رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 29 نوفمبر 2006
العدد 1752

تفكيك ديفيد غروسمان:
إذا كان هذا يساريا.. فما حاجتنا الى اليمين؟

                                                                    

 

جلعاد إتزمون*:

يمنح العالم، أو هكذا يبدو، مكانة مرحبا بها للخطيب الإسرائيلي الجديد، الكاتب ديفيد غروسمان، فعلاقات إسرائيل العامة بحاجة ماسة الى مثقف مستقيم، كاتب "يتحدث عن السلام"، رجل يقدم مواعظ عن "المصالحة"، رجل شالوم (سلام)· وفي هذا السياق نشرت صحيفة "الجارديان" أمس خطاب "غروسمان" في الأسبوع الماضي عند نصب "إسحاق رابين" التذكاري في تل أبيب·

"غروسمان" "إسرائيلي مستنير ناضج"، صهيوني يساري من النوع الخفيف، يرغب رغبة قوية بتغيير ما، وقد قرأت خطاب "غروسمان" ويجب أن أقول، رغم أن البعض ينظر إلى الرجل بوصفه مثقفا إسرائيليا يساريا، إنني لم أر في لب خطابه شيئا غير الإحساس بالتفوق اليهودي، وحتى ترميم وصيانة جدول الأعمال الصهيوني العنصري القديم الفج ذاته، "غروسمان" شأنه في ذلك شأن إسرائيليين آخرين، غاطس كليا في خطاب شوفيني متمركز حول الذات الصهيونية·

وقد جمعت في مايلي بعض المقتطفات الشائنة التي طرحها الخطيب اليساري العبري البازغ حديثا·

 

غروسمان وأسطورة "القيم اليهودية الكونية"

 

غروسمان الذي يحبه البعض من أجل الحب، يخدمنا بنظرة خاطفة كبيرة في العقل الصهيوني العلماني، "أنا" هكذا يقول عن نفسه: "رجل يخلو خلوا تاما من الإيمان الديني"· ولكن "غروسمان" لا يتوقف هنا فحسب، "المؤسسة بالنسبة لي، ووجود دولة إسرائيل ذاته، نوع من معجزة حدثت لنا كشعب، معجزة سياسية وقومية وإنسانية"· وأسأل نفسي، منذ متى تؤمن الكائنات العلمانية بالمعجزات؟ ربما على المرء أن يذكر "المثقف الإسرائيلي العلماني" بأن المعجزة هي "نتاج أو حادث استثنائي في العالم المادي تتجاوز كل القوى الإنسانية المعروفة أو الطبيعية، وتنسب الى سبب فوق طبيعي"· إن "غروسمان" مثل الكثير من الإسرائيليين يتبع هنا بالفعل شكلا جديدا من العلمانية، إنها نزعة إلحاد "تنسب الى نوع من سبب فوق طبيعي"·

والأشد مدعاة للاستغراب، أن العلمانيين الصهاينة أرثوذكس متطرفون غاية التطرف في ما يخص ديانتهم الجديدة التي تدعو الى الرثاء· وربما يمكنني أن أساعد "غروسمان" فأقول له بأنه لا توجد هناك معجزة بطولية حقيقية بشأن إسرائيل، فإسرائيل مجرد دولة عنصرية مبتذلة وقومية متعصبة·

ولا يبدو نجاح إسرائيل النسبي معجزا إلا بسبب أن جيرانها العرب استغرق الأمر منهم بضعة أجيال ليتكيفوا مع مستوى البربرية الصهيونية·

حسب أقوال "غروسمان" ضيعت أوبددت إسرائيل تلك "المعجزة"، تلك الفرصة العظيمة والنادرة التي منحها التاريخ لها، الفرصة لخلق دولة ديمقراطية مستنيرة تقوم بوظيفتها قياما ملائما، يمكن أن تتصرف وفق القيم اليهودية الكونية"·

وتبعا لنظرة "غروسمان" الخاطفة في الروح اليهودية، فإن التنوير والديمقراطية غريبان بالنسبة لليهود، ويجب أن يدرك حدوثهما في المجال اليهودي كمعجزة، من المحتمل أن "غروسمان" يقر هنا من دون أن يدرك أن "التنوير" و"الديمقراطية" تعارضان الروح اليهودية، وبالتأكيد هذا تيار ثقافي ليس جديدا، ولا هو أصيل· فالموجات الأولى من الإيديولوجيين الصهاينة آمنوا بأنه في "صهيون" سيظهر يهودي جديد: يهودي متمدن وعلماني وديمقراطي ومتنور يتمرد على سلفه المنحط أخلاقيا في الشتات· ما يدعو الى القلق أكثر، إن "غروسمان" يخدع مستمعيه بفظاظة حين يحيلهم الى "القيم اليهودية الكونية" كما لو أن مثل هذه القيم ليست سوى معرفة مشتركة مقبولة، وبقدر ما يبدو الأمر غريبا بالنسبة للبعض، لا وجود لمجموعة "قيم يهودية كونية" مقبولة بعامة· هل هناك من كتاب يقدم فكرة "قيم يهودية كونية"؟ لا أعتقد إن كانت هناك مجموعة قيم يجب أن تفهم "كقيم يهودية كونية" فتلك التي بلّغتها التعاليم اليهودية بطريقة مناسبة· وأعتقد أن يهود التوراة الذين يساندون بصدق القضية الفلسطينية قد يكونون على شيء من المعرفة بالقيم الكونية، ومع ذلك، يصور "غروسمان" نفسه كإنسان علماني، بالتأكيد إن ما يفكر فيه وهو يشير الى الكونية اليهودية ليس التفسير الأرثوذكسي اليهودي· حقيقة الأمر هي أن المسيحية هي التي ترجمت اليهودية الى نظام قيم كوني، والمسيحية هي التي حوّلت "الجار" الى "آخر كوني"·

لاشك أن هناك عددا وافرا من الإنسانيين الكونيين تصادفت أن تكون أوصولهم يهودية، ولكن لا وجود لمجموعة "قيم يهودية كونية" معترف بها· إن "غروسمان" والمثقفين اليهود الآخرين الذين ينشرون أسطورة "النزعة الكونية اليهودية" يخادعون أنفسهم ويخادعون مستمعيهم· بالإضافة الى هذا، ربما تفسر حقيقة افتقار اليهودية العلمانية لخلفية فلسفية الإفلاس الأخلاقي العام للدولة اليهودية· وحتى "غروسمان" ذاته كما سيأتي في السطور اللاحقة، يسقط في المصيدة ذاتها، قد يكون واعيا بالمفهوم الأخلاقي ولكنه يخفق في تقديم نظرة أخلاقية الى العالم متسقة، وقد يكون واعيا بالنتائج السلبية للعنصرية، إلا أنه هو ذاته يسقط في تعصب النزعة الاستعلائية الأعمى، وبسهولة بالغة·

 

غروسمان العنصري الفظ؟

 

يمتلك "غروسمان" قدرا من الشجاعة يجعله يقف ويقر بأن "العنف والعنصرية" يسيطران على وطنه إسرائيل·

حتى الآن هذا جيد، وللحظة كدت أعتقد أن "غروسمان" هو بالفعل يهودي علماني مستنير معاد للعنصرية، ولكن وبعد سطر فقط، يتساءل "كيف يحدث أن شعبا له قوانا الخلاقة والمتجددة" يجد نفسه اليوم "في دولة واهنة وبائسة مثل هذه؟"· وقد يسأل القارىء الناقد نفسه ما الذي يشير اليه "غروسمان" حقيقة حين يقول: "شعبا له قوانا الخلاقة والمتجددة"؟ الأمر بسيط· "غروسمان" يؤمن إيمانا جازما بفرادة الشعب المختار، أو بكلمات أخرى، هو ليس أكثر من مؤمن بالحتمية البيولوجية·

والسؤال الذي يجب طرحه هنا هو، كيف تخصص "الجارديان" ثلاث صفحات لاستعلائي يهودي؟ أعتقد أن اليهود يتمتعون ببعض من الحريات التي يفتقر اليها بقية بني البشر، على سبيل المثال، أجد من الصعب أن أصدق أن "الجارديان" ستمنح مكانا لصوت فيلسوف ألماني يمتدح "القوى الخلاقة والمتجددة" للشعب الآري·

أن مثقفا يهوديا، بهذه الطريقة أو تلك، يمكن أن يفعل ما يشبه هذا وينجو بفعلته·

رغم أن "غروسمان" لديه قدر من النزاهة يكفي ليجعله يعترف بأن الفلسطينيين وضعوا "حماس" في موقع قيادتهم· إلا أنه يدعو "أولمرت" إلى "مناشدة الفلسطينيين من فوق رأس  حماس· ناشد المعتدلين بينهم، أولئك الذين مثلك ومثلي يعارضون حماس وإيديولوجيتها"·

يا سيد غروسمان، إذا كنت حقا إنسانيا كونيا، وهو شيء أشك فيه، عليك إذن أن تتعلم الإصغاء إلى "حماس" بدل أن تتحدث الى الفلسطينيين من فوق رؤوس قادتهم المنتخبين· إن "غروسمان" يفشل بوضوح في احترام جيرانه، ويفشل في احترام خيارهم الديمقراطي· وأود أن أقول له بشكل عام إننا نترك النهج الخسيس في الحديث من فوق الرؤوس الى بوش وبلير· فالمثقفون يمتلكون ميزة الإصغاء والعمل بطريقة أخلاقية·

 

غروسمان الضحية

 

ولكن صفاقة "غروسمان" اليهودية لا تتوقف عند هذا الحد يقول لأولمرت "انظر الى الفلسطينيين، لمرة واحدة وسترى شعبا لا يقل عذابه عن عذابنا" نعم·· هذه ليست نكتة، "غروسمان" اليهودي المستعمر الذي يقيم على الأرض الفلسطينية المحتلة، ويمارس التطهير العرقي لأمة سكان أصليين، ينظر الى الضحايا الفلسطينيين المعرضين للإرهاب ويقول في الوقت نفسه "إنهم معذبون مثلي"·

ربما يقول هذا كل شيء، إنه يلخص مستوى عمى اليسار الصهيوني· وبالفعل، إذا كان هؤلاء هم اليسار الإسرائيلي فمن يحتاج الى اليمين؟!

في الفقرة الأخيرة من خطابه يعترف "غروسمان" وهو صائب في هذا، بأن "الفروقات بين اليمين واليسار ليست بذلك الحجم الكبير اليوم" ففي قلب الخطاب السياسي الأوروبي، ليس "غروسمان" المثقف الإسرائيلي اليساري الأيقونة، لا يعدو كونه محافظا جديدا من الجناح اليميني مبتذلا، رجلا يعلم العنصرية تحت اسم النية الطيبة، رجلا يتحدث من فوق رؤوس الناس الآخرين·

 

غروسمان وحل الدولتين

 

ويخادع "غروسمان نفسه ويخادع مستمعيه بالقول إن "الأرض ستقسم، وستكون هناك دولة فلسطينية"· أنت مغرض وعلى خطأ ياسيد "غروسمان" فهذه الأرض لن تقسم أبدا· وسأبسط الأمر حتى يمكنك أنت وبضعة الصهاينة اليساريين القليلين جدا إدراكه مرة واحدة والى الأبد·

فلسطين هي أرض، وإسرائيل دولة· وستظل فلسطين دائما فلسطين، أي أرضا أما إسرائيل في الجانب الآخر، فهي دولة قومية عنصرية وستختفي· لن تقسم الأرض· وسيعاد توحيدها في فلسطين واحدة، وبدلا من الحفاظ على دولة قومية عنصرية، أدعوا "غروسمان" وأصدقاءه الى الانضمام الى حركة فلسطينية واحدة· حركة تحقق المساواة في أرض فلسطين· في فلسطين، حيث القيم كونية·

 

عن موقع الكاتب والموسيقار الإسرائيلي سابقا

"جلعاد إتزمون" المقيم في لندن: www.gilad.co.uk

طباعة  

ردا على ديفيد غروسمان:
خداع كاتب.. وانسجام عنصري مع ذاته!