رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 15 نوفمبر 2006
العدد 1750

ماركو بولو آخر في أعماق الصين

                                                                    

 

إذا كان الرحالة الإيطالي "ماركو بولو" يعد أول من ارتحل الى الصين في العصور الوسطى وعاد الى الغرب بحكايات إمبراطورية مدهشة لم يصدق الغربيون حرفا منها، فإن "رتشارد فلهلم" الألماني (1873 - 1930) يعد ماركو بولو آخر، أقرب الى العصور الحديثة، لم يكتف بوصف الإمبراطورية الصينية وهي تلفظ أنفاسها في أواخر القرن التاسع عشر، بل غاص في دواخلها، وجاء الى الغرب بنبأ موروث روحي وفكري، وفتح أمام الغرب بوابة الى هذا العالم البعيد على نحو لم يفعله آخرون، ومن وراء الصين انفتحت أبواب آسيا كلها أيضا·

ترجم هذا الباحث الألماني كبرى الأعمال الفلسفية الصينية الى اللغة الألمانية، ومن الألمانية انتقلت الى اللغات الحية الأخرى، وحتى اليوم، بين عشرات الترجمات للكتاب المسمى بالصينية "الإيشنج" أي "كتاب التغيرات" المتوافرة، تحتل ترجمته في العام 1923 لهذا الكتاب مكان الصدارة·

كان هذا الباحث ذا مسعى روحي أكثر من كونه مجرد باحث في اللغات، فقد تغلغل في أعماق الروحية الصينية ذاتها من دون أن يفقد إطاره المرجعي الأوروبي·

ولأنه عاش في الصين طوال ما يقارب العشرين عاما، فقد لمس وشاهد عن قرب الاختلافات الثقافية والروحية الكبيرة بين الشرق والغرب· في ذلك الزمن كان الأوروبيون يغزون الصين كمستعمرين، ولم يكن لديهم أبسط اهتمام أو احترام للثقافة الصينية، وعدّ الصينيون من جانبهم الأوروبيين برابرة، وأغلقوا دونهم موروثاتهم الروحية·

وكان "فلهلم" من أوائل الذين أدركوا قيمة الفكر الصيني، وأقاموا جسرا فوق الهوة الفاصلة في نفسه بعد أن انتقل الى الصين في العام  1899، وبدأ التغلغل في أسرارها الروحية· وخلال محاولته إيجاد تكامل بين الفكر الصيني ونظرات العوالم الأخرى في حياته، شطرت الفجوة بين الثقافة الشرقية والغربية وجوده ذاته الى اثنين· ولكن الجزء الصيني الجديد في نفسيته لم يسيطر عليه، ولم يفقده هويته الأوروبية، لقد كان قادرا على ترجمة ونقل الأفكار الصينية وتحويلها الى التصور الأوروبي للكلية· ولكن الجهد المطلوب كان هائلا، وصارع طيلة سنوات نضوجه في سبيل دمج التراثين الروحيين المختلفين في روحه·

 

صراع ثقافتين

 

وعبر هذا الصراع عن نفسه ماديا في العام 1910 حين أصيب بعدوى مرضية إثر تناوله لطعام صيني ملوث وظل طريح الفراش لعدة أشهر، وفي السنة اللاحقة لإصابته التقى بالحكيم الصيني "لا وناي هسوان" الذي ساعده على استعادة عافيته والخلاص من أزمته الداخلية·

وبمساعدة "لاو" استطاع ردم الفجوة والوصول الى توازن داخلي، على الأقل لبعض الوقت·

ولكن بعد عدة سنوات لاحقة مع عودته الأخيرة الى ألمانيا في العام 1924، انهار التوازن، وتجدد الصدام بين الجانبين، الصيني والأوروبي فيه، ولم تمض على وجوده سوى أربع سنوات في أوروبا، وكان قد بلغ سن الخامسة والخمسين، إلا وعاده مرضه الصيني القديم، وهو ما أدى الى وفاته المبكرة في العام 1930·

ورأى عالم النفس "كارل يونغ" الذي كان من معارفه في حالته وفي موته المبكر، عجزا عن إحداث تكامل بين الجانبين الصيني والأوروبي، في نفسه·

ولكن رغم أنه لم ينجح نجاحا تاما في صراعه الشخصي من أجل دمج الثقافتين في نفسيته، إلا أن كتاباته، وبخاصة ترجماته لكتابي "التغيرات" و"سر الزهرة الذهبية"، أنشأت بالتأكيد جسرا قويا أمام الغربيين ليقاربوا ويفهموا بصائر الشرق الروحية والثقافية الفريدة من نوعها·

 

في بحر اللغات

 

ولد "رتشارد فلهلم" بعيدا عن الصين في ألمانيا في العام 1873، ونتيجة لدراسته في مدرسة راقية (توبنجر سلفت"، امتلك اهتمامات ثقافية واسعة، مع حب خاص لأعمال الشاعر الألماني الكبير "جوهان فولفغانغ غوته" ولأنه كان شخصا ذا اهتمامات روحية بطبيعته، فقد كان من الطبيعي أن يهتم بعلم اللاهوت، أي الإلهيات، وفي العام 1895، في سن الثانية والعشرين تم تعيينه كراهب بروتستاني، وخدم في إحدى الكنائس، إلا أن الشاب "رتشارد" كان مثاليا يتوق الى آفاق أوسع وإلى مغامرة أبعد، فانضم في سن السادسة والعشرين إلى إحدى الإرساليات التبشيرية الألمانية، ووافق على إرساله كمبشر الى الصين للعمل في المستعمرة الألمانية في "تسنغ تاو" وبعد وصوله الى الصين بقليل، في العام 1899، اندلعت الانتفاضة الصينية المعروفة باسم "انتفاضة الملاكمين" وبدأت عصبة واسعة من الراديكاليين الصينيين ثورة عنيفة ضد الاستعمار الأوروبي، وتعرض كل الأوروبيين للهجمات، وبخاصة من يعمل منهم في الإرساليات التبشيرية· ومع أنه تم إخماد ثورة الملاكمين في النهاية، إلا أن الأوروبيين تحسسوا الحاجة الى تواصل أفضل مع الصينيين الخاضعين لحكمهم، وعلى هذه الخلفية بدأ "رتشارد فلهلم" بدراسة اللغة الصينية ما إن وصل الى الصين، واكتشف بسرعة أن لديه موهبة طبيعية في تعلم اللغات· واللغة الصينية كما هو معروف، وبقية لغات الشرق المشتقة منها مثل اليابانية والكورية تختلف اختلافا تاما عن اللغات الغربية، فهي تقوم على أساس آلاف الرموز الكتابية، أو الصور الكتابية لا الحروف، ولهذا فإن ترجمة اللغات الشرقية الى اللغات الغربية بالغة الصعوبة، ويحظى القليلون من يستطيعون هذا بتقدير كبير، وفي الإرساليات التبشيرية على وجه الخصوص·

وقد سمحت الإرسالية الألمانية لرتشارد فلهلم، بعد أن تبينت شهيته الاستثنائىة للترجمة، بالتفرغ لدراسة اللغة، وفي العام 1905، وهي السنة التي ولد فيها ابنه "هيلموت"، بدأ عمله في أول كتاب صيني يقوم بترجمته الى الألمانية، ثم استمرت دراسته وترجمته للحياة الدينية الصينية حتى وفاته·

 

مبشر بالمقلوب

 

مع تعلم "فلهلم" للغة، أصبح مهتما بالنصوص الدينية الصينية التي كان يدرسها، وسرعان ما نشأت علاقة عاطفية بينه وبين الثقافة الصينية، وبخاصة هذا النوع من النصوص، والتقى في "تسنغ تاو" و"بكين" حيث درس في الجامعة، بالكثير من قادة الصين الثقافيين آنذاك، وكان قادرا على إقامة علاقات صداقة مع الكثيرين منهم وتعلم طرائق حياتهم، وبدأ هذا الارتباط باللغة والثقافة الصينيتين بتحويله الى شخص جديد، وبدأ يرى العالم عبر منظور صيني، وكان متأثرا الى حد بالغ بالشعور الروحي العميق الذي وجده، لقد جاء الى الصين بمهمة تحويل الوثنيين الى مسيحيين، ولكن، ومن دون أن يدرك الأمر تقريبا تحول المبشر الى العكس، وبعد سنوات عديدة سنجده يفاخر أمام "كارل يونغ" بأنه طيلة العشرين سنة التي قضاها في الصين لم يعمّد صينيا واحدا أبدا، واكتشف بدلا من العماد، أن مهمته الحقيقية هي إقامة جسر ترجمة بين النزعة الروحية الشرقية والأخرى الغربية·

في العام 1911 وقد بلغ الثامنة والثلاثين التقى بالحكيم والباحث الصيني "لاو ناي هسوان" الذي أحدث تأثيرا عميقا في حياته· وبعد أن ساعده هذا على الشفاء من مرضه، قام بتأسيس "جمعية كونفوشيوس" في "تسونغ تاو" برئاسة "لاو"· وتطورت العلاقة بينهما وعاش "لاو" من العام 1843 الى العام  1921· ووصفه "فلهلم" بأنه أحد أبرز باحثي المدرسة القديمة في الصين، وآخر واحد من نوعه، وأشار إليه بوصفه أستاذه الكريم، كان "لاو" واحدا من المثقفين الكلاسيكيين القلائل المنفتحين على التغيير، وأدرك أن عزلة الصين عن بقية العالم يجب أن تنتهي· لقد كان حكيما صينيا حقيقيا ينحدر من عائلة ذات نسب بكونفوشيوس، وتدرب في حكومة تتبع تقاليده، وكان أيضا ماهرا في اليوجا الصينية (طريقة تأمل ورياضة روحية) والطرائق النفسية المستمدة من تراث ديانة الطاو· وكانت عاطفته وخبرته الأساسية متجهة نحو "كتاب التغيرات" وسرعان ما انتقل حبه هذا الى "فلهلم"· ونتيجة للعلاقة التي نشأت بينهما، علاقة الأستاذ بالتلميذ، تقاسم أوروبي مع صيني العناية بموروث الصين الروحي واستبصاراته للمرة الأولى·

في العام 1913 بدأ الاثنان المهمة الكبيرة، مهمة ترجمة "كتاب التغيرات" من الصينية الى الألمانية، واستغرقت الترجمة عشر سنوات، وخلال هذه الفترة ترجم "فلهلم" الكتاب الى الألمانية بينما وضع "لاو" نسخة صينية جديدة من الكتاب أطلق عليها اسم "كتاب التغيرات وفق مدرسة تشينغ"·

وفي العام 1921، وبمجرد أن جاءت من المطبعة آخر صفحة مطبوعة من الكتاب المترجم، توفي "لاو" بعد أن اكتملت كأنما مهمته في الحياة، وواصل "فلهلم" تحرير الكتاب وإضافة تعليقاته خلال السنوات اللاحقة الى أن أتمه في العام 1923، وفي السنة التالية أعيد الى ألمانية حيث تسلم منصب أستاذ الدراسات الصينية في جامعة فرانكفورت، وفي العام  1925أنشأ "المعهد الصيني" وتولى إدارته حتى وفاته·

 

عن موقع رتشارد فلهلم:  www.schoolofwisdom.com

طباعة  

الذكاء الروحي أطروحة القرن الحادي والعشرين
طريق ثالث بين العقل والعاطفة

 
الإسرائيلي أهارون شبتاي: حكاية القصيدة الملعونة
 
مكتبة باريسية للمقاومة.. وحركات التحرير