رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 6 ديسمبر 2006
العدد 1753

الأرض، السلطة، الحقوق
من القرون الوسطى إلى العولمة

                                             

 

للمؤلفة ساسكيا ساسن - قراءة وتعليق سعاد المعجل

تطرح "ساسكيا ساسن" أستاذة علم الاجتماع في جامعة شيكاغو، والأستاذة الزائرة في كلية الاقتصاد بجامعة لندن، سؤالا تحاول أن تجيب عنه في كتابها عن الحدود التي تفصل بين الدولة القومية، والعولمة·

وهي تجادل في كتابها هذا أنه وعلى الرغم من أن مفهوم "العولمة" يحمل في معناه تجرد وإلغاء لصفة القومية وسيطرتها، إلا أن مشروع "العولمة" في الواقع يتشكل ويسير بواسطة مؤسسات وشبكات هي في الأساس إفراز مباشر للقومية· وتستعين "ساسن" في رؤيتها هذه بدراسة مفصلة لحجم التغيرات التي حدثت في الثلاثة أركان التي تشكل أي مجتمع، أي الأرض، والسلطة، والحقوق· وكيف أن هذه الأركان قد تحولت عبر ثلاث مراحل تاريخية مهمة، العصور الوسطى، ومرحلة الدولة القومية، ثم مرحلة العولمة·

 

أسباب نشأة الدولة

 

تبحث "ساسكيا ساسن" في البداية عن قابلية نشأة حدود الدولة في تاريخ القرون الوسطى، وهي تضع هنا أربعة أوجه لتلك النشأة·

الأول أن حدود الدولة تقوم وتتعزز حتى وإن لم يكن ذلك في ظل شعور قومي يوحد شعبها، بل وحتى في ظل سلطة ضعيفة· والثاني أنه ومن قلب نشأة الحدود، تنشأ بيروقراطية تحصيل العوائد، وخاصة الضرائب· وهنا يشترط ذلك إقامة نظام تكنوقراط يجعل من الدولة القوة الأكبر في ذلك الوقت· وهو أمر أدى إلى اعتبار مشاريع النهب والسلب في القرن السادس عشر تبدو كنوع من الممارسة الوطنية والقومية التي تمارسها الحلقة الأقوى هنا، أي الدولة· أما ثالث قابلية لنشأة الدولة فتأتي من خلال الشكل النظري للسلطة في مقابل القوة، والدولة هنا تستمد شرعيتها من الشرعية الدينية والتي هي أساسا شرعية زائفة· هذا الشكل المعقد والنظري لحدود الدولة القومية الشرعية الدينية يشكل تحولا جذريا لمفهوم الدولة مقارنة بمرحلة النظام الإقطاعي· وهكذا فقد استمر التحول في القرون الوسطى، من الدولة الدينية البحتة التي سادت فيما قبل القرون الوسطى، الى دولة مدنية يحكمها القانون مما جرد والى حد معقول من سلطة الحكم المطلقة، وفتح الطريق لنشأة المدن ككيانات اقتصادية معقدة الشكل في تركيباتها وقادرة على فرض تصوراتها لشكل السلطة السياسية· وتأتي النقطة الرابعة لقابلية تشكل الدولة من خلال نشأة الحدود الاقتصادية السياسية، مما يعني القابلية لإقامة مجتمع قادر على المطالبة بحقوقه المدنية، وعلى تشكيل نظام حكومة دستوري، وأيضا على التوسع اقتصاديا مع مجتمعات ليست خاضعة لنفس النظام والسلطة·

 

الميزان العالمي

 

تطرح بعد ذلك "ساسن" سؤالا حول الأسباب التي منعت من تشكل نظام عالمي قادر على تحجيم التباين القومي والأممي في العالم، بدلا من ترسيخ القوميات الاستعمارية خاصة في نهاية القرن الثامن عشر· وهي تجيب فيما بعد عن هذا السؤال، إن هذا الميزان العالمي القائم منذ العصور الوسطى كان موجهاً باتجاه بناء المزيد من الدول القومية، والنزاعات الاستعمارية· وهنالك أكثر من مؤشر على ذلك، أحدها أن مثل هذا الميزان العالمي قد جلب معه الكثير من الأعداء والمنافسين الذين تحركهم مشاعرهم القومية الى درجة الانخراط في حروب كثيرة من أجلها، أغلبها كان لتأمين الموارد التي هي في غاية الأهمية للحفاظ على تلك القوميات· وترى "ساسن" هنا أن تطور مفهوم السلطة الجغرافية كان أمرا في غاية الأهمية في القرن السادس عشر كمدخل لنشأة الدول القومية والاقتصادات القومية· وقد أدت مثل هذه النشأة للدولة كلاعب أساسي في تحفيز عجلة الاقتصاد العالمي الى المزيد من القوة للسلطة الجغرافية والتي بدورها تأتي كأهم المرتكزات في بناء الهوية القومية· كما أن مثل هذا التحول للدولة من ملكية إقطاعية بحتة الى دولة ذات حدود واضحة، تطلب تغييرا في مفهوم السلطة بشكل عام· وأيضا الى تحديد أوضح للسيادة السياسية وحدود الدولة الجغرافية·

 

مراحل تشكيل الميزان العالمي

 

تستعرض "ساسن" مسألتين في غاية الأهمية في دراستها لمراحل تشكل الميزان العالمي في القرن السادس عشر، الأولى تتعلق بحساسية العلاقة بين جهود بناء اقتصاد قومي، وبين الجهود الساعية لتأمين تمويل مثل هذا الاقتصاد بواسطة التوسع الجغرافي الاستعماري، أما المسألة الثانية فتتعلق بالعلاقة الحرجة بين تأمين الثروة للحاكم أو الأمير، وبين الثروة الوطنية التي يجسدها الحسم المتنامي لطبقة التجار وأصحاب البنوك·

قد تشترك القوى الرئيسية في أوروبا إبان القرن السادس عشر في طموحاتها لبناء اقتصاد وطني سياسي قوي، لكنها في الوقت نفسه تختلف في الأساليب التي اتبعتها لتحقيق مثل تلك الطموحات· فعلى سبيل المثال، تبرز إنجلترا في أوائل القرن السابع عشر كقوة استعمارية كبيرة· وقد عُرف عن الملوك الإنجليز نزعتهم لمساندة قطاع البرجوازيين· وهو أمر أدى الى تطور الرأسمالية الصناعية عبر القرن السابع عشر وإلى بداية القرن الثامن عشر، بحيث أصبحت البرجوازية هي الطبقة المسيطرة سياسيا، ولها من النفوذ والقوة ما مكنها من تشريع صيغة جديدة للحكومة، وبرلمان كانت فيه البرجوازية الفئة الأكثر خطورة· وبالطبع فقد أدى مثل هذا التطور السياسي والاقتصادي في إنجلترا الى تضاعف الحاجة للتمدد وللسيطرة الاستعمارية خارج حدودها، لكن أكثر ما أمّن للبرجوازية شرعيتها هو ولادة مفهوم الديمقراطية الحرة، الذي أفرز بدوره مفهوم الدولة الحرة بقوانينها وتشريعاتها التي أمنت الحقوق والحرية للطبقة البرجوازية في مقابل الطبقة الحاكمة أو الملكية، لكنها في الجانب الآخر سلبت حقوق طبقة النبلاء وكذلك العمال فيما بعد·

أما في فرنسا، فقد تطورت البرجوازية بشكل مختلف، وبقيت ضعيفة بالمقارنة بإنجلترا، وفي ألمانيا، أو بمعنى آخر بروسيا حيث أن ألمانيا بالمعنى الصحيح لم تنشأ إلا في العام 1871، فلم تكن هناك ثورات برجوازية· أما في الولايات المتحدة والتي كانت آنذاك دولة ناشئة فقد اتخذ شكل تطورها صيغة مختلفة تماما حيث تطورت كاقتصاد رأسمالي صناعي ومع بداية القرن التاسع عشر، بدأت الدولة القومية في تطوير نماذج مختلفة من التعاون الاقتصادي العالمي، وقد أدى مثل هذا التوسع الى نشأة تحالفات عديدة بين الدول، لكنها بقيت مرتبطة بخلفيتها وأصولها القومية·

تنتقل "ساسن" فيما بعد الى القرن التاسع عشر الذي شهد تحولات معقدة وتطورات على المستوى الإداري والتشغيلي، وهنا قد يطرح المرء سؤالا حول فشل النظام الدولي في التصدي للفروقات والانقسامات القومية، خاصة بعد أن نمت الخصومات القومية بصورة أفرزت العديد من الحروب المدمرة والسبب بالطبع كما تراه "ساسن" يعود الى أن كل الجهود كانت تصب في بناء دول قومية بدلا من نظام عالمي ودولي موحد· لكن العالم بدأ وبعد سنوات من الحرب العالمية الثانية في الدخول فيما يعتبر أولى الخطوات باتجاه عصر العولمة خاصة مع بداية السبعينيات من القرن الماضي!! ولعل أهم تلك الخطوات مؤتمر "بريتون وودز" في العام 1944 والذي تبنته الولايات المتحدة وبريطانيا للعمل على وضع صيغة للنظام المالي والتجاري لمرحلة ما بعد الحرب!! وهو المؤتمر الذي يعتبره الكثيرون بداية عصر العولمة!!

تركز "ساسن" فيما بعد على الحدود الجغرافية الجديدة للدولة والتي جاءت كنتيجة مباشرة لعمليات الانصهار المستمرة فيما يتعلق بالتعامل والتبادل التجاري والمالي!! مثل هذه الحدود التي أصبحت سائدة اليوم بفعل رأس المال العالمي، تفرض ولا شك على القوميات أن تنسجم مع سياسات معينة!! كما أنها أصبحت تنعكس وبصورة واضحة على العلاقة بين الحدود الجغرافية للدولة من جهة، وحركة الاقتصاد العالمي من جهة أخرى!! لكن "ساسن" تجادل هنا في أن عولمة الشركات والأسواق هي في نهاية الأمر مسألة ناشئة داخل التكوين القومي للدولة!! وأن الدولة لا تزال محتفظة بكيانها وبدورها وتعمل كحاضنة لكل تلك الديناميكية الاقتصادية التي ربطت الدول فيما أصبح يعرف بالعولمة!! وأن مثل هذا الدور للدولة قد أصبح ملحوظا ونشطا في العقدين الماضيين!!

ثم تستطرد "ساسن" في وصف إرهاصات العولمة على علاقة المواطن بالدولة، والتي ترى أن التوجه العالمي اليوم قد باعد بين المواطن من جهة والدولة من جهة أخرى، وهي العلاقة التي ترى "ساسن" أنها من أهم إسقاطات الثورة الفرنسية!! وبحيث قل اعتماد المواطن على الدولة، وذلك ليس على مستوى حقوق المواطن والتزامات الدولة تجاه مواطنيها وحسب، وإنما أيضا على مستوى التعامل والحوار بين المواطن وبين الدولة!! مما أدى الى ظهور فئة من المواطنين الذين يتضاعف انتماؤهم وامتدادهم خارج نطاق الدولة وحدودها ونظامها السياسي والقانوني!!

 

التكنولوجيا والعالم الافتراضي

 

تستعرض "ساسن" وفي فصل كامل أثر التكنولوجيا والعالم الافتراضي والرقمي على كل المفاهيم المتعلقة بالدولة والمواطنة!! ثم تقارن بين عالم كانت تحكمه الأسواق والشركات والسياسات المشتركة، وعالم تحرك شبكة من العلاقات والتداولات الافتراضية!! بين عالم كان يعيش على بيروقراطية الزمان والمكان، وعالم يتخطى الزمان والمكان!! لكن وبرأي "ساسن" فإن العولمة لا تزال تتحرك بشكل جزئي وذلك لأن جغرافية العولمة لاتزال جزئىة وليست شاملة!!

تختم "ساسكيا ساسن" كتابها بالتذكير بأن متابعة التغيير في نظام معقد كالمجتمع البشري هي بحد ذاتها مسألة حساسة وصعبة!! وهي على حسب تعبيرها حاولت في كتابها هذا دراسة مرحلة التغيير التي بدأت من العام 1980 فيما أصبح يعرف بالعولمة، وإن دراسة كهذه لكي تكون دقيقة بما فيه الكفاية تشترط تشريحا وبحثا مطولا في الجذور المكونة للدولة القومية، لأنها تحوي بداخلها كل التفاصيل الأخرى الممتدة عبر قرون عديدة!! وقد حاولت في كتابها أن تتبع مراحل تفكك القومية عبر التاريخ، وبروز نماذج جديدة بديلة سواء على المستوى العالمي أو المستوى المندرج تحت صفة القومية!! وعلى الرغم من الشكل المتداخل الآن من العلاقات العالمية، إلا أن "ساسن" ترى أن الدولة القومية لا تزال في صلب بناء العولمة، بالإضافة الى عناصر أخرى!! ثم تقدم "ساسن" تعريفا حديثا لسيادة الدولة، حيث تحول مفهوم السيادة من كونه ممارسة للسلطة فوق رقعة وحدود جغرافية محددة، الى مفهوم محدود الرقعة التنفيذية والتشريعية!!

أما ما يتعلق بمفهوم الأرض أو بقعة الدولة الجغرافية والتي كانت معيارا أساسيا في ممارسة السلطة والنفوذ، فقد طاله ما طاله كذلك من التحديث ولم يعد يحمل المفهوم الجامد والتقليدي كما في السابق!! وبالطبع فقد أثر مثل هذا التغيير في مفهوم الانتماء والجنسية!!

ترى "ساسن" أن الحديث عن العولمة قد ركز على ما أسمته الأحداث التي شكلت الجسور الموصلة للعولمة، أكثر بكثير من التركيز على الحدث بحد ذاته!! وبحيث كان الحديث عن العولمة مقتصرا على تلك الجسور كصندوق النقد الدولي، ومنظمة الصحة العالمية وغير ذلك من موصلات، بدلا من الحديث عن ديناميكية التحول نحو العولمة، خاصة في سياقها التاريخي البعيد!! كتاب "ساسكيا ساسن" يحوي من التفاصيل والاسترسال الأكاديمي الى حد ما، أكثر بكثير مما جاء في هذا العرض الموجز·

وهو كتاب لا يتناول فقط الثلاثة أضلاع الرئيسية للدولة وحسب، أي الأرض والسلطة، والحقوق، وإنما يبحر كذلك في تشريح دقيق لمسار الدولة القومية منذ العصور الوسطى وماقبلها، ليلتقي فيما بعد مع عالم العولمة، والبرمجة، والعالم الافتراضي، الذي يشكل جزءا من مسيرة التحول العظيم في المسيرة البشرية!!

طباعة  

إدوارد سعيد في حديث إذاعي نادر
بدأ الشرقيون تحطيم القوالب وكتابة تاريخهم!