمثل استراتيجية معقولة للحيلولة دون تصدير العنف السياسي؟

أول ما يقال في هذا الصدد أن محاربة الإرهاب من خلال نشر الديمقراطية لا يبرر الغزو الأمريكي للعراق واحتلاله، فغياب الديمقراطية في السعودية ومصر ربما غذّى - بشكل غير مباشر - الجهاد المناهض للغرب، إلاّ أنه لم يفعل ذلك قط في الحالة العراقية· ففي الدول الحليفة للولايات المتحدة ( كالسعودية ومصر) يتحول العنف ضد نظامي البلدين بشكل طبيعي، الى العنف ضد الغرب، والفكرة بأن غياب الديمقراطية في دول معادية للولايات المتحدة (كعراق صدام وإيران اليوم)، سيكون له ذات التأثير، ليست معقولة منطقيا ولا يوجد دليل تاريخي يؤيدها·

إن المجادلة بأن خلق الديمقراطية في العراق سوف يساعد في هزيمة الإرهاب الإسلامي، هو ضرب من الاعتماد على عملية ذات مراحل متعددة تقوم على أساس أنه حين يصبح العراق ديمقراطيا، فإنه يمكن نشر الديمقراطية في دول كمصر والسعوددية وغيرهما بقوة إلهام التجربة ذاتها·

وحينئذ "فقط، وبعد أن تبدأ أحجار الدومينو (التي تشمل حكومات حليفة للولايات المتحدة)، سوف تسهم ديمقراطية العراق في تجفيف منابع تجنيد الإرهابيين، وبالطبع، فإن مثل هذه الثورات  السياسية، سيكون من المتعذر السيطرة علىها أو توجيهها، وهذا مبرر كاف للشك في أن تشيني أو رامسفيلد - على سبيل المثال - قد أخذا مثل هذا الطرح الاستشرافي للمحافظين الجدد، على محمل الجدّ·

 

علاج ديمقراطي

 

ففكرة العلاج الديمقراطي للإرهاب تفترض أن هناك سببين منفصلين للجهاد المناهض للولايات المتحدة هما الأنظمة السلطوية في الشرق الأوسط والدعم الأمريكي الوصولي المناقض للمبادىء، لهذه الأنظمة· وتوحي هذه النظرية بأن الجهاد المعادي لأمريكا سوف يتلاشى إذا زال أي من السببين المذكورين· وهكذا، فإن مسوّغ المحافظين الجدد لتغيير الأنظمة في الشرق الأوسط يبرر - على ما يبدو - عمل شيء أقل راديكالية وأقل صعوبة، من خلق ديمقراطية تعددية ومستقرة في بلاد ما بين النهرين،  أي الوقت التدريجي للدعم الأمريكي للأنظمة السلطوية الفاسدة والقمعية، والتي تقوم على حكم الأقلية· إن وقف الدعم الأمريكي للأنظمة الفاسدة في الشرق الأوسط ينبغي أن يكون كافيا لعزل أمريكا عن التداعيات العنيفة لأساليب حكم الطغاة·

ولكن لسوء الحظ أن هذا الطريق مغلق، فلا يمكن للولايات المتحدة ببساطة، أن تفك ارتباطها عن منطقة تضم الكثير من مصالحها الحيوية، بما فيها التدفق المنتظم للنفط وملاحقة الإرهابيين، وهي منطقة تتعرض للمخاطر، وهكذا، تظل المفارقة قائمة· فمن تعذر فك الارتباط بالمنطقة ومخاطر الانخراط في التعامل مع الأنظمة السلطوية، يرى المحافظون الجدد أن المصالح الأمريكية تقتضي الانخراط في شرق أوسط ديمقراطي· ويبدو أن هذا المنطق سليم للوهلة الأولى· لكنه يستند الى افتراض هش بأن الحكومات المنتخبة في المنطقة ستكون بالضرورة، مستقرة ومعتدلة وشرعية، ناهيك عن أنها ستكون موالية للولايات المتحدة·

بل إن الجدلية الأكثر جذرية ضد محاربة الإرهاب من خلال تعزيز الديمقراطية، فهي أن أحدا في الحكومة الأمريكية ليس لديه فكرة حول كيفية تعزيز الديمقراطية ويتهم فوكوياما المحافظين الجدد بأنهم يثرثرون بشكل ارتجالي حول هذا الموضوع في وقت يخفقون في دراسة أو محاكاة أدبيات الديمقراطية والتحول الديمقراطي، إن غياب أي اهتمام جدي لديهم بهذا الموضوع كان له ما يبرره، حيث يقول فوكوياما إنه "كان ثمة ميل في أوساط المروجين للحرب للاعتقاد بأن الديمقراطية حالة مهملة تعود اليها حين تتحرك من الطغيان"، ومن الواضح أن هناك اشتراطات كثيرة اجتماعية واقتصادية وسيكولوجية وثقافية لقيام الديمقراطية، ولكن أولئك الذين صدقوا أن هناك مهمة تلعبها الولايات المتحدة في العراق بنشر الديمقراطية فيه، لم يعيروا بالا لتلك الاشتراطات، ناهيك عن المساعدة في خلق هذه الاشتراطات· وبالنسبة لمهمتهم الحساسة بالهندسة الاجتماعية، فإن الإدارة الوحيدة التي فكروا فيها هي عملية فرض هذه التجربة من الأعلى· وربما كان المرء يرى أن نهج "رفع القبعة لتنطلق منها الديمقراطية" مناف للعقل ولا يمكن أخذه على محمل الجدّ، ولكن هذا هو الموقف الذي يسنده فوكوياما - ولديه بعض الأدلة - للمحافظين الجدد داخل وفي محيط إدارة بوش·

فهو يقول إنهم افترضوا، أن الاشتراط الضروري الوحيد لنجاح الديمقراطية هو "التوقف العارم للحرية الذي اكتشفه الرئيس بوش في كل عقل وفي كل روح"·

فتفسيرهم الاجتماعي للديمقراطية يُختزل الى الرغبة البشرية العامة والخالدة في الانعتاق من الظلم، وإذا كان ذلك هو الاشتراط الوحيد للديمقراطية، فلن يكون أمام العراق أية مشكلة للانتقال بسرعة من الوحشية المبنية على القبلية والطغيان الى الانضباط المتحضّر ونظام الحكم الجماعي· ألم يقل المحافظون الجدد أن أولئك المشككين الذين يعزفون على وتر صعوبة إقامة حكومة متسقة وممثلة للجميع في بلد متعدد الإثنيات والطوائف وتسوده الانقسامات القبلية، إنما يفشلون، ببساطة، في تقدير حُب الحرية في كل قلب بشري، حق قدره·

 

نقيض الحرية

 

لقد أدت الخطط المسلوقة على عجل التي أعدها بيروقراطيون جاهلون تاريخيا ونظريا، الى نتائج عكسية، ويجب ألاّ يشكل ذلك مفاجأة لأحد، ولم تتحسن آفاق الإصلاح في الشرق الأوسط بسبب المفهوم السائد بأن "دمقرطة" المنطقة، لا سيما إذا كانت مفروضة من الغرب، تؤدي الى انفجار العنف والاضطرابات وانهيار مستويات الحدّ الأدنى لمستويات المعيشة·

ويوحي فوكوياما بأن من النادر أن قام المحافظون الجدد بالعمل الجاد المطلوب للتعلم من الديناميات المتطورة للمجتمعات المختلفة، سياسيا واجتماعيا، وبدلا من ذلك يبالغون في "شخصنة" OVER-PERSONALISE أي "نظام" يحلمون بزعزعة استقراره وتعريفه من خلال شخصية الحاكم الجدير بالشجب والذي يمكن إسقاطه بضربة جوية واحدة، وهنا يقعون أيضا في تناقض خطير مع الذات، فإحدى مزاعمهم الرئيسية هي أن النظام السيئ ستكون له آثار سلبية طويلة المدى على المجتمع الذي يسيء معاملته، فالحكم الفردي القاسي يغرس "جذورا اجتماعية" معينة ويعيد صوغ "العادات غير الرسمية"، وهكذا، فإن حكم صدام حسين الدكتاتور ولد السلبية والفردية، ناهيك عن الظلم والعنف، وبكلمات أخرى، يمكن أن يكون صدام حسين قد جعل الشعب العراقي غير مؤهل للديمقراطية، ولو لبعض الوقت، على الأقل· وهذه دلالة منطقية لنظرية المحافظين الجدد حول "الأنظمة"، ولكنهم لا ينظرون إليها من زاوية احتمال سحب مبررات الحرب المثالية من بين أيديهم·

هذه الأوهام والمتناقضات - مع ذلك - لا تشكل أفظع الأخطاء المرتبطة بمنطق نشر الديمقراطية، لا سيما حين تجد أن المبرر الأساسي للمساعدة في نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط يتناقض بحدة مع الدعم بأن الإسلاميين الراديكاليين هم أناس عدميون يحبون الموت ويكرهون الحرية· ومن الواضح أن تنظيم القاعدة لا يخوضون حربا ضد آل سعود أو ضد نظام حسني مبارك فهما نظامان ديمقراطيان· بل في الواقع، إن الملاحظ هو أن الإسلاميين الراديكاليين يمقتون التسلط وليس الحرية· وهذا يدلل على خطأ القاعدة المركزية لجدلية تعزيز الديمقراطية·

ففي أدبيات إدارة بوش، يتعارض الإرهاب بشكل روتيني مع الحرية التي تمثل مبدأ لتنظيم المجتمع الحديث·

ولكن النقيض للحرية في الواقع، ليس الإرهاب، إنما الطغيان والحكم السلطوي، وهكذا، فحين تحاول إدارة بوش وضع "الجهاد" في مكان الفراغ الذي خلفته الشيوعية، وتحوله الى عدو كوني جديد للحرية، فإنها تشوش على نفسها وعلى الآخرين· 

المصدر  LONDON REVIEW OF BOODS

طباعة