باسمة بغداد:
أم عصام مهددة بسبب الهوية وهي من سكان أبو دشير في ضواحي بغداد، فقد تعمـّرت سحابة طائفية سوداء فوق مسكنها بفعل من أفعال المنظومة الطائفية التي قدر لها أن تتجول، في هذه الأيام، خلال الظلام الكبير المخيم على بغداد من منطقة أبو دشير حتى سبع البور وصولا إلى كوكبي نبتون وأورانوس عبر درب التبانة المسلح المحيط بالعاصمة بغداد كلها·
جاءتنا أم عصام وبدت عيناها أمامي بالغة الاحمرار يتدفق الدمع منها غزيرا فحين دخلت إلى منظمة المجتمع المدني التي اعمل فيها شعرت في الحال أنها تتحرك باضطراب شديد وكأنها قادمة من رحلة طويلة أعياها فيها التعب ، لكنني سرعان ما اكتشفت من حديثها المؤلم الحزين أن للطائفية أخلاقيات ليست هي من أخلاقيات الانسان المؤمن بدين الاسلام السمح ، بل ليست من أخلاقيات الكائنات البشرية إذ وضع الطائفيون هذه المرأة امام الاشعة تحت الحمراء بالتهديد القائل : عليكم مغادرة ابو دشير خلال 24 ساعة والا فأن درجة حرارة الكلاشنكوف سترتفع بباب بيتكم وداخله ··
و قال بصوت مبحوح : علي أن أخرج من البيت فوراً ··
الى أين يا ترى ··؟
لم استطع تصديق ما أسمع وما أرى ·· فكيف يمكن لعائلة ان تنتقل من مكان وجودها واستقرارها وعيشها إلى مكان آخر خلال 24 ساعة··؟
نعم لقد حصلت على بيت يمكن أن تنقل أغراضها إليه، و لكن سعر التحويلة، أي الشاحنة التي تنقل الأغراض، سعرها أصبح مليون و نصف دينار عراقي، و هذا ما يعادل أكثر من ألف و مئة دولار، و بشرط أن تكون التحويلة (درب واحد)، أي مرة واحدة ليس أكثر لأنهم يخافون·لم تكن أم عصام تملك هذا المبلغ هي و زوجها و أولادها، فاتفقنا نحن على عمل سلفة فيما بيننا لتفك ضيقتها·
و لشدة محبتي و علاقتي بأم عصام، فقد ذهبت لمساعدتها في الانتقال و شد الأغراض في الشاحنة، السائق و العمال و الجيران جميعا تعاونوا، لأنهم يعرفون وضع المنطقة الصعب، و في أية لحظة يمكن أن يحصل المحظور، لا بل المألوف من المواجهات الحادة·
و لو انك حين تدخل إلى أبو دشير، ترى شوارعها شبه فارغة، أسواقها مقفرة··· و محال ان ترى امرأة تمشي بمفردها إلا في سيارة مع أحد أقاربها··· الرجال لا يغادرون بيوتهم إلا للضرورة··· و من عنده عمل ممكن أن لا يعود إلى بيته، بل في منطقة أكثر أمانا، تاركا عائلته في رعاية الله و حفظه·
أكملنا وضع الأغراض في الشاحنة، و ركب السائق و العمال، ودعنا الجميع و بدأ السائق بالتحرك، و العيون جميعا تبكي حرقة الوداع، و لكن ما لم يكن في الحسبان أن يأتي مسلحون و يطلقون النار على السائق و العمال الثلاثة ليردوهم قتلى··· هل هناك مصيبة اكبر من تلك؟ يُقتَلون دونما ذنب، سعيهم لتدبير لقمة العيش، لا يمكن وصف الحالة التي أصبح الجميع فيها، لقد خُيل إلي حينها انه كابوس مثل باقي الكوابيس التي نحياها كل يوم في بغداد· لحظات يبدو أنني فقدت الوعي فيها، و حين حاولت أن أتمالك نفسي، و في تلك الحالة نظرت إلى إحدى جارات أم عصام، وجدتها مرعوبة، و همست بأذني: تعالي معي في حديقة بيتي، دخلت الحديقة معها لتريني ورقة كُتب فيها و على عجالة عبارة " إما الرحيل اليوم و إما مصيركم المحتوم"·
وضحت أمامي الصورة الآن، الدم الذي بدأ يسيل منذ دقائق لا يزال، لا تزال الجثث أمام الأهالي دون معرفة ما سوف يفعلون، جاءت مصيبة اكبر···التهديد في تلك الورقة··· إنها ليست مزحة، و لكنها حقيقة، جاء عصام و أمه فأعطيناهم الورقة··· و على صوت الرصاص قبل قليل··· قَدِمت آليتان للجيش العراقي و هي ما يدعوها بالهمر··· اتصلوا بالإسعاف لأخذ الجثث و التي سوف تأخذ طريقها كما جرت العادة إلى المستشفيات لتوضع في الثلاجات· و بعد مرور عدة أيام، و حين لم يظهر لهم أهل ليأخذوهم، سوف يدفنون في مقابر جماعية جديدة النوع ، غصت بها مدن العراق، و كأن بلدنا كانت تنقصه تلك المقابر التي أوجدها وخلقها نظام صدام حسين خلال أربعة عقود مضت زُرِعت في كل مناطق العراق و مدنه·
أما أغراض العائلة المرغمة على التهجير، فقد تم نقلها إلى سيارتي الهمر، و بمساعدة الجنود، لينقلوها و ينقلوا معها قلوبا عاشت و ترعرعت في بيت و منطقة و بين أهاليهم فيما بين سنة و شيعة·
ضاعت كل حقوق المرأة العراقية في عصر الطائفية فاجبروا ام عصام على الهروب بسيارة همرية ··!