رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 29 نوفمبر 2006
العدد 1752

ردا على ديفيد غروسمان:
خداع كاتب.. وانسجام عنصري مع ذاته!

                                             

 

ريموند دين*:

النقطة البارزة في الاحتفال بذكرى رابين في تل أبيب في الرابع من نوفمبر بالإجماع كانت خطاب "ديفيد غروسمان" الموجه توجيهاً بلاغيا الى رئيس الوزراء الإسرائيلي "إيهود أولمرت"· وقد تداولت نص هذا الخطاب وسائط الإعلام الليبرالية العالمية، وهناك اتفاق عام على أنه يمثل نزعة السلام الإنسانية الإسرائيلية في أفضل حالاتها·

في الأدب الإسرائيلي هنالك "ثلاثة حكماء"، أحدهم "غروسمان" الذي يحظى عالميا بالاحترام الأكبر، أما "عاموس عوز"، فقد اشتهر في الخارج في المقام الأول لأن النادمين الألمان يؤدون فروض العبادة طائعين عند مقامه، ووضع آ·ب· يهوشاع نفسه في هذا السياق حين وصف خلال لقاء له مع صحيفة "هاآرتس" الاستخدام "المفرط للقوة ضد سكان غزة كلهم" على أنه وصفة أعقبتها في حينه تبعات مدمرة·

"غروسمان" الذي لا يوجد شك في موهبته الروائىة، ما زال يشغل الحلبة بوصفه رجلا عقلانيا، رجل مبدأ و"روح لطيفة" كما يقولون عنه·

بالطبع، على العالم الخارجي دائما أن ينخرط في درجة منحرفة من درجات التفكير الرغبوي ليستمر في اعتبار هؤلاء الكتاب كتاب سلام وإنسانويين، بغض النظر عما يكتبون، وقد قدم تساهل وسائط الإعلام تسهيلات وافرة لهذه الممارسة· فحين وقف "الحكماء الثلاثة" علنا ضد حرب لبنان الأخيرة بعد أسبوعين من اندلاعها، تناقلت وسائل الإعلام هذا الموقف على نطاق واسع، وأضيف الى ما يعزز مصداقيتهم، ولكن واقعة أنهم في البداية دعموا الحرب على لبنان دعما حماسيا لم تتداولها وسائط الإعلام على الإطلاق، ويبدو أنه من الملح بهذه الطريقة أو تلك استثمار صورة هؤلاء الإسرائيليين "المحترمين جوهريا" للإبقاء على تسامح العالم مع "بذاءة إسرائيل الجوهرية"·

 

أي حب هذا؟

 

بل إن "غروسمان" أثار تعاطفا أكبر، وعن صواب بالطبع، حين قُتل ابنه "يوري" وهو يقوم بعمله العسكري في لبنان· ولكن مراقبا من كوكب "مارس" واعيا بأن "غروسمان" رجل سلام، ربما تساءل، لماذا لم يشجع الروائي ابنه على رفض الخدمة في جيش مكرس لهدف وحيد هو ارتكاب جرائم حرب· مثل هذا التساؤل سيكون إساءة فهم تامة لطبيعة ومدى ولاء "غروسمان" للدولة الإسرائيلية، وللفنطازيا العنصرية والاستعلائية المعروفة باسم الصهيونية·

يقول "غروسمان" في مستهل خطابه: "أتحدث كواحد يحب هذه الأرض حبا فظا ومعقدا، ولكنه مع  ذلك حب لا التباس فيه"· فالمؤسسة بالنسبة له "ووجود إسرائيل ذاته هو نوع من معجزة·· معجزة سياسية وقومية وإنسانية"·

وفي ضوء أن هذه "المعجزة" جاءت بعد نصف قرن من التخطيط وبناء عسكري متواصل لم يكن سرا إلا جزئيا بدعم هائل من الغرب والاتحاد السوفييتي على حد سواء، ثم وصل ذروته بتطهير عرقي لا رحمة فيه لثلاثة أرباع مليون فلسطيني في العالم 1948، قد يتصور المرء أن الصفة الملائمة أكثر لهذا الحب هو أنه حب "ملتبس"، وبخاصة بالنسبة لأخلاقي وإنساني·

ولكن الأمر ليس كذلك بالنسبة لغروسمان الذي ظل منسجما مع نفسه انسجاما تاما على مر الزمن في رفضه التعبير عن أي أسف على النكبة أو الكارثة التي هبطت على الفلسطينيين في 1948، أو اعتراف بحدوثها·

 

ذاكرة انتقائية

 

إنه ينتقد قادة إسرائيل الحاليين لكونهم "غير قادرين على ربط الإسرائيليين بتلك الأجزاء المكوّنة للهوية والذاكرة·· تلك التي تستطيع إعطاءنا القوة والأمل" كما لو أن "الصندوق الصائت لذاكرتهم التاريخية غير مملوء إلا بمساحة ضئيلة بين عنوانين رئيسيين لصحيفة"·

ولكنه يؤمن بجلاء بأن مثل هذه "الهوية" و"الذاكرة التاريخية" يجب أن تقوم بوظيفتها قياما انتقائيا (ما يكوّن الهوية والذاكرة) يجيء بعد نسيان الجرائم الفظيعة التي رافقت ميلاد إسرائيل، ولازمت كل مراحل تاريخها اللاحق·

وبدلا من هذا يصف "غروسمان" إسرائيل الراهنة "كمحاكاة ساخرة ردىئة لتلك المعجزة"، بينما هذه "المعجزة" كانت في واقع الأمر منذ البداية محاكاة ساخرة ردىئة للاستعمار الأروربي في أمريكا وجنوب إفريقيا والجزائر· إذا كانت إسرائيل الراهنة، كما يقول "غروسمان": "جنون وابتذال وعنف وعنصرية تسيطر على وطننا"، فيمكن أن يقال الأمر نفسه عن أسس هذه الدولة ذاتها، باستثناء أن تلك السيطرة آنذاك كانت سيطرة جنون وابتذال وعنف وعنصرية على وطن آخرين·

 

إخفاقات كاتب

 

وبالضبط، ومثلما أنه لا يملك شيئا يقوله ضد النكبة، فإن "غروسمان" لم ينتقد مرة واحدة أبدا حرب لبنان بوصفها مذبحة إجرامية غير ضرورية، بل بوصفها "إخفاقاً"· فقد اغتاظ من أن "ظهر العسكرية الإسرائيلية كان مكشوفاً وهشاً، وأن المؤخرة تركت لوسائلها الخاصة بها"، وبكلمة مختصرة، فإن رجل السلام هذا هو استراتيجي عسكري لارجل أخلاق، أقرب شبهاً بوزير الدفاع عمير بيريتس عضو حركة السلام الآن الذي فشل "غروسمان" فشلاً حذراً في الإشارة إلى مسؤوليته المشتركة مع أولمرت عن هذا "الإخفاق"·

ولا يعني هذا أنه غير مبال بالخسائر البشرية: "إن موت الشبان مروع، وتبديد يدعو للسخط، ولكن لا يقل ترويعا عنه الشعور بأن دولة إسرائيل بددت تبديدا إجراميا ليس حياة أبنائها وبناتها فقط، بل بددت أيضا المعجزة التي حدثت هنا"·

تبديد حياة اللبنانيين والفلسطينيين لا يستحق الإشارة ولو مرة واحدة، ومن الواضح أن حياة العرب أقل ثقلا في الميزان من حياة الإسرائيليين اليهود، وهو موقف من الغريب أن يقفه ليبرالي مستنير ذو نزعة إنسانية·

 

فكر مقلوب

 

وبالعودة الى مناسبة خطابه، فالمديح ليتسحاق رابين رئيس الوزراء الذي اغتاله إرهابي يهودي في العام 1995 بسبب توقيعه على صفقة أوسلو الماكرة مع الفلسطينيين، "ليس لأنه كان مغرما بهم" ولكن "لأنه فهم أن الحياة في مناخ دائم من العنف والاحتلال والرعب والخوف واليأس، تقتضي من إسرائيل دفع ثمن لا تستطيع احتماله"·

هذا إنشاء بالغ الغموض ومثير للفضول (أنا أفترض هنا بأن الترجمة من العبرية دقيقة)، فالفلسطينيون في المقام الأول هم الذين يعيشون في "مناخ دائم من العنف والاحتلال والرعب والخوف واليأس، لأن الدولة الإسرائيلية هي التي تحتل أراضيهم احتلالا غير مشروع، الآن كما في زمن رابين· ويبدو من إنشاء "غروسمان" أن هذا "الرعب والخوف" يصيب المحتلين سيئي الحظ وهو جزء من "الثمن الذي لا تستطيع إسرائيل تحمل دفع ثمنه" لقاء الحفاظ على الدولة الصهيونية·

وبالفعل كما يقول: "قد يكون الوقت متأخراً على شفائنا شفاء تاما" رغم أنه ربما من المعتقد أن شفاء ضحايا إسرائيل هو الأولى بعناية إنساني مسؤول أخلاقيا· نغمة رثاء الذات هذه والتمركز على الذات هي أكثر ملامح دعاة السلام الإسرائيليين هؤلاء بروزا وإثارة للاشمئزاز، هؤلاء الذين يخفقون في قبول أن رفض النزعة العسكرية الإسرائيلية يتبعه منطقيا رفض الصهيونية ذاتها·

يتنازل "غروسمان" ويعترف بأن "عذاب الفلسطينيين لا يقل عن عذابنا" وهو ما يحمل ضمنا نفيا بأن هناك دولة استعمار واستيطان قمعي تعذب السكان الأصليين الذين اعترضوا طريقها، والقول بأن التاريخ يعذب كلا الشعبين على حد سواء، وهكذا يرى بأن الضحية في نهاية المطاف يجب أن تلام مثلما يلام الجلاد: "الفلسطينيون مسؤولون عن النهاية المسدودة التي وصلنا إليها" و"ويقع عليهم جزء من اللوم في إخفاق عملية السلام"·

والسبب الذي يفترضه هو أنهم رفضوا باستمرار قبول مختلف "عروض إسرائيل الكريمة" التي كانت كلها أكثر كرما بالنسبة للمحتل منها بالنسبة لمن يحتل أرضه·

هنا لا يقال شيء أبدا عن الطبيعة المحددة "لذنب" إسرائيل و"لومها" ودرجته، ولكن إذا لم يقم أولمرت في أقرب وقت "بتقديم عرض لهم يستطيع معتدلوهم قبوله" ("المعتدلون" هنا هم الذين سيقبلون أي شيء" "تعرضه" إسرائيل) "فسنضرب على رؤوسنا ونصرخ، لماذا لم نستخدم كل قدرتنا الإسرائيلية الخلاقة لتخليص عدونا من المصيدة التي أوقع فيها نفسه؟"·

وهكذا تكتمل مرة أخرى دائرة خداع النفس والتبرؤ من الجريمة· من الواضح أن "العدو" الفلسطيني (الذي صار عدوا حين جرّد من وطنه ودعونا لا ننسى هذا) "قد أوقع نفسه في مصيدة" ويتوقف تخليصه على القدرة الإسرائيلية الخلاقة التي لا يد لها في إقامة هذه المصيدة بالمطلق، ومن المفترض حسب "غروسمان" أن يتم هذا برفع عنوان "دولة" تكرما على الغيتوات التعسة التي سيحصر فيها العدو وجوده البائس من الآن فصاعدا·

ويصل بنا هذا إلى السخف السياسي: "كل الذين يفكرون، في إسرائيل وفلسطين، يعرفون الفرق بين أحلامهم ورغباتهم وبين ما يستطيعون أن يحصلوا عليه في نهاية المفاوضات· والذين لا يعرفون هذا سواء كانوا يهوداً أو عرباً هم سجناء تعصبهم المغلق ولهذا فهم ليسوا شركاء· وبضربة واحدة لا يشطب "غروسمان" على "حماس" وحدها بل أيضا على إسرائيليين يهود غير صهاينة يحترمهم العالم مثل البروفيسور "ايلان بابه" الذي لا يقبل أن المفاوضات يجب أن تقود حتما الى دولة يهودية قوية على 90% من فلسطين التاريخية الى جانب تشكيلة عاجزة من بانتوستانات فلسطينية  تحت الهيمنة العسكرية الإسرائيلية على البقية·

 

بانتوستانات

 

بعد ذلك يؤكد غروسمان على أن نظام "حماس" المنتخبة ديمقراطيا يرفض التفاوض معنا· ويقلب هذا التزييف الكامل الحقيقة لأن حماس عرضت هدنة لمدة عشر سنوات وهو شيء أكثر من "هدنة" لتوفير مكان وزمان للمفاوضات، وإسرائيل كما هو الأمر دائما هي التي رفضت بازدراء التفكير في هذا العرض· وعلى نحو مشابه في ازدراء الديمقراطية الفلسطينية يدعو "غروسمان" أولمرت الى مخاطبة الفلسطينيين من فوق رأس حماس أي الرأس ذاته الذي أدلى الفلسطينيون بأصواتهم لصالحه ليشكل الحكومة في أول انتخابات حقيقية من نوعها في العالم العربي، والتي من المحتمل والمرجح الى حد بعيد أن تأتي بحكم أعظم للاغلبية حيثما جرت انتخابات جديدة·

ويضع "غروسمان" العرض الذي يحث أولمرت على تقديمه بتعابير ثنائية مختلة: فإما أن يقبله الفلسطينيون أي حل البانتوستانات أو يظلوا بدلا من ذلك رهائن الإسلام المتعصب، وهو ما يعني ضمناً الإسلام الذي اختطف عقول "ايلان بابه" والنشطاء العلمانيين في مختلف أنحاء العالم الذين يطمحون الى حل يضمن الحقوق الفلسطينية لا المكاسب الإسرائيلية فحسب· كل الخيارات الأخرى يرفضها "غروسمان" بوصفها تعصبا مغلقا·

وعلى نحو مماثل يجب أن تُعرض على الرئيس السوري الأسد "شروط ستكشف حيله" (فهو عربي في المقام الأول ولابد له أن يكون محتالاً): "أعرض عليه عملية سلام تستمر بضع سنوات ولن يحصل على مرتفعات الجولان إلا في النهاية إذا لبى كل الشروط"·

ووفق تعابير "غروسمان" لن يعرف المرء أبداً بأن إسرائيل تحتل مرتفعات الجولان السورية احتلالا غير مشروع·

وأن عليها وفق القانون الدولي ان تعيدها وهي غير قادرة على البقاء فيها وفي بقية المناطق المحتلة إلا بفضل النعم اللا محدودة لسطوة الولايات المتحدة الأمريكية· وبدلاً من ذلك يقدم "غروسمان" الخضوع الإسرائيلي المفترض للقانون الدولي على أنه تنازل كريم للعرب المحتالين الذين لا يستحقونه في واقع الأمر كما تقول طبيعة الأمور، ولكن لمجرد أنهم قد يستحقونه إذا أحسنوا السلوك·

لقد كان هناك الكثير من السخط من قبل المجتمع المدني العالمي، رافقه صمت مريب من قبل النخب السياسية، على تعيين أفيجدور ليبرمان في منصب رفيع المستوى في الوزارة الإسرائيلية· وليبرمان كما هو معروف يدافع علناً عن التطهير العرقي، وهو فاشي جديد يصرح علناً بأنه لا يمكن تحقيق الاستقرار الاجتماعي في أي مكان في العالم إلا إذا ظلت الأعراق منفصلة عن بعضها البعض· ويشير "غروسمان" في وصفه لهذا الحادث بالقول إن "الديمقراطية تلقت مفاجأة قاسية حين تم تعيين أفيجدور ليبرمان" ثم يفسر لهجة اللامبالاة التي استقبل فيها الإجماع الوطني هذه المفاجأة في إسرائيل بالقول: "سنعيش ونموت بالسيف وسيسود السيف الى الأبد"·

لا شك أن ليبرمان ديماغوجي وغد ولكنه يعلن على الأقل بلا خوف المتضمنات العنصرية والنزعة الاستعلائية للايديولوجية الصهيونية· مع ليبرمان تعرف أين تقف ويمكن لذوي الأسلوب الديمقراطي الخاص بهم ومدعي السلام تنظيف أوراق اعتمادهم لدى النزعة الإنسانية بإلقاء الأوساخ عليه، ولكن مع "ديفيد غروسمان" فإن المقدمات ذاتها تقود الى خطاب يصبح فيه كل شيء مختلطا ومقلوبا، يصبح المحتل ضحية وتصبح الضحية متعصبا غريب الأطوار، والأديب الإنساني وحده هو الذي يحافظ على نوع من أنواع التكامل الحزين·

هذا الخطاب شائع شيوعاً مفهوما لدى أولئك الذين، وقد ضللتهم النيات الحسنة، يرغبون في الإيمان بأن الصهيونية يمكن أن تكون أيديولوجية ليبرالية ذات نزعة إنسانية بدلاً من كونها أيديولوجية استعلائية وعنصرية حتى النخاع·

وكلمة أخيرة، إذا كان ليبرمان منفراً بسبب انسجامه مع ذاته، فإن "غروسمان" جذاب بسبب ريائه· إن الأول خطر مثلما هو خطر الثاني·

 

* ريموند دين، عضو مؤسس في حملة التضامن الإيرلندية مع فلسطين وهو موسيقار حر وكاتب

 

عن: www.electronicintifada.com

"9 نوفمبر 2006"

طباعة  

تفكيك ديفيد غروسمان:
إذا كان هذا يساريا.. فما حاجتنا الى اليمين؟