رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 22 نوفمبر 2006
العدد 1751

فرانسيس فوكوياما
أمريكا على مفترق الطرق

                                            

 

قراءة وتعليق: سعاد المعجل

يحاول الكاتب الشهير "فرانسيس فوكوياما" صاحب نظرية نهاية التاريخ، من خلال كتابه "أمريكا على مفترق الطرق" أن يلخص الأسباب التي جعلته معارضا للحرب على العراق، بعد أن كان من أشد المؤيدين لها!! حيث يشرح كيف أخفقت إدارة الرئيس "بوش" في سياستها الخارجية حين قررت غزو العراق!! فاعتقدت خطأ أن هذه الحرب هي حرب وقائية تصب في صالح سياسة أمريكا الخارجية، كما  أنها فشلت في رصد ردود الأفعال الدولية على مثل هذه الحرب، وأيضا أخطأت في حساباتها لما يتعلق بإمكانية إقامة نظام ديمقراطي في العراق!!

 

أسباب تغيير سياسة الولايات المتحدة

 

يستعرض "فوكوياما" في البداية الأسباب التي دفعت لمثل هذا التغيير الرهيب في سياسة الولايات المتحدة الخارجية، حيث تأتي أحداث الحادي عشر من سبتبمر كأهم تلك الأسباب والتي أفرزت ثقافة أمن جديدة من خلال إنشاء إدارة الأمن الداخلي، بالإضافة الى غزو أفغانستان، وإعلان استراتيجية الإجراء العسكري الوقائي، وأيضا غزو العراق!! ويرى "فوكوياما" أن المحافظين الجدد قد جلبوا معهم بعد انتخابات العام 2000 أجندة جديدة تحوي مصطلحات مثل تغيير النظام، والهيمنة الإيجابية، والحرب الوقائية!! وبالرغم من أن إرث المحافظين الجدد هو إرث معقد ومركب في هيئته، إلا أنه يعود الى بداية الأربعينياتت ويرتكز على أربعة مبادىء: كالاعتقاد بالدور الأمريكي في رعاية الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والإيمان بالواجب الأخلاقي الأمريكي تجاه العالم،

وأيضا الشك في مقدرة القانون والمؤسسات الدولية في حل المشاكل المتعلقة بالأمن!! لكن "فوكوياما" يرى أن مثل هذه المبادىء قد أدت الى رؤية متحاملة ومتحيزة أفرزت أخطاء جسيمة، مثل الإفراط في تقدير الخطر على الأمن الأمريكي، وهو أمر أدى الى التخبط في كثير من الأحيان في الحرب الأمريكية الوقائىة!! وأيضا الخطأ في رصد التيار المعارض للإجراءات الأمريكية العسكرية والذي أصبح يرى في الهيمنة الأمريكية - وبغض النظر عن أسبابها - مسألة مجحفة وخطيرة!! وأخيرا، التخبط الأمريكي في العراق، والذي يدل علي أن إدارة الرئيس "بوش" قد أخفقت في قراءة تداعيات الحرب علي العراق!! مما يعني أن السياسة الأمريكية لاتملك تصورا محددا لما بعد الحادي عشر من سبتمبر!!

 

المحافظون الجدد

 

يتناول "فوكوياما" تاريخ المحافظين الجدد، ويعود به الى أول أيام نشأته في نهاية الثلاثينيات وبداية الأربعينيات، والتي شهدت ولادة مجموعة من المفكرين اليهود الذين تلقوا تعليمهم في جامعة "ستي كولج" في نيويورك!! وهم في الغالب مجموعة من المهاجرين من الطبقة العاملة، جمعهم في البداية معارضتهم للشيوعية، أشهرهم على الإطلاق "ليوشتراوس" الهارب من النازية الى الولايات المتحدة في ثلاثينيات القرن الماضي، والمدافع بشراسة عن الحرية والديمقراطية، وقد كان من المؤمنين بأن الناس سياسيون بالفطرة، وبأنهم يطورون حسهم السياسي من خلال الممارسة!! وهو بالتحديد ما يجعله مختلفا مع المحافظين الأحرار الذين يرون بأن الحرية هي التحرر من قبضة الحكومة!! أما أبرز خصوم المحافظين الجدد، فهو وزير الخارجية الأمريكي السابق "هنري كيسنجر"، والذي ينتمي الى الجناح الواقعي، وهو الجناح الذي يؤمن بأن كل الدول، وبغض النظرعن أنظمتها السياسية، تناضل من أجل القوة والنفوذ!!

ثم يطرح "فوكوياما" سؤاله عما إذا كان الرئيس الأمريكي الأسبق "رونالد ريغان" والحالي "جورج بوش" ينتمون فعلا لتيار المحافظين الجدد!!

ثم يجيب فيما بعد، بأن أياً من الرئيسين لا يعكس ثقافة المحافظين الجدد الحقيقية، وإن كان "ريغان" في فترات محددة من ولايته قد أثبت انتماءه لذلك التيار!! فقد كان مفكرا إلى حد ما، وقد كان مؤمنا بأن شكل النظام السياسي الداخلي يعكس الى حد كبير ردود فعله الخارجية، لذلك فقد كان رافضا لأي تسوية مع الاتحاد السوفييتي لأنه كان يرى تناقضات النظام الشيوعي وضعفه من الداخل!!

أما فيما يتعلق بالرئيس "جورج بوش" فإن "فوكوياما" يرى بأنه كان من المحافظين الجدد في بداية ولايته الثانية، وإن كان ذلك من الناحية النظرية فقط!!

يرى "فوكوياما" أن مفهوم المحافظين الجدد قد تم انتهاكه في الخمسين عاما التي مضت منذ نشأته!! إن المحافظين الجدد يتفقون وإلى حد كبير مع أصحاب الفكر الواقعي من حيث شكوكهم بمقدرة القانون الدولي والمؤسسات الدولية على حل مشاكل أو أزمات أمنية معقدة ومركبة!!

 

الأجندة الأمريكية بعد

11 سبتمبر

 

يرصد "فوكوياما" التغيرات التي طرأت على السياسة الأمريكية الخارجية في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر، الذي غيّر مفهوم الخطر والتهديد المحتمل للولايات المتحدة· فالإسلام الأصولي، وأسلحة الدمار الشامل أصبحت تتصدر الأجندة الأمريكية لما يتعلق باستراتيجيتها الأمنية!! ثم يقدم شرحاً مفصلاً لفرق الإسلام السياسي ولثقافة "الجهاد" التي يذكر فوكوياما بأنها لا تطمح الى إعادة الإسلام الحقيقي، وإنما الى خلق مناخ وثقافة جديدين في قلب عالم الحداثة والعولمة، خاصة وأن الخطر الحقيقي لا يكمن في فكر إسلامي أصولي، وإنما هو في فكر شباب نشأ في عواصم غربية، وتربى في ظل مفاهيم كالحرية والديمقراطية· فثقافة (الجهاد) الحديثة هي في نهاية الأمر إفراز مباشر للحداثة والعولمة، وليس للفكر التقليدي، وبالتالي فهي مشكلة الدول الحديثة والمنفتحة على العالم·

والحل من وجهة نظر "فوكوياما" ليس في الديمقراطية الغربية، فالذين قاموا بعمليات مدريد وأمستردام ولندن قد عاشوا في أجواء ديمقراطية حديثة، وهذه الديمقراطية بالتحديد هي التي ولّدت لديهم شعورا بالاغتراب، لذلك فإن الحل طويل المدى يكمن في دمج هؤلاء داخل المجتمعات الغربية التي ولدوا ونشأوا فيها مع الأخذ في الاعتبار طبيعة البيئة الاجتماعية المعقدة في تكوينها والتي ينتمي اليها (المجاهدون)!!

كمايرى "فوكوياما" ضرورة التمييز بين الجانب الفني والجانب السياسي لما يتعلق بطبيعة التهديد الذي يواجهه الغرب، ففي الحالة العراقية مثلا، كان الجدل ينحصر في ثلاث نقاط، الأولى: امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل، والثانية علاقة نظام صدام حسين بالقاعدة، أما الثالثة فهي بكون النظام العراقي نظام ديكتاتوريا!! والذي حدث أن النقطتين الأولى والثانية أثبثت الأحداث عدم صحتهما!!

 

الحرب الوقائية

 

بالنسبة لفوكوياما، فإن السياسة الأمريكية قد خلطت على ما يبدو بين الحرب التحفظية أو الاتقائىة Preemptire war، والحرب الوقائية Perentive War فالأدلى كما يراها "فوكوياما" تعني بذل الجهود لمواجهة خطر وشيك عسكريا، بينما تعني الثانية حملة عسكرية لمحاصرة خطر في المستقبل القريب ومنعه من الوقوع، ومن الواضح أن الولايات المتحدة تواجه صعوبة في التعامل مع شروط الحرب الوقائىة التي أتي على رأسها الدقة المتناهية في قراءة المستقبل والتنبؤ بمسار الأحداث فيه، لذلك فإن "فوكوياما" يطرح سؤالا هنا حول فاعلية الحرب الوقائىة في محاصرة التوسع في السلاح النووي، خاصة وأن ذلك كان من أبرز الأسباب التي دفعت الولايات المتحدة الى الدخول في حرب مع العراق·

 

الهيمنة الأمريكية

 

كانت منذ فجر التسعينات ولا تزال مسألة (الدور الأخلاقي) الأمريكي محط جدل حتى من داخل المحافظين الجدد، فالولايات المتحدة، بغزوها العراق، ترى أنها مدفوعة ليس بمصالح ضيقة، وإنما لمصلحة العالم بشكل عام، ولعل هذا الإحساس بالدور الإيجابي في الهيمنة الأمريكية، هو الذي جعل إدارة بوش تخفق عن تبين الجوانب السلبية العديدة من جراء إفراطها في التفاؤل بدورها· والذي دفعها لأن تأخذ على عاتقها بمساعدة بريطانيا تطبيق قرارات مؤسسة دولية كالأمم المتحدة· وهو أمر أعطاها شرعية سياسية للقيام بما قامت به، ولكن ليس شرعية قانونية· ولتواجه بذلك سخط العالم وخاصة في أوروبا، لكن ذلك لم يمنع من تضاعف أعداد الأمريكيين المؤيدين لسياسة دولتهم الخارجية، يدفعهم لذلك ما أثاره يوم الحادي عشر من سبتمبر من هلع لدى الأمريكيين لطبيعة الأخطار المحدقة بهم، مما جعلهم يقفون وراء قرارات الإدارة السياسية الأمريكية ويدعمون حروبها في الشرق الأوسط· يعود "فوكوياما" بالدور الأمريكي لنشر الديمقراطية الى أبعد من العراق، فالولايات المتحدة سبق أن روّضت ديكتاتوريات سابقة، وكما حدث في ألمانيا واليابان، لكن هاتين الدولتين كانتا أصلا دولا متقدمة انقلبت بعد الحرب الثانية على مؤسساتها السياسية التي ورطتها في الحرب· وبذلك فإن الاستناد الى الدور الأمريكي في دمقرطة مجتمعاتها هو ضرب من المبالغة، بدليل أن الولايات المتحدة حكمت الفلبين لقرابة خمسين عاما، لكن تواجدها في الفلبين لم يخلق ديمقراطية حقيقية، وحدث شيء مشابه في كوبا، ونيكاراغوا، وهايتي، وجمهورية الدومنيكان، دون أن يُخلّف التواجد الأمريكي مؤسسات ديمقراطية قوية في تلك الدول، وهو أمر يؤكد على حقيقة تاريخية، مفادها أن المؤسسات الديمقراطية لا يمكن أن تتشكل مالم تكن نابعة من حاجة وطلب داخلي ملح لإقرارها والعمل بها· لذلك فإن الولايات المتحدة إذا كانت حقا صادقة في تحفيز الديمقراطية والمؤسسات في الدول النامية، فعليها أولا أن تصلح المؤسسات والوكالات الأمريكية التي يفترض أن تكون راعية لمشاريع التحول نحو الديمقراطية·

يرى "فوكوياما" أن الحرب على العراق قد أسقطت الضوء على محدودية الشق الإيجابي من الهيمنة الأمريكية، بالإضافة الى تواضع الأداء في هيئات دولية كالأمم المتحدة على سبيل المثال والتي عجزت كما هو واضح، أن تصدق على القرار الأمريكي بشن الحرب على العراق، أو أن تمنع واشنطن من القيام بإجراء كهذا، وهو ما دفع "فوكوياما" الى القول إن على الأجيال القادمة أن تعمل على خلق مؤسسات دولية فاعلة حقا، خاصة في ظل تداخل المصالح الاقتصادية بين دول العالم، ويبقى أن الحل الأمثل هنا هو خلق مؤسسات دولية جديدة ذات شرعية وفاعلية قادرة على حسم المشاكل الدولية بصورة موضوعية وقانونية لا يطالها الجدل الذي يطال "الأمم المتحدة" في هيئتها الراهنة، ففي الوقت الذي ترى فيه الولايات المتحدة أن قرارات الأمم المتحدة تميل الى الحق العربي في قضية الصراع العربي - الإسرائيلي، وكما حدث في قرار الأمم المتحدة عام  1975 باعتبار الصهيونية حركة عنصرية ترى أوروبا أن إسرائيل مسؤولة عن زرع فتيل العداء في المنطقة·

 

الحرب على العراق

 

يختم "فوكوياما" كتابه بفصل كامل حول تقييم الحرب في العراق حيث يرى بأن التاريخ لن يكون رؤوفا في تقييمه، فإدارة الرئيس الأمريكي "جورج بوش" خلقت بدخولها العراق، مغناطيس جديداً وجاذباً لكل قوى الإرهاب والعنف، وإن ما حدث لا يتعدى تغييرا في المواقع، من أفغانستان الى العراق، وإذا كانت الولايات المتحدة قادرة الآن على خلق حكومة عراقية شيعية ديمقراطية فإنها ستكون ولا شك حكومة ضعيفة لسنوات عديدة قادمة·

لعل من أهم تبعات الحرب على العراق، أن الفشل في هذه الحرب سيصب مباشرة في صالح أصحاب التيار الواقعي في السياسة الأمريكية والذين يختلفون مع المحافظين الجدد لما يتعلق بقدرة وبالتالي بدور الولايات المتحدة في فرض التحول الديمقراطي بالقوة في مجتمعات كالعراق، مما يعني أن الإدارة الأمريكية بحاجة الآن الى المزيد من الواقعية في التعامل مع المعطيات الموجودة أصلا في تلك المجتمعات· فالدور الأمريكي المطلوب الآن هو أن تلعب الولايات المتحدة دورها من خلال رعاية التعليم، والتدريب، وإعطاء النصائح والدعم المالي لكي تنهض تلك المجتمعات من الداخل أولا· وهو الدور الذي يرى "فوكوياما" أن الإدارة الأمريكية قد بدأت تستوعبه وذلك من خلال دعوتها لحلفائها في المنطقة مثل مصر، والسعودية للبدء بجملة من الإصلاحات الداخلية المطلوبة!· لكن ذلك لا يجب أن يكون مصحوبا بتفاؤل خيالي، وإنما بتقدير واقعي ومدروس لإمكانية التغير في مثل تلك الدول، خاصة أن صورة الولايات المتحدة في أغلب أنحاء العالم العربي، هي ليست بالصورة المشرقة، وهي ليست صورة الدولة الراعية للديمقراطية والحرية، وإنما هي صورة المحتل الأرعن الذي لا يتوانى عن تعذيب أسراه كما حدث في كارثة سجن "أبو غريب"·

يختم "فوكوياما" فصله الأخير بالتذكير أن دور الولايات المتحدة في النظام العالمي الجديد هو دور حساس ومهم للغاية لكنه يبقى دوراً تحاصره بعض المحدودية في الأداء، فالإنفاق العسكري الأمريكي الهائل لن يحقق وحده نصرا ولا هيمنة، والدليل واضح وجلي في أحداث العراق الدامية·

طباعة  

دولة فرص ضائعة!